التصنيفات » دراسات

نيوت جينجريتش واسكات التاريخ الفلسطيني

أحمد الدبش*

لقد ابتلعنا الطُعم وصدّقنا شعار "أرضٌ بلا شعب لشعبٍ بلا أرض"
(ديريك كوهين ـ أستاذ الأدب الإنجليزي في جامعة "يورك" الكندية)
"الكيان الصهيوني طفل اللقيط، جاء نتيجة اغتصاب
أرض فلسطين، وحقوق سكانه".
(شلومو ساند ـ تصريح صحفي)

وصف "نيوت جينجريتش " المرشح الأوفر حظا للفوز بترشيح الجمهوريين لانتخابات الرئاسة الأميركية بان الفلسطينيين "مجموعة إرهابيين وشعب تم اختراعه".
هذه التصريحات، تعيد الى الذاكرة  حرص الحركة الصهيونية على ترويج الكثير من الأكاذيب والأباطيل في سعيها لتسويغ اغتصابها بلادنا فلسطين. وقد استندت الرواية الصهيونية إلى صياغة معلمنة لرؤية الكتاب المقدس القائلة بأن فلسطين هي أرض الميعاد والأرض المقدَّسة، وأن اليهود هم الشعب المقدَّس، ومن ثم فالشعب المقدَّس لابد أن يعود للأرض المقدَّسة. وصور الصهانية وجود الشعب الفلسطيني في أرضه على أنه وجود عابر، وكان مجرد صدفة. ووصل الأمر إلى حد نكران وجود الشعب الفلسطيني على أرضه، وقد تجسد ذلك في مقولة:"أرض بـــــلا شــــــعب لشــــــعب بــــــلا أرضA Land without a People for People without a Land  ".
  ولعل أول من قام بعلمنة الصياغة هو "اللورد شافتسبري" ــ أحد أبرز قادة حركة تأسست في لندن سنة 1840، فقد عارض اندماج اليهود في المجتمع الإنجليزي، لأن عليهم أن يظلوا غرباء في كل البلدان عدا فلسطين، حيث إنه كان مؤمناً بضرورة قيام دولة يهودية في فلسطين تحقيقاً للنبوءات التوراتية، وقد جاء في مذكراته، حيث رد بنفسه على تساؤل عن القوة التي يمكن إعطاؤها فلسطين، وهل ستكون أمريكا أم إحدى دول الشرق؟ فنفى بشدة هذا الاحتمال. بقوله: "هناك بلد بلا شعب، والله يفرضها الآن بحكمته ورحمته نحو شعب بلا وطن".وقد تبنى الصهاينة فيما بعد هذه الجملة، وأصبحت أول الشعارات الصهيونية، كالآتي: "أرض بلا شعب، لشعب بلا أرض".
وقد تكرر هذا الشعار كثيرا على لسان "جولدا مائير"، في تصريحها لصحيفة ـ الصنداي تايمز، 15 حزيران / يونيه 1969 ، قائلة:" لا يوجد شعب فلسطيني ... و هذا لا يعني أننا في طريقنا لوضعهم في الميناء , وأخذ أراضيهم ... إنهم غير موجودين".
أما "موشي دايان"، في تصريحه لصحيفة ـ جيروزاليم بوست، 10 آب/ أغسطس 1967 ــ قال:"عندما يكون لدينا التوراة , و عندما نعتبر أنفسنا شعب التوراة, سيكون من حقنا أن نمتلك الأرض التوراتيه, أرض الحكماء القضاة و أنبياء القدس و أريحا و أماكن أخرى". وقد صرح "بيجن"، في اوسلو ــ صحيفة دافار، 12 كانون أول / ديسمبر  1978ــ "لقد وعدنا بهذه الأرض و لنا حق فيها .... ان أرض اسرائيل الكبرى ستعود الى شعب اسرائيل كلها و للابد". أن تفنيد هذه المزاعم يستوجب العودة للتاريخ، وتعقب الوجود الإنساني على هذه الأرض.
البدايات:
لم تكن عراقة فلسطين بمسألة طارئة عليها، وإنما ارتبطت بأصل تكوينها فالحفريات تشير إلى أن: "الإنسان وجد في فلسطين منذ أقدم العصور، وأنه عاصر أقدم النماذج البشرية " ( )
     
بالرغم من ذلك فإننا لم نعثر في بلادنا فلسطين، حتى الآن على آثار لإنسان الهوموهابيل، ولحضارة الحصى المعروفة من شرق أفريقية، والمؤرخة على عصر البليستوسن الأدنى ويري الباحث زيدان كفافي، أن دلائل وجود الإنسان في بلاد الشام عامة، وفلسطين خاصة، تعود إلى حوالي المليون ونصف المليون عام ( )
أما "د. سلطان محيسن": فيذهب إلى أن أقدم آثار الإنسان في بلاد الشام - وبالطبع فلسطين - تعود إلى العصر الحجري القديم الأدنى، الذي بدأ هنا منذ حوالي مليون سنة، واستمر حتى حوالي (100.000) سنة خلت وهذا العصر يرادف ما يسمى في أوروبة بالحضارة الآشولية، ذات الانتشار العالمي الواسع والتي اشتهرت بتصنيع الفؤوس اليدوية بخاصة، لقد سكنت منذ بداية هذا العصر بعض مناطق سورية، ولبنان، وفلسطين، من قبل إنسان "الهومواركتوس" الذي وصل بلاد الشام قادمًا من الجنوب من القارة الأفريقية، ويستطرد د. محيسن قائلا: أن انتشار المواقع وتتابعها الزمني يدل على أن "الهومواركتوس"، سلك في طريقه إلى بلاد الشام خطين اثنين، يشكلان ممرات طبيعية بين أفريقية وآسيا، الأول ساحلي، أي على امتداد ساحل البحر الأبيض المتوسط، والخط الثاني داخلي على طول الإنهدام السوري الأفريقي أو الأخدود الأفريقي العظيم الممتد من جنوب وشرق أفريقيا مرورًا بالبحر الأحمر فوادي الليطاني، وحتى نهر العاصي في سورية شمالاً ( )
فقد كشفت "دورثي غارود" عن وجود مصنوعات حجرية ترقى إلى الزمان المطير الأول الذي يعود إلى مليون سنة ونيف، وذلك في مغارة الطابون (التنور) في جبل الكرمل، وأن الأدوات المكتشفة في هذا الموقع سابقة لأمثالها في أوربة وأفريقية وأن عددها يتجاوز الأربعين ألفا ( )
ووجدت متحجرات بشرية في تل العبيدية، بالقرب من الساحل الجنوبي لبحيرة طبرية بفلسطين، وكانت عبارة عن قطع لجمجمتين وسنًا واحدًا، وبالرغم من أن الآلات الحجرية التي وجدت مع هذه المتحجرات العظيمة المهشمة بفلسطين، تشبه الآلات البدائية التي وجدت في مواقع القرد البشري الجنوبي في أفريقية، فهناك بعض الشك في معاصرة الهيكل العظمي الذي وجد في تل العبيدية للرواسب التي وجدت فيها ( )
وفي ذلك يقول العالم الأثري "فرنسيس أور"، أنه وجد ترسبات معقدة حصلت على دورتين وكل دورة على مرحلتين، حدثت فيها ترسبات مستنقعية وبحيرية، وأسميت (LI,FI,Lu,Fu)، واحتوت بقايا إقامة بشرية طويلة وجدت آثارها على امتداد طبقات مختلفة هذا الموقع بكامله، اعتبر سابقا للانتقال القطبي المغناطيسي (ماتويام/ بونه) مما يعطيه عمرًا يناهز المليون سنة، وذلك للقسم الأعلى من ترسباته، إن الجديد والأكثر أهمية هو ربما أرضية السكن التي يجب أن تؤرخ إلى حوالي (1.200.000) سنة ( ) ويذكر "د. سلطان محيسن" أن جماعات العبيدية الأولى، قد تغذت من صيد الفيل، والحصان، والوعل، والغزال، وفرس الماء، كما التقطت ثمار الزروع، والعظم، واللوز، وغيره( )
أقدم الهياكل العظيمة البشرية:
في مطلع العصر المطير الرابع والأخير، المعاصر للعصر الجليدي الأخير فيرم في أوروبة، دخلت مجتمعات ما قبل التاريخ مرحلة جيدة بين حوالي (35.000 - 100.000) سنة خلت، ويطلق عليها اسم العصر الحجري الأوسط أو الباليوليت الأوسط، في هذه المرحلة ظهر نوع جديد من البشر هو "إنسان النياندرتال"، حاملاً معه حضارة جديدة - وهي الحضارة الموستيرية، أو اللفلوازية - الموستيرية كما أطلق عليها البعض في بلاد الشام.
