التصنيفات » دراسات

الشرق الأوسط الجديد: حقبة عدم الوضوح *



أفرايم كام
نائب رئيس معهد دراسات الأمن القومي –
عميد سابق في الاستخبارات –
خبير في مشاكل الشرق الأوسط الأمنية، 27-4-2011


مدخل
من الصعب المبالغة في تقدير أهمية الزلزال الذي يجتاح الشرق الأوسط في الوقت الراهن. فهذا الزلزال يجتاح جبهاتٍ عديدة والجميع يشعر به حالياً، وسيكون له تأثير أكبر أيضاً في المستقبل في مجالاتٍ متعدّدة. لقد سقطت أنظمة؛ ومن المحتمل سقوط أخرى في المستقبل. ثمّة قوىً جديدة تطالب، وتبدأ بالحصول على حصّتها من السلطة، والتركيبة السلطوية في عددٍ من الدول تبدأ بالتغيّر في عدّة دول. وهذا التغيير ستكون له انعكاسات اقتصادية، وأسعار النفط في هذا المجال ارتفعت، على الأقلّ بصورةٍ مؤقّتة. والزلزال من شأنه أن يغيّر ميزان القوى بين دول الصفّ الأوّل في المنطقة، ولربّما أيضاً شبكة العلاقات فيما بينها، وسيؤثّر على مكانة الولايات المتحدة فيها. كما وستكون له انعكاساته على إسرائيل أيضاً وعلى علاقات السلام بينها وبين جيرانها.
هذا المقال يسعى للبحث في مغازي الأحداث الحاصلة في شتاء 2011 في الشرق الأوسط. وحيث إن المقال كتِب في بحر الأحداث أثناء وقوعها، والتي لا أحد يعرف كيف ستتطوّر، فمن الممكن تضمينه في أفضل الأحوال بعض الاتجاهات المحتملة – وذلك بالحذر المطلوب.
استقرار الأنظمة العربية
منذ عام 1970، تمتّعت الأنظمة العربية باستقرارٍ بارزٍ وظاهر. وخلال هذه الحقبة، لم يتمّ إسقاط أيّ نظامٍ عربيٍ ما خلا النظام في السودان، الذي أطيح به عام 1989 بانقلابٍ عسكري. وهذا الاستقرار ملفتٌ للنظر بشكلٍ خاصّ، لأنه منذ الأربعينيات وحتى العام 1970 شهدت الدول العربية موجة من الانقلابات العسكرية ومحاولات الانقلاب. ومنذ العام 1970، حتى عندما تمّ اغتيال قادة عرب بارزين مثل الملك فيصل في السعودية عام 1975 والرئيس السادات في مصر عام 1981، فإن أنظمتهم لم تواجه خطر الانهيار، والسلطة انتقلت إلى وارثيهم من دون أزمات. هذا الوضع شذّت عنه دولةٌ واحدةٌ في الشرق الأوسط، غير عربية وهي إيران، التي أسقطت الجماهير فيها عام 1979 نظام الشاه. إلاّ أن إيران ظهرت على أنها شاذّة عن القاعدة. ومنذ الثورة الإسلامية في إيران، مرّجيلٌ لم يشهد حدثاً كالحدث الإيراني في دولٍ أخرى.
استقرار الأنظمة العربية حتى شتاء 2011، كانت له عدّة أسباب. فالانقلابات العسكرية التي قادها الجيل السابق قد علّمت الأنظمة بأن مفتاح الإستقرار هو بيد الجيش: فإذا أيّد الجيش نظام الحكم، فسيكون بوسع هذا الأخير أن يواجه التهديدات الداخلية التي تعترضه بنجاح، والعكس بالعكس. ومن منطلق هذا المفهوم، طوّرت الأنظمة علاقتها بالجيش واهتمّت بمنح رجاله شروط خدمةٍ ذات أفضلية، وعرضت على قادته الكبار مواقع أساسية في المجالين الاقتصادي والسياسي إثر استقالتهم أو تقاعدهم. وفي قسمٍ من الدول العربية، كان الزعماء قادة سابقين في الجيش. وهذا الأسلوب أثبت نفسه: فمنذ عام 1970، أظهرت الجيوش ولاءها للأنظمة العربية، ما خلا السودان كما ذكرنا (وقتل السادات الذي تمّ على أيدي مجموعةٍ صغيرةٍ من الإسلاميين تسلّلت إلى الجيش). وحتّى أثناء الغليان الذي أدّى إلى إسقاط الشاه، بقي الجيش موالياً للنظام حتى اللحظة الأخيرة.