لقد اختفى الموزاييك الحضاري، الذي ساد في العصر السابق وتوارى "الهومواركتوس" تاركًا المسرح لخلفه "النياندرتال"، وقد جاءت هذه التسمية نسبة إلى وادي نياندر في ألمانيا فقد عثر على هياكل بشرية من نوع نياندرتال في جبل الكرمل ما بين عامي 1924 - 1929، وذلك في كهفين كهف الطابون وكهف السخول، وكان ذلك تحت إشراف الدكتورة دورثي غارود، وقد درس هذه الهياكل الأستاذان ماك كاون وكيث، عام 1939، كما تناولها زوينر من ناحية تقدير عمرها عام 1959، ويرى زوينر أن هياكل الطابون ترجع إلى آخر فترة غير جليدية، بينما هياكل السخول إلى أوائل الفترة الجليدية الأخيرة (فيرم1).
وتبدو جماجم الطابون أقل غلظة من جماجم نياندرتال أوروبة، ولكنها مثلها تفتقر إلى الذقن، وذات حواف عظيمة بارزة فوق العينين، ولو اقتصر الأمر على هذه الجماجم لاكتفى بوضعها في نطاق النياندرتال، إلا أن بعض جماجم السخول أقرب شبهًا إلى الإنسان الحديث فهي ذات جبهة واضحة، وإن كانت عظام الحاجبين فوق العينين لا تزال غليظة، إلا أنها مقسمة في الوسط كما نرى في الإنسان الحديث، فهي إذن لا تختلف كثيرًا عن عظام الحاجبين لدى الأوروبيين الحديثين أو الاستراليين الأصليين، ويضاف إلى هذا أن مؤخرة الجمجمة مستديرة، وليست مدببة، وهي في هذه الصفة شبيهة جدا بجمجمة الإنسان الحديث، كما أن للجمجمة عظمة ذقن لا شك فيها، وعظام الوجه دقيقة وليست غليظة ( )
والذي يلفت النظر بشكل خاص في بعض هياكل جبل الكرمل أنها تظهر بعض الصفات التشريحية التي للإنسان الحديث، وتشير نتائج الأبحاث الحديثة جدا إلى وجود محتمل للإنسان العاقل في فلسطين منذ حوالي (100.000) سنة خلت، كما دلّت على ذلك هياكله في جبل قفزة نفسه، وإذا علمنا أن هياكل جديدة نياندرتالية من مغارة الكبارا في فلسطين أُرِّحت على حوالي (60.000) سنة، لأدركنا أنه يمكن طرح نظرية جديدة تقول بأن الإنسان العاقل وجد في بلادنا فلسطين قبل النيادندرتال بزمن طويل، ولم يكن متطورًا عنه، وأن هذا النياندرتال ربما أتى من أوروبة أو غيرها، ولكن لابد من المعلومات حتى نصبح أقرب إلى الحقيقة( )
طرح بعض الباحثين فرضا آخر، هو أن الإنسان العاقل (الحديث) ومنه جماجم الكرمل، وإنسان نياندرتال، كانا متعاصرين، وربما كان شرقي البحر المتوسط مكانا ملائما لظهور الإنسان العاقل (الحديث)، جنبًا إلى جنب مع إنسان النياندرتال( )
هل الإنسان العاقل أصله فلسطيني:
لكن ما هو "نوع" الإنسان الذي ننتمي نحن إليه؟ إنه ذلك النموذج الفيزيقي، الذي يطلق عليه في العادة اسم "الإنسان العاقل"، إن كل المعطيات المتوفرة لدينا، حتى الآن، تدل على أن الإنسان العاقل كان النوع الإنساني الرابع والأخير في عصور ما قبل التاريخ، لقد ظهر هذا الإنسان منذ حوالي 40 ألف سنة أي في العصر الحجري القديم الأعلى (الباليوليت الأعلى)، ولكن من أين أتى الإنسان العاقل... ؟ لقد بدأت خيوط اللغز تتجمع الآن.
لقد أدت الاكتشافات المتزايدة، ومنذ مطلع هذا القرن، إلى تباين الآراء حول إنسان النياندرتال، ففي حين يعتقد بعضهم بأنه قد تطور نحو الإنسان العاقل الحالي، يقول آخرون بانقراضه دون خلف، ويعتبرونه فرعًا جانبيًا على هامش العملية التطورية.
يعتمد أنصار تطور النياندرتال على المكتشفات التي أتت من فلسطين، حيث وجدت في الكثير من المغاور - مثل مغارة السخول، والأميرة، والطابون والزطية، في جبل الكرمل، ومغارة جبل قفزة قرب الناصرة، ومغارة العامود بجوار بحيرة طبرية - عدة هياكل عظيمة بشرية لها صفات فيزيولوجية مشتركة بين الإنسان العاقل، مثل حجم الدماغ الكبير، حوالي (1500 سم3)، والقامة الطويلة (170 - 180) سم، بالإضافة إلى الذقن البارزة وهذا كلها صفات متطورة حملها الإنسان العاقل، وقد رافقت تلك الهياكل أدوات حجرية بينها نصال متطورة أيضًا استخدمها الإنسان العاقل بكثافة، فيما بعد.
كل ذلك يشير على أن النياندرتال قد تحول في فلسطين بشكل تدريجي نحو الإنسان العاقل، ومن جهة أخرى، فإن أنصار نظرية انقراض النياندرتال يستندون على معطيات أتت من غرب أوروبة من بعض المواقع في فرنسا (فونتوبشوفاد)، وألمانيا (شتاين هايم)، وإنجلترا (سوانسكومب)، التي وجدت فيها هياكل عظيمة لا تحمل صفات مشتركة بين النياندرتال، والإنسان العاقل؛ مما دفع إلى الاعتقاد بأن النياندرتال لم يكن السلف المباشر للإنسان العاقل، وإن كان هذا الأخير حمل صفاته، وأن هذا السلف كان الهومواركتوس، بدليل انتقال صفات هذا الإنسان إلى الإنسان العاقل، كما ظهر في عدة مناطق من أوروبة وأفريقية.
هكذا، فإن الإنسان العاقل يكون قد تطور من الهومواركتوس، دون أن يمر بمرحلة النياندرتال، ويكون كل من النياندرتال، والإنسان العاقل فرعين مستقلين تطورا عن الهومواركتوس، الفرع الأول - أي أن النياندرتال، انقرض بينما تابع الفرع الثاني، وهو الإنسان العاقل طريقة التطوري، والواقع أننا مازلنا بعيدين عن البت النهائي في هذا الموضوع، لاسيما، وأن المكتشفات قليلة، والتفسيرات النظرية أكثر مما يحتمل واقع تلك المكتشفات، لأننا إذا قبلنا نظرية انقراض النياندرتال، فليس لدينا دليل قاطع على السبب، هل هو تغير مناخي مدمر، وكوارث طبيعية، أم وباء شامل، أطاح بهذا الإنسان، أم مذابح جماعية نفذها العاقل أدت إلى مسح إنسان النياندرتال المسالم في طبيعته عن الوجود، كما يقول بعضهم؟ ولكن يصعب علينا قبول هذا الافتراض الأخير، لسبب بسيط وهو أننا لم نعثر حتى الآن على آثار مثل تلك المذابح، بل إننا نجد أية هياكل عظيمة نياندرتالية قتل أصحابها بأدوات الإنسان العاقل، في ضوء ذلك كله يمكن أن نفترض أن كلا من إنسان نياندرتال، والإنسان العاقل، كانا وثيقي الصلة ببعضهما، وربما تعايشا معًا، لزمن قصير أو طويل قبل أن يسود النوع الأكثر تكيفًا، والأفضل، وهو الإنسان العاقل، ومهما يكن، فلابد لنا أيضا من قبول الحقيقة الراهنة على الأقل، وهي أن النياندرتال الفلسطيني هو الذي تطور وحده، فيزيولوجيًا وحضاريًا نحو الإنسان العاقل جدُّنا المباشر، وصانع الحضارة الإنسانية بمفهومها الشامل، وأما مصير النياندرتال الأوربي، فكان الانقراض، ولكن للأسف هناك من يرفض قبول هذه الحقيقة، مثل بعض الباحثين الغربيين والألمان بخاصة، ويصعب عليه أن يكون أصله من المشرق العربي، مدفوعًا باعتبارات عنصرية لا تمت إلى جوهر البحث العلمي النزيه بصلة( ).
وأدل مثال على ذلك عندما قال فرانز فيدنرايخ - في مؤتمر علماء الأنثروبولوجيا الطبيعية (علم الأجناس البشرية) في كوبنهاجن قبل الحرب العالمية الثانية مباشرة - أنه يبدو أن الإنسان العاقل قد جاء من فلسطين إلى شمال أوربة، ثار المندوب النازي وخرج من غرفة الاجتماع ( )
التاريخ يبدأ في أريحا:
أخذ الإنسان يندرج في الحضارة منذ زمن بعيد، وأخذ ينتقل خطوة بعد أخرى حتى وصل إلى تحقيق كثير من الاختراعات التي ساعدته على توفير الراحة والأمن لنفسه، ومكنته أيضًا من التغلب على كثير من الصعوبات بل الأخطار التي كانت تحدق به في حياته البدائية الأولى.
ليست قصة أصل الحضارة الإنسانية ثم مولدها وتطورها، إلا سلسلة متعاقبة بدأت في بلادنا فلسطين، وليس بين شعوب العالم أجمع من هو أولى من شعبنا بالعناية، وبذل الجهد في سبيل نشر هذا الفرع من المعرفة، لأن القدر أراد لنا أن نولد، ونعيش، في هذه البقعة التي نبتت فيها شجرة المدينة الأولى، وشع في سمائها ذلك النور المتأجج نور المعرفة، والعلم في وقت كان العالم خارج هذه المنطقة ينوء تحت حجب كثيفة من ظلام التوحش، فمن هنا - على ما يبدو - ظهر الإنسان العاقل، منذ ما يربو على الخمسة والثلاثين ألف عام مضت، وقامت كل الثورات الأولى هنا، إن الثورة بدأت بتعلم الإنسان فنون الزراعة، حتى أصبح ينتج قوته بعد أن كان يلتقطه، ويكفينا أن نقول، بأن الزراعة كانت أهم عامل دفع الإنسان نحو الحياة المستقرة؛ فنتج عن ذلك ظهور المجتمعات الصغيرة الأولى ثم تطورت هذه المجتمعات إلى قرى، ثم إلى مدن صغيرة وكبيرة وقد رافق هذا تطور مهم في الحياة الاجتماعية والاقتصادية والفكرية والفنية والسياسية ( ) فمن كان أصحاب هذه الحضارة وإلى أي جنس ينتمون؟ أصحاب هذه الثورة الأولى - بالغة الأهمية أنهم، "الناطوفيون"  نسبة إلى واد نطوف، شمال غرب القدس، وتدل الهياكل العظيمة التي عثر عليها في مواضع مختلفة، أن أصحاب هذه الثقافة كانوا أقرب إلى قصر القامة، يمتازون بالنحافة، يحملون صفات البحر المتوسط، برأسها الطويل، ووجهها الضيق المسكون - مثل كثير من العرب الحاليين( )
فقد اكتشفت في فلسطين نحو خمسين هيكلا لنموذج عرق البحر المتوسط في مقبرة قديمة، تبعد عشرين ميلا عن القدس ( ). وتصف التوراة في سفر التكوين (6: 4) سكان فلسطين (إن كان المقصود فلسطين الحالية، لوجود خطأ في إسقاط جغرافية التوراة) في حوالي الألف الرابع ق. م بـ "الطغاة"، ولكن مثل هذا الوصف لا ينير أمامنا الطريق في كثير أو قليل، ولابد أن قبور المغاور الضخمة المنتشرة انتشارًا واسعًا، والتي يبلغ طول بعضها مئات الأقدام بالإضافة إلى الأضرحة الأثرية، المسماة دولمن، المبنية بحجارة كبرى غير مهذبة، على أسس مستديرة متينة، قد كان تأثيرها عظيمًا على كتبة التوراة، مما أدى إلى ظهور مثل هذه الأساطير، المتعلقة بـ "بني عناق من الجبابرة " وبالعمالقة، التي انتقلت إلى الأدب العربي الإسلامي، ولقد أشار كثير من الباحثين إلى ماكان يقوم به بعض المفسرين، من إضافة الأخبار، والأساطير إلى التفسير بعضها منقول عمن أسلموا، من النصارى، واليهود، وبعضها من تزويدهم، واختراع خيالهم.