إلى جانب ضمان ولاء الجيوش، اتخذت الأنظمة تدابير ملموسة من أجل حماية نفسها. كان من أبرزها تشكيل قوىً عسكرية أخرى إلى جانب الجيش النظامي، كانت مهمّتها الأبرز والأهمّ الدفاع عن النظام وتشكيل ثقلٍ مضادٍ للجيش النظامي، الذي لم يثِق النظام عادة بولائه التام. وهكذا تشكّلت قوّات حرس الثورة في إيران، والحرس الجمهوري في مصر وسوريا والعراق والحرس الملكي في الأردن والحرس الوطني في السعودية. كما وبنت الأنظمة أجهزة أمنٍ داخليٍ فعّالة، قامت بملاحقة المشبوهين داخل الجيش وخارجه، وشكّلت قوّاتٍ للأمن الداخلي الهدف منها معالجة المظاهرات ومظاهر الغليان الشعبي المدني. وفي مقابل هذه الأدوات، باتت احتمالات قيام مؤامرةٍ عسكريةٍ ضدّ النظام ضئيلة جداً.
إلاّ أنه في حين حمت الأنظمة الإقليمية نفسها بشكلٍ فعّالٍ ضدّ أيّ مؤامرةٍ عسكرية، فإن تهديداتٍ داخلية أخرى أخذت بالظهور تدريجياً من اتجاهين؛ ففي الاتجاه الأوّل، نجد أنه في بعض دول المنطقة تزايدت علامات عدم الرّضى في صفوف الجماهير من شكل النظام وسياساته. وعدم الرّضى هذا نبع بشكلٍ خاصٍ من الوضع الاقتصادي والبطالة ومن أزمة السكن، لا سيّما في صفوف الشبّان. كما وانبثق الاستياء والمرارة أيضاً من القيود المفروضة على حرّية التنظيم والتعبير السياسيين ومن قمع حقوق الفرد. في بعض الأحيان، حصل غليانٌ جماعيٌ ضدّ النظام ممّا اضطرّه إلى استخدام قوّةٍ بوليسيةٍ ضد الجماهير الساخطة، مثلما حصل في مظاهرات الغذاء في مصر عام 1977 وعام 1986، والتي اندلعت إثر رفع سعر المواد الغذائية. وقد تمكّنت الأنظمة في كلّ هذه الحالات من قمع الغليان وكبته بسرعةٍ نسبية – الأمر الذي منحها الثقة بأنه سيكون بإمكانها مواصلة احتواء الوضع. الاحتجاج الأبرز حصل بشكلٍ خاصٍ في إيران في شهر حزيران 2009، في أعقاب تزوير نتائج الانتخابات الرئاسة ممّا اضطرّ النظام إلى استخدام قوّاتٍ كبيرةٍ من أجل قمع الغليان.
تهديدٌ من نوعٍ آخر ظهر أيضاً من تزايد قوّة الحركات الإسلامية خلال العقدين الأخيرين في بعض دول المنطقة. حتى الآن، لم تصل حركات إسلامية لتولّي السلطة في أي من الدول العربية، إلاّ أنها تفرض تهديدها لبعض الأنظمة العربية. يُضاف على ذلك أنه في إيران يحكم نظامٌ إسلاميٌ أصولي؛ وفي تركيا، وصل إلى الحكم من خلال انتخاباتٍ ديموقراطيةٍ حزبٌ ذو جذورٍ إسلامية؛ وفي قطاع غزة، استولت حماس على السلطة بانتخاباتٍ ديموقراطيةٍ أيضاً. كذلك في الجزائر، كادت حركة إسلامية راديكالية أن تصل إلى السلطة في أعقاب انتخابات 1992؛ إلاّ أن الجيش كبحها بالقوّة، وبالتالي تسبّب بنشوب حربٍ أهليةٍ قاسيةٍ وطويلةٍ في الدولة.