أما التركيب العرقي للسكان فليس واضحًا، والرأي السائد هو أنهم كانوا، دون شك، من جنس البحر المتوسط، الذي يعتبر الساميون (الجزريون) فرعًا منه، وبعضهم كان على ما يبدوا من العنصر المعروف بالأمنوري، كما تفيد دراسة بقايا الهياكل العظيمة في الجزر في جنوبي البلاد ( )
الهجرات الجزرية:
يلمس المؤرخ في تاريخ فلسطين، منذ العصر الحجري الحديث، بعض الظواهر الحضارية الخاصة، التي تؤكد توافد سلالات بشرية من الصحراء إلى هذه المنطقة، لاشك أنها سامية أو بالأصح جزرية ( )
وفي ذلك يقول العلامة تومس طمسن، إن هذا التغير في سوريا - فلسطين، أواخر العصر الحجري الحديث، وأوائل العصر النحاسي يجب ألا يعتبر غزوًا كثيفًا، أو إقتلاعًا للسكان المحليين، إبان العصر الحجري الحديث كان الخليط الإثنى في فلسطين قد أصبح معقدًا، ولا معلومات لدينا عن أية تطورات هامة، خلال فترة الانتقال إلى العصر النحاسي، وأكثر من ذلك فإن وجود مستويات ثقافية، ومادية لدى السكان المحليين، ووجود قرى ومدن ذات حجم كبير، ونظام اجتماعي تفوق أي شيء يمكن توقعه، يجعل من الصعب أن نتصور سوريا - فلسطين عرضة لغزو قام به عدد، لابد أن يكون صغيرًا، من الفلاحين والرعاة الساميين (الجزريين) والأحرى هو أن السكان المحليين استمروا وأن التغير كان لغويًا وتدريجيًا ( )
يطلق على تلك العناصر السامية/ الجزرية، التي قطنت فلسطين ولبنان وسوريا، منذ أقدم العصور، كنعان والكنعانيون، كتسمية تقليدية عامة لمنطقة فلسطين والساحل الفينينقي، دون تحديد دقيق، وهذه التسمية هي أساسًا، تسمية التوراة لتلك المنطقة بالذات، حيث يزعم الكثيرون أن كنعنان بن حام بن نوح، تسمى باسمه قسم كبير من سكان لبنان وسورية عصورًا طويلة، وهو مشتق في العبرية من (كنع) بمعنى ركع، وهو لفظ ميت، وفي الكلدانية بمعنى خزي، وفي العربية بمعنى خضع، وفي ذلك يقول القديس أوجستين: "أن السبب في تسمية أرض الميعاد، بأرض كنعان، يؤخذ من معنى هذه الكلمة، فمعناها المنخفض" ( )
في ذلك يقول المؤرخ اللبناني فيليب حتّى، نقلا عن البرايت، وسميث وغيرهما: "ولسنا ندري تماما أصل الكلمة، فبعضهم يشير إلى أن كلمة (كنعان) تعني الأرض المنخفضة، لاختلافها عن مرتفعات لبنان، ولكن أحدث الآراء يشير إلى أن أصل الكلمة غير سامي، والاشتقاق الجديد يجعله حوري الأصل (Knaggi) بمعنى الصباغ الأرجواني، وهذا أعطى الصيغة الأكادية في نوزي (كناخي - Kinakhi) وفي مسمارية تل العمارنة (كيناخي - Kinakhkhi) والفينيقية (كنغ - Kena) والعبرية كنعان أي بلاد الأرجوان، كذلك يشير اسم فينيقية، المشتق من اليونانية (Phoini) أي أحمر أرجواني إلى الصناعة نفسها - صناعة الأرجوان - وبعد أن أطلق اليونان هذا الاسم على الكنعانيين الذين تاجروا معهم، فإن كلمة فينيقي أصبحت حوالي 1200 ق. م مرادفة لكنعان " ( )
يبقى إقرار اشتقاق (كنعان) معلقًا، فقد اكتفى شبيزر بالقول: “ إن أصل واشتقاق (كنعن) ومشتقاته لا علاقة البتة بالمسألة الحالية “، أي باشتقاق اسم (الفينينقيين) ( )، ولكن الواقع أن تسمية "كنعان" غير دقيقة فالمكتشفات الأثرية من أقصى شمال سورية الطبيعية، إلى أقصى جنوبها، لم تشر على وجود كنعاني فيها، ولم تأت على أي ذكر لـ "كنعان"، وأما ما يزعم البعض من أن الكلمة وردت في الأسطر القليلة المكتشفة، على ما دعي بتمثال إدريمي في الألأخ فهذا زعم باطل، إذ أن الكلمة هي “ قنياني “ وتعني مقتيناني، ملكي، وليست "كنعان" ( )
وحول تفسير كلمة “ كناخي “ في رسائل تل العمارنة المصرية، على أنها تعني "كنعان" فإننا نفهم أن تتبدل الخاء إلى كاف، والنون إلى ميم، أما تبديل الخاء والجيم، كما تلفظ (باللهجة المصرية والبدوية والسريانية) إلى عين، فأنها عصية على الهضم في اللهجات( )
في ذلك يقول سباتينو موسكاتي، يجب أن نسلم بأن هذه التسمية لا تبعث على الرضا من نواح عدة، فإنه يبدو من تمحيص المصادر أن لفظي "كنعان" و "الكنعانيين" كانا يعنيان، قبل كل شيء "فينيقيا" و "الفينيقيين"، لم يستعملا إلا في عصر متأخر للدلالة على مدلولين أوسع نطاقًا؛ أحدهما جغرافي، والآخر جنسي، هذا إلى أن حدود تلك التسمية ليست محددة تحديدًا يدعو إلى الرضا، فهذه الحدود واضحة بعد مجيء القبائل الآرامية ولكن هذا الحدث متأخر نسبيا وكان لفظا كنعان والكنعانيين يلطلقان قبل ذلك على المنطقة السورية - الفلسطينية بأسرها، وعلى سكانها، ثم أن الكنعانية من حيث هي مجموعة لغوية ليست وحدة حقيقية فلفظ "كنعاني" يطلق، كما لاحظ الأستاذ فريدرش، عن حق على أي عنصر لغوي سوري - فلسطيني لا ينتمي إلى الآرامية( )
ويذكر العلامة تومس طمسن إلى أن تعبير "كنعاني" أساء استعماله معظم العاملين في الأركيولوجيا ودراسات الشرق الأدنى القديم، اليوم تعبير "كنعاني" كما هو مستعمل في الأركيولوجيا التوراتية، اسم قبلي تعود أصوله إلى مرويات العهد القديم خلال مرحلة ما بعد النفي، الهادفة لمحاربة عبادة بعل فهو القطب المضاد لإسرائيل، وفي العصر الحديدي الأول، لا يبدو مناسبًا أبدًا إطلاق "كنعاني" على ثقافة الدولة المدينة في السهول، والوديان الرئيسية، مثير للاعتراض هذا لأنه ليس تعسفياً في تحديداته فحسب، بل لأنه يفترض وحده إثنية - سياسية ومادية، هي ببساطة لا تتوافق مع أية حقيقة نعرفها، حتى خلال العصر البرونزي، وتعبير "كنعاني" ليس اسما جغرافيا فحسب، ولا يعرف كاسم قبلي في هذا التاريخ المبكر، بل إن إطلاقه على الأراضي المنخفضة في فلسطين كمنطقة يسود فيها نظام الدولة المدينة في العصر الحديدي الأول، مثير للسخرية( )
إذن التسمية “ كنعان “ جاءت من التوراة، ثم تعارف عليها العلماء، والباحثون علي تحديد مضمون هذه التسمية. إنه إصطلاح اتفق عليه المستشرقون الاستعماريون، والصهاينة، من أجل أن يحولوا أرض سوريا كلها من الفرات إلي النيل، إلي ما تدعوه التوراة بأرض كنعان التي وعد بها الرب إبراهيم. فصاروا اليوم يدعونها بأرض الميعاد لتكون المسرح الجغرافي الاستعماري الصهيوني الحديث.