إن خوف الأنظمة العربية من تنامي قوّة الحركات الإسلامية قد أسهم في معارضتها لأيّ إصلاحاتٍ سياسية. وبعضٌ منها بادر في بعض الأحيان إلى توسيع نطاق بعض الحرّيات السياسية، خاصّة بعد التعرّض لضغوطاتٍ من قِبل الإدارة الأميركية. إلاّ أن أياً منها لم يطوّر خطّة منهجية طويلة الأمد، تهدف إلى إرساء القاعدة الأساس المطلوبة لقيام مجتمعٍ ديموقراطي. وكانت حجّتها أن المجتمع العربي لم ينضج بعد لإقامة أنظمةٍ ديموقراطيةٍ ذات طابعٍ غربي، وإن الانفتاح السريع أكثر من اللزوم وقبل الأوان للقوى السياسية سوف يؤدّي إلى سيطرة جهاتٍ متطرّفة عليه – وخاصّة الحركة الإسلامية.
انفجار الغليان (تونس ومصر وإيران وسوريا والأردن وليبيا واليمن ودول الخليج والسعودية البحرين):
خلاصة ومغاز أوّلية
من السمات البارزة للزلزال الذي يجتاح منطقة الشرق الأوسط، سمة عدم الوضوح، التي سترافق المنطقة في المرحلة المقبلة – عمق ووسع الزلزال غير معروفين. ومن غير المعروف أيضاً من هي الأنظمة التي ستسقط وما هي الأنظمة التي ستنجو. وبالنسبة للأنظمة التي سقطت أو التي ستسقط، من غير المعروف ما هو اتجاه سقوطها، وما هو النظام الذي سيحلّ محلّها. بعض الزعماء لا يعرفون أنفسهم ما إذا كانوا سيصمدون في أماكنهم حتى العام المقبل، ومن هم الزعماء الذين سيكونون في جوارهم. من هنا، تنبثق أسئلةٌ وأجوبةٌ كما يلي: هل من الممكن أن تقوم ديموقراطيةٌ حقيقيةٌ في قسمٍ من دول المنطقة؟ وكيف ستكون عليه السياستان الخارجية والأمنية الخاصّة بالأنظمة الجديدة، بما في ذلك علاقاتها بالولايات المتحدة وإسرائيل؟ هل ستنشأ روابط أو خصوماتٌ جديدةٌ بين دول المنطقة؟ هل سيتمكّن الإسلام الراديكالي من استغلال الزلزال في المنطقة من أجل الوصول إلى مواقع قوّةٍ مفصليةٍ في المنطقة؟ كم من الوقت ستدوم فترة الزلزال إلى حين الوصول إلى استقرارٍ جديد.
إن عدم الوضوح هذا سيُلزِم الدول المعنيّة بالأمر – ومن ضمنها الدول الرائدة في المنطقة وأيضاً الولايات المتحدة – بالتخطيط لسياساتها الإقليمية ضمن ظروفٍ متفاقمةٍ من عدم الوضوح.
على الأرجح، يبدو أن التغيير الذي طرأ حتى الآن في دول المنطقة يبقى ضمن حدودٍ ضيّقةٍ وجزئية. فسلطة مبارك أسقِطت، لكن سلطة الجيش التي أتت من بعده لا تبدو مختلفة في جوهرها عن سابقتها، وهي لا تمثّل انقلاباً حقيقياً. والسلطة في تونس أسقِطت، لكن السلطة التي حلّت محلّها هي أيضاً لا تؤشّر إلى وجود انقلاب. وفي كلّ الأحوال، لا تشكّل تونس دولة عربية مركزية. صحيحٌ أنه توجد أنظمة عربية أخرى تواجه حالة زعزعة، إلا أنها حتى الآن تستمر في الوجود من خلال دمجها ما بين استخدام القوة والتنازلات المحدودة. إلاّ أن التغيير المحدود، الظاهر على السطح حتى الآن، لا يجب أن يخدعنا – فالتغيير هو تغييرٌ حقيقيٌ وواقعي. وموجة الاحتجاج التي انفجرت في أغلب الدول العربية وفي إيران إنما تدلّ على أن ملايين البشر في المنطقة يريدون التغيير في طابع الأنظمة الحاكمة والمسيطِرة. وهذه