 وإذا كنا هنا لسنا في مجال إيجاز ما كتبناه من أن مسرح التوراة كان في اليمن ومحيطه ( )، يكفي أن نذكر أن اليونانيين تحدثوا عن الفينيقيين. ولم يذكروا الكنعانيين، بدءأ من هوميروس إلي "هيرودوتس". والتي تمتد حركاتهم (الفينيقيين) من الناحية الزمنية إلي مراحل ما قبل التاريخ. حيث كان موطنهم الأصلي في جنوب الجزيرة العربية، في منطقة اليمن تحديداً. وللأسباب نفسها التي دفعت بالهجرات العروبية إلي مواقع أخرى. هاجر الفينيقيون إلي منطقة الخليج العربي واستوطنوا في / وقرب جزيرة الديلم "البحرين حالياً". ويعتقد العالم راكوزين أن الفينيقيين، الذين سكنوا الساحل الشامي، كانوا قد قدموا من البحرين، وقد تفرقوا إلي قبائل، وتوزعوا في أقسام عديدة من سوريا،
 وأطلق علي أحد فروعهم اسم بنط أو بونا، وداعهم الإغريق بالفينيقيين والبونيون "الفينيقيين" كانوا شعباً تجارياً، وقد هاجروا إلي الأماكن التي تزدهر فيها التجارة كما سكنوا شمال أفريقيا، ومنهم القرطاجيون. علي أن أهم فرع لهم سكن في بلاد اليمن، وحول مضيق باب المندب ثم انتقل إلي السواحل الأفريقية الشرقية، واستوطن بلاد الصومال، وسيطر علي البحرين الهندي، والأحمر، ويعتقد المؤرخون بأن "البونيين" قبيلة من الكنعانيين، استوطنت بلاد سوريا، منذ أقدم الأزمان وما زالوا ( )
ويرى المؤرخ "هيرودوتس" (484 - 425 ق. م) في مؤلفه - مكتبة التاريخ - أن موطن الفينيقيين الأصلي هو البحر الاريتيري قائلاً: "والفينيقيون كانوا يسكنون سابقاً سواحل بحر إريتريا (البحر الأحمر). كما يقولون هم أنفسهم، إذ اجتازوا من هناك إلي سواحل سورية فقطنوها. والقسم من سورية مع كل البلاد التي تمتد إلي تخوم مصر، يسمى فلسطين"( ).
 يزعم مؤرخونا أصحاب، وحراس الفكر الآسن في جامعاتنا، ومراكز أبحاثنا، أن الشواهد الأثرية من الفترة الإنتقالية في فلسطين. تشير إلي حصول نقص متسارع في عدد السكان، بلغ حده الأدنى حوالي عام 2000 ق. م، كما يذهبون إلي ترافق هذا الفراغ السكاني مع دمار المدن الفلسطينية الرئيسية. وإنقطاع في السكن دام أكثر من قرن. وقد استنتج مؤرخونا الأشاوس، علي الفور، بأن آثار هذا الدمار تُعزى إلي جماعات، تطلق علي نفسها اسم "الأموريين" وفدت من شبه جزيرة العرب. ولكن أين هي آثار الأموريين في بلادنا فلسطين؟! أحد الباحثين تنبه علي الفور بأننا "لا نعلم الشيء الكثير عن هذا الشعب، ولا نعرف لغة القوم، معرفة يقينية، ولا نعرف الكثير عن حضارتها. حتى أن إسمهم (أمور) أو (أمورو) مبهم "( )
وقد بدأ بعض المؤرخين الجدد يعتقد بأن المدعين بالأموريين ليسوا جماعات غريبة وفدت فلسطين من الخارج، بل هم أهل المناطق المنكوبة، الذين أجبرهم الجفاف على هجر أراضيهم الزراعية، وحولهم إلى حياة الرعي المتنقل، وقد تنبه لذلك العلامة “ تومسون “ في كتابه (The Bible In History How Writers Create a past, Cape 1999) قائلا: “ حتى أواسط السبعينات من القرن العشرين، كان البحث الأركيولوجي والتاريخي يعالج أحداث الفترة الانتقالية، من خلال نظرية الهجرات البدوية من شبه الجزيرة العربية، كما ربط العديد من الباحثين هذه النظرية، بالنصوص المسمارية التي تحدث عن جماعات الأمور، وبالنصوص الهيروغليفية التي تتحدث عن جماعات العامو، وبذلك تم اختراع تاريخ لهجرة الأموريين، فتحت الاسم عامو جعلوا أحد العناصر الرئيسية وراء الأحداث التي قادت إلى نهاية المملكة القديمة في مصر، وتحت اسم الآموريين، جعلوا مسئولين عن تدمير ثقافة عصر البرونز المبكر في كل من بلاد الرافدين وبلاد الشام، قبل سيطرتهم المنظمة على الهلال الخصيب، وتشكيل ممالكهم الآمورية، إن الأفكار البالية عن الغزو والاجتياح قد جعلت من السهل على المؤرخين استخدام جحافل البدو، من أجل مسح الحضارات القديمة، واستهلال حضارات جديدة، وبذلك انتقلوا بنا من حضارة البرونز المبكر إلى حضارة البرونز الوسيط، ومن عالم الكنعانيين الفلسطينيين في عصر البرونز الوسيط إلى عالم الإسرائيليين في عصر الحديد، ولكن ألا تبدو لنا هذه الانتقالات مفهومة أكثر إذا تخيلنا عن تفسيرها باجتياحات القبائل السامية الداخلية؟! وألا تبدو لنا الاستمرارية الثقافية، بما تحتويه من تنويعات أكثر وضوحًا، باعتبارها من نواتج التغيرات الداخلية والتحولات الاقتصادية( )
ألا يؤيد ذلك وجهة نظرنا بأن الأموريين خلقوا في بلاد الشام لتوسيع نطاق وعد الرب لإبراهيم، كما تزعم أسفار التوراة، لقد بينت ذلك في مؤلفي الموسم موسى وفرعون في جزيرة العرب، حين ذكرت، ووفق قناعاتي الشخصية وجوب البحث عن (الأموريين) في جنوب جزيرة العرب، حيث حافظت على اسمها في صيغة (الحميريون) فقد أطلق بطليموس على جزيرة العرب تسمية (ماروي)، وذكر الهمذاني في كتابه - صفة جزيرة العرب - نقلا عن بطليموس، ما يلي: "أفضل البلاد المعمورة من شق الأرض الشمالي إلى الجزيرة الكبرى، وهي الجزيرة التي يسميها بطليموس (ماروي) تقطع على أربعة أقاليم، من عمران الشمال إلى الخامس فجنوبها: اليمين وشماليها: الشام، وغربيها: شرم أيلة، وما طردته من السواحل إلى القلزم، وفسطاط مصر، وشرقيها: عُمان، والبحرين، وكاظمة والبصرة، ومُوسَطها: الحجاز وأرض نجد، والعروض، وتسمى جزيرة العرب "( )
 لعل من أهم أمثلة التحركات البشرية الفلسطينية تحركات العناصر المسماة، بالهكسوس، وهي تسمية مصرية قديمة “ حقاو - خاسوت، ومعناها حاكم الأراضي( ). ويؤكد فلسطينية الهكسوس الباحث ج. ف كينيت (G. G. KNIGHT) قائلا: "الهكسوس هم من الأموريين، (يقصد الفلسطينيين) ، وليس من دليل يشير إلى غير ذلك، حتى لو وجد بعض المقاتلين من الحيثيين أو غير الحيثيين أو من الأجناس غير العربية في صفوفهم، فهذا لا يلغي القاعدة الأساس، فالهكسوس من موجات الجنس العربي، فقوتهم المتحركة من عصر كنعاني أو أموري (الأصح فينيقي)، وكان لبعض ملوكهم أسماء كنعانية (فينيقية)، كما أن الآلهة التي جلبوها إلى مصر كانت معظمها كنعانية (فينيقية).