الجماهير حطّمت حاجز الخوف وأصبحت واثقة بقدرتها على التغيير. كما وأن الأنظمة لم يعد بمقدورها الافتراض بأن الجيش سيحميها، وهي تفهم أيضاً مدى القوّة الكامن لدى الجماهير. وهذه المعرفة تحتّم عليها ممارسة القوّة في بعض الأحيان من أجل الدفاع عن سلطتها، لكن جنباً لجنب مع القيام بإجراءاتٍ لتهدئة العواصف: التنازل عن صلاحيات، توسيع صلاحيات البرلمان، حرّية التعبير، ومحاولة تحسين الوضع الاقتصادي. وطالما اعتُبِرت كلّ هذه التغييرات غير كافيةٍ في نظر المتظاهرين، فإن الاحتجاج لن يخبو من تلقاء نفسه، على الأقلّ في بعض الدول المحدّدة. وحتى لو خبا، فإن من شأنه أن يعود للاشتعال مرّة أخرى بعد مرور بعض الوقت. ولقد ثبت وجود علاقةٍ وتأثيرٍ متبادلٍ بين أمواج الغليان في الدول المختلفة. ونجاح المتظاهرين بإسقاط النظام في مصر، الذي بدا مستقراً، من شأنه أن يحفّز ويسرّع نشاط الجماهير الغاضبة في دولٍ أخرى. ونسبة نجاح المطالبين بالتغيير في دول أخرى ستكون مرتبطة كثيراً بإصرارهم غير المتوقّف وغير المنكفئ، وبالقيادة الموجودة لدى الطرفين المتصارعين، وأيضاً بإصرار الأنظمة على الدفاع عن نفسها. يُضاف إلى ذلك أن الأنظمة التي ستنجح فيها حركات الاحتجاج قد تمرّ في حقبة عدم استقرار. والأنظمة التي ستقوم في المرحلة الأولى على أنقاض النظام القديم لن تكون بالضرورة هي الأنظمة التي ستدوم لفترةٍ طويلةٍ من الزمن. ومن شأن قوىً سياسيةٍ جديدةٍ قد تظهر على المسرح أن تغيّر من الأنظمة المقبلة. وإذا لم تفِ الأنظمة الجديدة بما هو متوقّع منها من قِبل طالبي التغيير، فمن المحتمل أن تُستبدل بأنظمةٍ بديلةٍ ربّما أكثر راديكالية منها.
وحيث أن الزلزال لا يزال في أوجه، فمن المحتمل رسم بعض السيناريوهات بخصوص حجم التحوّلات وعمقها للمستقبل:
1 – السيناريو الأوّل هو أن التغييرات ستتوقّف في الوضع الراهن أو في وضعٍ مماثل؛ أي أنه سيكون من المحتمل قيام مظاهراتٍ وأعمال عنفٍ محدودةٍ أخرى خلال المرحلة القريبة المقبلة. بل وسيكون بوسع الأنظمة العربية الصمود من خلال تنازلاتٍ سياسيةٍ ضئيلةٍ تستجيب لمطالب الجماهير المعارِضة. وسيكون مغزى هذا السيناريو أن الشرق الأوسط المعروف سيواصل وجوده مبدئياً حتى بعد سقوط نظام مبارك، وأن مسار الدمقرطة سيبقى محدوداً. وفي هذا الوقت، يبدو احتمال سريان هذا السيناريو وسطياً.
2 – في سيناريو مناقض، نفترض سقوط أنظمةٍ أساسيةٍ في منطقة الشرق الأوسط – في السعودية و/أو إيران. وسقوط أحد هذين النظامين سيؤدّي إلى تغييرٍ استراتيجيٍ في المنطقة. وسقوط النظام في طهران سيؤدّي إلى تقليص التهديد الإيراني إلى حدٍ كبير، وإلى فتح باب التفاهم بين النظام الجديد والولايات المتحدة وربّما فيما بعد مع إسرائيل أيضاً. وسقوط النظام في السعودية في أيدي جهةٍ راديكاليةٍ معيّنة، سيؤدّي إلى توجيه ضربةٍ قاسيةٍ للولايات المتحدة وسائر القوى المعتدلة في المنطقة وسيشكّل تهديداً لها. وضمن الظروف القائمة حالياً، يبقى هذا الاحتمال ضعيفاً.
3 – السيناريو الوسطي هو أن الغليان سيتواصل، وسيؤدّي إلى تبديل المزيد من الأنظمة مثل ليبيا واليمن أو في دول الخليج الصغيرة. وهذ الوضع لن تكون له سوى تأثيرات محدودة على المنطقة. إلاّ أنه توجد أنظمة ذات تأثيرٍ بارز، ومن ضمنها الأنظمة في سوريا والأردن بل، وحتى البحرين. من الواضح أن تغيير النظام في الأردن ستكون له تأثيرات سلبية على علاقات السلام مع إسرائيل. وتغيير النظام في سوريا من شأنه على الأقلّ فتح احتمالاتٍ جديدةٍ للتفاهم مع الولايات المتحدة وربّما أيضاً مع إسرائيل. ومن ناحيةٍ أخرى، من الصعب توقّع أن يقوم النظام الجديد بتليين مواقفه من مسائل التسوية مع إسرائيل، ولا بدّ من أن نأخذ بالحسبان أن نظاماً كهذا سيكون أكثر عدوانية تجاه إسرائيل من النظام الحالي. وفي كلّ الأحوال، من الواضح أن استئناف التفاوض بين إسرائيل وسوريا لن تقوم له قائمةٌ طالما استمرّ الغليان في سوريا، ولم تتّضح هوية النظام الذي سيحكم فيها. وسيناريو سقوط أنظمةٍ كالنظام الليبي أو اليمني يبدو حالياً مرجّحاً أكثر ممّا هو عليه بالنسبة للنظامين السابقين (سوريا وإيران).
ثمّة أمرٌ مهمٌ أيضاً في هذا المجال، هو مدى عمق التغيير. فقد يؤدّي الزلزال الراهن في المنطقة إلى مساراتٍ ديموقراطية، حتّى لو كانت جزئية ومحدودة. ومن الممكن الافتراض بأن الأنظمة السياسية في عددٍ من الدول العربية ستكون أكثر انفتاحاً. وأغلب الأنظمة العربية وعدت بإصلاحاتٍ سياسية، بعضٌ منها جوهري والآخر سطحي، بما في ذلك قضيتا الحرّية السياسية وحرّية التعبير. إلاّ أن التوجّه نحو الدمقرطة سيصطدم بعقباتٍ كأداء وصلبة: عدم رغبة الأنظمة في فتح المجالات بأحجامٍ حقيقية، وتضارب المصالح بين مجموعات القوى، وانعدام وجود مساراتٍ وقِيمٍ يكون بمقدورها تشكيل قاعدة لديموقراطيةٍ حقيقية.
إن إقامة أنظمةٍ ديموقراطيةٍ حقيقيةٍ من شأنه أن يشكّل النتيجة الأفضل بالنسبة للدول العربية، وأيضاً بالنسبة للعالم الغربي وإسرائيل. فالأنظمة الديموقراطية من شأنها أن تستجيب لأغلب تطلّعات الجماهير في الدول العربية. وإن أنظمة كهذه من شأنها أن تخفّض من قيمة وأهمية ووزن الحركات الإسلامية الراديكالية؛ وبالتالي، من أهمية ووزن القاعدة الإرهابية في المنطقة. وصعود مثل هكذا أنظمةٍ من شأنه أن يسهم في تطوير التفاهم بين العالم العربي والولايات المتحدة والعالم الغربي؛ وبالتالي، ربّما عن طريقها أيضاً، يحصل تفاهم حقيقي بين الدول العربية وإسرائيل. إلاّ أننا سبق وذكرنا بأن احتمال إقامة ديموقراطياتٍ ليبراليةٍ على غرار ما هو قائمٌ في الغرب، هو احتمالٌ ضئيلٌ خلال السنوات المقبلة على الأقلّ، على ضوء الحواجز التي ستعترض سبيلها.