إسرائيليون:
وبالرغم من عدم توافر أدلة على وجود إسرائيلي، في بلادنا فلسطين، بعد مرور أكثر من قرن ونيف، على التنقيب الأثري، الذي لم يترك شبرًا، أو حجرًا من أرض فلسطين، دون قلبها: لم يعثر على أثر واحد يربط العهد القديم بها ( )
 بدأ بعض المعنيين من الإسرائيليين، والتوراتيين، وسائدهم في ذلك السادة حراس الفكر الآسن من الأكاديميين العرب، في البحث في النقوش القديمة، التي تعود إلى ممالك الشرق القديم، والتي تشير إلى مجموعات من الناس عُرفت بأسماء مختلفة، مثل (س ء ج ء ز)، (خفيرو)، (عفرم) (عفر. و)، (عابيرو) في النصوص المسمارية في (نوزي، وتل حريري - ماري - وتل العطشانة - الالاخ -، ورأس شمرا - أوغاريت - تل العمارنة وغيرها)، واعتقدوا أنهم اكتشفوا فيهم “ العبريين “. فيذهب الباحث التوراتي إدوارد كامبل إلى كلمة "عابيرو" تطابق كلمة "العبريين" فيخرج بالنتيجة المتسرعة والفجة إلى أن "العابيرو" هم "العبريون"( ).
فـ "العابيرو" لم يكونوا طائفة عرقية، بل طبقة من طبقات المجتمع الكنعاني، كانوا شعبا تحول إلى طائفة منبوذة في المجتمع الكنعاني، وطرد من المدن - الدول، لأسباب اقتصادية وسياسية وقد أصبحوا - أحيانا - لصوصًا وقطاع طرق، وأحيانا أخرى جنودًا مرتزقة( ).
فمراجعة م. ليفيراتي الحديثة لتفسير رسائل تل العمارنة أكدت أن "العابيرو" طبقة دنيا ناقمة ولاجئون، هربوا من القمع الإمبريالي المصري على المناطق الجبلية، ليعيشوا لصوصًا، وقطاع طرق ضد رواد التجارة البرية، ويظهر أنهم استقروا أخيرًا في المناطق الجبلية بعد حقبة تل العمارنة( ).
إذا كان أصحاب الفكر الآسن من مؤرخينا، لم يشككوا لحظة في ما تلقنوه، بل رددوه كبغباوات في صالون المتحف، فإن أحد المفكرين الغربيين بير روسي لم يسعه السكوت على الكذب التاريخي، فيخصص الفصل الأول من كتابه الرائع - مدينة إيزيس، التاريخ الحقيقي للعرب - لدحض هذه الفرية، مقدمًا إيضاحًا موجزًا حول قضية العبرية، التي ليست إلا وهمًا معقدًا، ومستمرًا لشعوذة اشتقاقية لغوية، قد استطاع أن يجر كثيرًا من الناس ليروا (العبرانيين) في (ثقافتهم) الأجداد الساميين لتاريخ الشرق، ولتاريخنا نحن (في أوروبا) أيضًا، أن علينا أن نعرف قبل كل شيء أن التاريخ المصنوع (للعبرانيين) خارج النصوص التوراتية، هو الصمت الكلي المطبق، فلا العمارة، ولا الكتابات المنقوشة على الآثار، ولا القوانين، والدساتير تكشف أثرا قليلا (للعبرانيين)، فعلى آلاف النصوص المسمارية أو المصرية، التي تؤلف المكتبة المصرية، أو مكتبة رأس شمرا، أو نينوي، وحتى في الروايات الآرامية في ذلك كله لا تذكر كلمة (عبرية)، وأشهر ملوك التوراة - داود وسليمان - لم يصبحا قط موضوع وقائع تاريخية، وليس هناك، أبدًا ذكر للملحمة المعزوة لعبور (العبرانيين)، وليس هناك أي انقطاع حضاري ثبت بالحفريات التي تمت في فلسطين منذ عام 1880 - 1925، فالعدم كامل، مثلما هو قطعي وجازم( ).، فـ "العابيرو" ليسوا، إذن عناصر أجنبية أتوا من الخارج - كما يرى البعض - بل هم من نبات الأرض والصحراء، إن ظاهرة "العابيرو" تؤكد حالة السخط والكره الشديدين لاحتلال الفراعنة بلاد الشام، ونتيجة الاضطهاد والقهر الواقع على عاتق الناس من جهة واحتقار الحكام الذين نصبهم الفرعون للعامة من جهة ثانية، أدت إلى حالات تمرد كبيرة، وهذه الحالات رسمها الحكام، الذين ظلوا على ولائهم للفرعون من خلال نصوص رسائل تل العمارنة( ).
الفلسطينيون:
أهمل مؤرخوا الغرب المتخصصون في تاريخ الشرق الأدنى القديم وحضارته، دراسة التاريخ الفسطيني، ولم يخصصوا في دراساتهم الخاصة بشعوب الشرق الأدنى القديم، أي ذكر خاص بتاريخ الفلسطينيين في شكل عمل مستقل، أو حتى في شكل فصل مستقل من فصول الدراسة، وقد اتبع المؤرخون اليهود، ومن يساندهم من حراس، وأصحاب الفكر الآسن العربي، في جامعاتنا، ومراكز أبحاثنا، سياسة التعتيم على أخبار الفلسطينيين في التاريخ القديم، وإحاطة هذه الأخبار بالغموض الشديد، من أجل طمس الحقائق التاريخية، وإسقاط الفلسطينيين كواحد من الشعوب الرئيسية في منطقة فلسطين.
 "الفلسطينيون" مصطلح يطلق على القبائل التي استوطنت شاطئ فلسطين "كنعان" الجنوبي الغربي من غزة جنوبًا إلى يافا شمالا، ومنهم جاءت تسمية فلسطين، التي مازالت مستعلمة حتى يومنا هذا للدلالة على أرض فلسطين الحالية، وأهم المدن التي استوطنوها (غزة، وعسقلان، وأشدود، وعقرون، وجت)، وكانت من الفلسطينيين هذه على الساحل، عدا مدينة "جت"، التي كانت تمتد قليلا إلى الداخل ولم يؤسس الفلسطينيون مستعمرات ما عدا مدينتي "اللد" و "صقلغ" في أقصى جنوبي مدينة يهوذا.
وأقدم ذكر للفلسطينيين، ورد في النصوص المصرية الآشورية، فقد سميت بلادهم "بالاستو" فلسطين Palastu، أو بيلسيتو Pilistu، وهو نفس الاصطلاح اليوناني فلستيا Philidtia، الذي أصبح باليستينا (فلسطين) وقد كثر ذكرهم في التوراة فقد سمتهم التوراة كفتورين، وذكرت أن وطنهم في جزيرة كفتور المناظرة لكفيتو في المصادر المصرية، والتي يقولون إنها جزيرة كريت ( ). وفي التعريف بـ "فلسطين" و "الفلسطينيون" في المصادر اليهودية نجد تعتيما شديدًا، وإيهامًا بأن الفلسطينيين شعب غريب، ليست له أصول في المنطقة، ففي دوائر المعارف اليهودية، يرد الحديث عن فلسطين والفلسطينيين، في شكل مقتضب، وغامض يوحي للقارئ، بعدم أهمية المكان وسكانه، ويؤكد على عدم أصالته وعلى كونه شعبًا غريبًا.