الخوف القائم في الغرب وإسرائيل ليس من دمقرطة العالم العربي، بل من السيناريو الآخر المناقِض؛ أي من الأسلمة على طريقة إيران، ومن احتمال تسلّم الحركات الإسلامية زمام الحكم من طريق الانتخابات، وأيضاً من أن القوى التي أدّت إلى تعزيز قوّة الحركات الإسلامية في المنطقة على مدى العقدين الأخيرين ربّما كانت هي الأخرى أقوى من دعاة الديموقراطية. وهكذا بدا على سبيل المثال، في تحليلٍ منطقيٍ أميركي، إن أفضل شيءٍ يمكن أن يحصل بالنسبة لسكّان غزة في مطلع العام 2006 هو انتخابٌ ديموقراطيٌ لسلطةٍ معتدلةٍ تحافظ على وحدة الشعب الفلسطيني وتبني القطاع في أعقاب انسحاب إسرائيل منه؛ وربّما سعت لإقامة علاقاتٍ وطيدةٍ معها. إلاّ أن هذا التوقّع لم يحصل. وبالتالي، فإذا صعدت أنظمة إسلامية راديكالية إلى سدّة الحكم في بعض الدول العربية المركزية، أو في دولٍ لها علاقة بمسار السلام الإسرائيلي - العربي، فهذا الأمر سيغيّر وجه المنطقة. فالأنظمة الأصولية ستهدّد الأنظمة العربية التي ستبقى معتدلة، وستعزّز من موقعية إيران الإقليمية وسُتلحق الأذى الفادح بالعلاقات السلمية وبالمسار السلمي الإسرائيلي - العربي، وستؤدّي إلى زيادة حجم المخاطر الاستراتيجية على إسرائيل، وتلحِق الضرر بمصالح الغرب، ولاسيّما مصالح الولايات المتحدة ومكانتها الإقليمية.
إن من شأن الزلزال أن يغيّر ميزان القوى الإقليمي. وقسمٌ من زعماء الدول العربية – الجدد أو الذين سيستمرّون في الحكم – من شأنهم أن يكونوا أكثر ضعفاً. وفي كلّ الأحوال، سيُطلب منهم التركيز على الشؤون الداخلية لديهم وتثبيت أوضاع حكمهم. وإذا حصل هذا الأمر، فسيعني ضعف العالم العربي، واستمرار الهيمنة الإيرانية والتركية على المنطقة. وفي هذا الوضع، قد تفقد مصر ريادتها للمنطقة. وهي حتى الآن كانت قائدة المعسكر العربي المعتدل، وكانت الحليفة الأولى والأفضل للولايات المتحدة وقائدة جبهة النضال ضدّ إيران وضدّ الجهات الراديكالية والإرهاب. وبالتالي، فإن قدرتها على القيادة قد تنهار إذا كان مطلوباً منها تركيز كلّ مواردها في الشؤون الداخلية. وهنا يُطرح السؤال: هل سيكون هناك تقاربٌ في العلاقات المصرية - الإيرانية في حال تحوّل الأخوان المسلمون إلى عاملٍ مركزيٍ في السلطة الجديدة.
إن الضعف المتوقّع الذي قد يلحق ببيعض الأنظمة العربية من شأنه أن يترك آثاره في مجال الإرهاب. ومنذ الآن، توجد في الشرق الأوسط وحواشيه بعض الأنظمة الضعيفة التي لا تسيطر على ما يجري لديها بصورةٍ كافية، وقسمٌ منها تحوّل إلى دفيئةٍ تنمو فيها المنظمات الإرهابية والميليشيات المسلّحة، على غرار القاعدة وتفرّعاتها. والنماذج الأبرز في هذا المجال هي أفغانستان وباكستان والعراق والصومال ولبنان. والضعف المحتمل لبعض الأنظمة العربية الأخرى قد يوسّع إطار هذه الظاهرة في دولٍ مثل اليمن وليبيا.
إذا لم يؤدّ الزلزال الإقليمي في نهاية المطاف إلى إلحاق الأذى بالنظام الإسلامي في طهران وبحلفائه في دمشق وغزة، فإن من شأن إيران أن تتحوّل إلى واحدةٍ من أكثر الرابحين منه. وإيران منذ الآن تُبدي ارتياحها من الزلزال الذي يجتاح دول المنطقة؛ كما وثمّة عدّة احتمالاتٍ أخرى يمكن أن تكون لصالحها مثل: انخراط الأخوان المسلمين في السلطة في مصر، تراجع العلاقات المصرية - الإسرائيلية والمصرية - الأميركية، تحسّن وضع حماس، حصول تغييرٍ في السلطة في البحرين، وتداعي الأوضاع الداخلية في دولٍ عربيةٍ معتدلةٍ أخرى، تراجع مكانة الولايات المتحدة الإقليمية.
الإدارة الأميركية من جهتها تتوقّع تعزيز مكانتها في المنطقة في حال تسارع مسار الدمقرطة في منطقة الشرق الأوسط. إلاّ أن هذا المسار كما هو معلومٌ قد يكون طويلاً؛ ولا شيء يؤكّد بأنه سيتقدّم حسبما هو مرغوبٌ فيه. وفي هذه الأثناء، فإن احتمال أن تغرق مصر والدول العربية المعتدلة في إعادة تأسيس أنظمة حكمها واحتمال تراجع العلاقات المصرية - الأميركية واحتمال أن تكون إيران أكثر المستفيدين من الزلزال، من شأنها كلّها أن تُلحِق الأذى بمكانة الولايات المتحدة الإقليمية. كما أن حقيقة أن الإدارة الأميركية لم تقف إلى جانب حسني مبارك في وقت المحنة، من شأنها أن تقضم من صدقيّة الولايات المتحدة.
إن إسرائيل لا تملك أيّ إمكانيةٍ للتأثير على التطوّرات في الدول العربية؛ بل ومن شأنها أن تتضرّر من المتغيّرات في المنطقة. إن تطوّر مسارٍ ديمقراطيٍ حقيقيٍ في الدول العربية سيكون لصالح إسرائيل، ومن شأنه على المدى البعيد أن يساعد على التفاهم بين إسرائيل والعالم العربي. إلاّ أن مثل هذا الهدف كما ذكرنا لا يزال بعيداً وغير مضمون. ومن خلال انتخاباتٍ ديمقراطية، قد يتولّى السلطات جهاتٌ إسلاميةٌ معاديةٌ لإسرائيل. وفي وضعٍ كهذا، قد تتضرّر علاقات السلام مع مصر والأردن ومكانة الولايات المتحدة الإقليمية قد تتراجع، وأوضاع النظام الإيراني وحماس قد تتحسّن إلاّ إذا طاولتهما عملية الدومينو. والخوف الأساسي هو من احتمال تفريغ اتفاقات السلام مع الدولتين العربيتين من محتواهما، بما في ذلك التعاون مع مصر ضدّ حماس. إن احتمال قيام النظامين في مصر والأردن بإلغاء اتفاقات السلام مع، هو احتمالٌ ضئيل؛ كما وأن احتمال رجوع مصر إلى طريق الحرب مع إسرائيل منخفضٌ جداً. إن من شأن الزلزال الإقليمي أن يلحِق الضرر أيضاً بمسار السلام مع الفلسطينيين. وبالإضافة إلى كلّ المعوقات التي تؤخّره بطبيعة الحال، فإن إسرائيل ستجد نفسها أمام مأزق: هل تمتنع عن اتخاذ قراراتٍ جوهريةٍ طالما لم تتّضح بعد الوجهة التي ستنحو نحوها المنطقة، وخاصّة علاقات السلام مع مصر والأردن، أم أن عليها محاولة تحسين علاقاتها مع المعسكر العربي المعتدل من طريق اتخاذ مبادراتٍ جديدةٍ على طريق السلام. وهذا المأزق يزداد حرجاً إذا أضفنا إليه السؤال: هل إن الزلزال سيُلحِق الضرر أيضاً بالسلطة الفلسطينية ويوقظ الشكوك في إمكانية أن تستطيع الوفاء بالاتفاقات، خاصّة إذا أدّى الغليان في المنطقة إلى تعزيز قوّة حماس؟ من ناحيةٍ أخرى، وبالعكس، إذا أدّى الغليان إلى زعزعة سلطة حماس في غزة، فمن المحتمل أن تنفتح إمكانيات جديدة للتفاهم مع السلطة الفلسطينية.
*ترجمة مركز باحث للدراسات

2011-06-06 12:23:03 | 1883 قراءة

التعليقات

الإسم
البريد الإلكتروني
عنوان التعليق
التعليق
رمز التأكيد
مركز باحث للدراسات الفلسطينية والاستراتيجية