الفلسطينيون من شعوب البحر الأبيض المتوسط، وتعود أصولهم إلى مواقع في آسيا الصغرى، واليونان، وقد جاءوا إلى فلسطين، في موجات متعاقبة، وقد أتت إحدى هذه الموجات قبل عصر الآباء، واستقرت جنوب بئر سبع حيث دخلوا في صراع مع إبراهيم وإسحاق، وأتت موجة أخرى من كريت، بعد طردها من مصر على يد رمسيس الثالث في 1194 ق. م، فاحتلت المنطقة الساحلية من جنوب فلسطين، حيث أنشأوا خمس مدن، هي غزة وعسقلان وجت وأشدود وعقرون، ولأنهم شعب محارب بالفطرة، فقد تسيدوا أجزاء أخرى من يهوذا زمن القضاء، وهزموا شاؤول لكن دواد هزمهم، ووضع نهاية لسيادتهم، وبعد سقوط المملكة الإسرائيلية استعاد الفلسطينيون استقلالهم، ولكنهم لم يصبحوا أبدًا، عاملاً رئيسيًا في المنطقة، وفي العصرين الفارسي، واليوناني، تغلب مستوطنون أجانب من جزر البحر المتوسط على المدن الفلسطينية، وأطلق اليونان، منذ هيرودوت، اسم فلسطين على هذه المنطقة، نسبة إلى الفلسطينيين (فلسطين السورية)، وفي عصر هارديان أطلق الرومان هذا الاسم رسميًا على إقليم يهوذا( ).
وقد تطور معنى كلمة فلستي Philistine، عبر التاريخ “ وطرأ عليه تغيرات مهمة فهي تعني بالنسبة للإنسان الغربي، اليوم، الفلسطيني القديم، وتجدر الإشارة إلى وصف Philistine يستعمل لوصف الشخص المادي النزعة، والفج المعادي للثقافة وهو إنسان محدود الأفق، وبعيد عن الثقافة الرفيعة، كما يعرفه قاموس اكسفورد، وهو تعريف ينم عن تأثير التفسير التوراتي للتاريخ لمصلحة اليهود، وقد بلغ التشويه إلى حد أن الدعاية الصهيونية، روجت للقصة التوراتية عن جليات وداود، حيث تصور انتصار داود الصغير المقلاع على جليات، وكان من جبابرة الفلستين، إذ بلغ طوله أكثر من تسعة أقدام، وكانت أدواته الحربية مناسبة لطوله وقوته، ويرى المتخصص في الدراسات الصهيونية، د. عبد الوهاب المسيري في - موسوعة اليهود واليهودية والصهيونية - أن الدعاية الصهيونية نجحت في ترسيخ صورة داود رمزًا لـ (إسرائيل)، الذي يستخدم ذكاءه، ومهارته في هزيمة عدوه، مقابل صورة جليات، رمزًا للعربي الذي يتسم بضخامة الحجم، وكثرة السلاح، ولكنه لا يستخدم عقله، فيمنى بالهزيمة ( ). 
نحن - إذن - أمام خطأ شائع يتمثل في أن أسلاف عرب فلسطين، كانوا يمثلون البربرية بكل مظاهرها، وبذلك تم تغييب الحضارة الفلسطينية، وهذا ما حدا بروبنسون إلى الانتفاض والتقريع؛ تقريع من كتب الكذب في جامعات أوروبا، ومن صدق ذلك في جامعاتنا، فيقول: "لقد كان الفلسطينيون يملكون ثقافة متقدمة وعريقة "، ويضيف قائلا: "إنها سخرية عجيبة من سخريات القدر أن كتب على لفظة فلسطيني أن تكون مرادفة لكلمة بربري وقد نشأ هذا الاستخدام الفظي لأن تاريخ ايامهم وصل إلينا عن طريق (الإسرائيليين) الذي لم يكن في ضميرهم إنصاف لأعدائهم"( ).  
ويشير طومسون إلى أن كلمة فلسطين، لا تستعمل لوصف مهاجرين من بحر إيجه وكليكا، كما أنها لا تستعمل لوصف العناصر المشاغبة في الإمراطورية المصرية الأخيرة، فقد استعملت في وقت متأخر جدا، كاسم لشعب السهل الساحلي الجنوبي، وجماعة تنتسب إلى سكان الدول المدنية في فلستيا، سكان السهول الساحلية الفلسطينية الذين كانوا من أصول مختلة، ومعظمها من الساميين الغربيين الجزريين الأهليين في فلسطين، من حيث ثقافتهم المادية، ولغتهم وديانتهم، تعبير “ فلسطين “ يشير مبدئيا، إلى حقيقة جغرافية، وفي القصص التوراتية يكتسب سمة إثنية محدودة خيالية، كمناهض رئيس لظهور شعب “ إسرائيل “، كما في قصص القضاة وصموئيل (2 - 1)، الفلسطينيون لم يوجدوا كشعب إلا في المنظور العرقي التوراتي اللاحق، إشارات النصوص الآشورية إلى (بي - ليس - تي) مثل الإشارات إلى (آ - يو - دي) جغرافية تناقض الإشارات الإثنية ( ).
الكلام ما زال للباحث نفسه، والقول إن الفلسطينيين يمثلون شعبًا غريبًا، متطفلاً على فلسطين، يجب إنكاره، التأثير الوارد من بحر إيجه جزئي، وعلى أساس البينات المعروفة كان هامشيًا، وسطحيًا في اللغة، والديانة والأشياء المادية، حتى أقدم أشكال الفخاريات المدعوة فلسطينية - كانت ثقافة المنطقة الساحلية وطنية تمامًا، يمكن القول إنها متأثرة بحضارة بحر إيجة ولكنها سامية (جزرية) تمامًا، وذات طابع حضاري فلسطيني( ). والحقيقة أن المخلفات الحضارية الفلسطينية في نهاية الألف الثاني قبل الميلاد - بما في ذلك الساحل الفلسطيني - تعتبر استمرارً لحضارة العصر البرونزي الأخير، ومن أهم المكتشفات التي تنسب عادة للفلسطينيين فخار ملون، بأشكال هندسية، وطيور، وتظهر أيضا أشكال حلزونية، ومجموعات من أنصاف دوائر متشابكة، إنما أشكال الأواني نفسها، فمشابهة للأواني التي عثر عليها في جزيرتي رودس، وقبرص، ولكنها غير مطابقة لها، ومن الصعب اعتبارها مستوردة، بل على العكس فإن طينة الفخار محلية، وصانعوها، أيضا، رغم تأثرهم بصناعة الفخار المعروفة في الجزر الإيجية، وظهرت التأثيرات الكنعانية المحلية على مخلفات الفلسطينيين من خلال أسماء آلهتهم أمثال داجون وعشتروت، كما أن العمارة من مبان عامة، ومنازل، مستمدة من التقليد المعماري للعصرين البرونزي الوسيط، والأخير، والحياة الدينية عند سكان الساحل الفلسطيني كنعانية الأصل، وكذلك المباني الدينية وأهمها، سلسة المعابد المتعاقبة في تل القصيلة، التي أنشئت على غرار المعابد الكنعانية، مع ما يظهر عليها من تأثيرات مصرية وإيجية.
بذلك يصعب على الباحث التفريق بين ما يمكن نسبته إلى المجموعات البشرية التي سكنت فلسطين في أواخر الألف الثاني قبل الميلاد، فوجود هذا الصنف من الفخار، أو ذلك في منطقة معينة، لا يدل بالضرورة على سكنى هذه المنطقة من مجموعة إثنية مختلفة ولكنها غالبا ما تعني أن هذه المنطقة وقعت تحت تأثيرات خارجية ( ).
ونتساءل هاهنا ما الذي يجبرنا، على أن نجعل من الفلسطينيين شعوبًا مختلفة من الوجهة القومية، عن شعوب المنطقة، فهل هم حقا غرباء إلى هذا الحد؟ وهل هناك فرق صوتي بين "فينيقيين" و"فلسطينيين"؟ ألسنا هنا، أيضا، الضحايا الراضين بأفكارنا المسبقة التوراتية؟
بالإضافة لضعف أدلة، ومنطق علماء التوراة، والآثار، فإن النقطة الأساسية التي ترغمنا على إهمال الرأي بأن الفلسطينيين يمثلون شعبا غريبا، تكمن في تجاهل أهل الاختصاص لمسألة جوهرية تعلق بتاريخ المنطقة، ألا وهي أن ما من شعب ينتمي لخارج بوتقة الإقليم الحضارية، تمكن من فرض اسمه على منطقة، أو إقليم، فالإغريق، والرومان، قاموا بتغيير أسماء بعض المدن، والأقاليم في المشرق العربي، ومنها مدينة عمّان التي أضحت فلادلفيا، في عهد الرومان، لكن هذه المناطق سرعان ما استعادت أسماءها الأصلية بعد رحيل الغزاة، برأيي أن الحال نفسه ينطبق على فلسطين، حيث أستبعد أن الاسم فلسطين يعود لشعب مجهول الهوية، والأصول، لم يترك لنا أي أثر عن نفسه أو ثقافته، حتى عبر طرف ثان.
هذا يتناقض مع ما ذهب إليه الباحثون الغربيون، ومن يساندهم من أصحاب الفكر الآسن العربي، من أن الفلسطينيين يمثلون شعبا غريبا متطفلاً على المنطقة.
انطلاقا من كل هذا وتخريجا عليه، من المحتمل أن تكون كريت، أو غيرها من المدن قد استعمرت يوما بواسطة الكنعانيين/ الفينيقيين ضمن الهجرات العربية القديمة، فيما قبل التاريخ التي "امتدت على افريقية الشمالية، والبلقان، وإيطالية، وأسبانية، وعرفت بأسماء موجات أقوام البحر المتوسط "، كما صرحت به المراجع الأثرية الحديثة، والمحتمل جدا أن بعضهم بعد أن اتصلوا طويلا بالقبائل اليونانية، رجعوا ثانية شرقا إلى موطنهم الأصلي فلسطين فبغض النظر عن أسماء بلدانهم، فإننا نرى عددا من أسماء أشخاصهم سامية/ جزرية ومنهم ابيمالك، دليله، عبيد أيدوم - وربما أيضا أشبي، صاف، جوليات، رفح، ويظهر أن ديانتهم تطبيق الأساليب السامية نفسها في تقديس معبودين اثنين ذكر وأنثى، فلداجون آلهة من الأسماك بجانبيه، والأسماء داجون وبلعزبوب آلهة كنعانية /فينيقية أصلا، ولا ينفي هذا كون الفلسطينيين لا يمارسون عمليات الختان، فربما أبطلوا إجراءها عندما هاجروا إلى كريت.
يؤكد الباحث الأثري الفرنسي "هيلير دو بارانتون" (Hilaire de Baranton) في كتابه - الايتروسكيون في غربنا وفي أصولنا الفرنسية - (Les Etrusques en Notre Occident et Origines Francaises) ما انتهينا إليه قائلا: أن “ الاتيروسكيين “ هم فرع من الفينيقيين السوريين، وأن "الفلسطينيين" هو أحد أسمائهم، وأن معنى "الايتروسك" في اللغة المصرية القديمة، هو "بحارة النيل"، وأن معنى "الفلسطينيين"، هو الجنود المحاربون، وزاد الباحث على ذلك، فقال عن هؤلاء الفينيقيين السوريين، أنهم يحملون أسماء كثيرة مختلفة، وذلك تبعا لمهنهم أو لعقائدهم، ثم أخذ يعدد هذه الأسماء، ومنها  "الفلسطينيون" عملا بمهنتهم الحربية ( ).
في عام 1980، كتب باحث آخر هو الأستاذ مايكل غرانت (M. Grant) كتابا عن الايتروسكيون، وكانوا عنده في خلاصة القول - ينحدرون من أصل كنعاني / فينيقي ( ).  لذلك ولكل ما مر بنا، فإني مضطر للاستنتاج بأن "الأصول الأجنبية لفلسطيني الحقبة الآشورية، وأصولهم المزعومة من كفتور، مجرد خيال خلقته الروايات التوراتية كقرين لأصول يهوذا أنفسها فيهودا، والفلسطينيون، كلاهما كيانات ثقافية أهلية في فلسطين، وناتجة عن حضارة، وسكان العصر البرونزي، الذين كانوا خلال العصر الحديدي الثاني، متمايزين في مجموعات شبه إثنية، على شكل دويلات تحت حكم إمبراطورية خارجية" ( ). 
فبالنظر إلى أن السكان الأصليين لم يتغيروا كثيرا منذ العصر الحجري، وخلال فترة الألف السادس - الرابع قبل الميلاد أصبحت فلسطين سامية (بمفهوم لغوي)، وخلال العصر البرونزي القديم، أقامت نمطا استيطانيا واقتصاديا بقي من خصائص المنطقة حتى الحقبة الآشورية في الأقل ( ).  بذلك فالسمة الأهلية للسكان لم تعد موضع تساؤل الآن، وهذه السمة تظهر بوضوح في جذور الثقافة المادية في العصر البرونزي القديم، والظاهرة في الأواني، والأدوات، والبناء، وطقوس الدفن، وأنماط الاستيطان ( ).
كما وجب تذكر حقيقة هامة، وهي أن الكتابات الإغريقية القديمة حتى القرن الثاني قبل الميلاد، تصف سكان فلسطين، بأنهم سوريون، وتشير إليهم بصفة "سوريو فلسطين"، إن هذا الوسم، والتقسيم الثقافي، والانتماء السكاني في كتابات الإغريق، وعند الرومان من بعدهم، أي أن الرومان، لم يطلقوا على بلادنا، اسم فلسطين اعتباطًا، وإنما انتهلوا من تاريخ بلادنا يساير تمامًا نتائج أحداث التنقيبات الآثارية.

من أجل ذلك فقد تكون حقوق اليهود التاريخية المزعومة في فلسطين، وإدعاء حقهم في استعادتها، أو العودة إليها، على حد زعمهم، وزعم من يساندهم من حراس، وأصحاب الفكر الآسن العربي، في جامعاتنا، ومراكز أبحاثنا، تجاه الفلسطينيين، في وضع سيء، للأسباب التاريخية بالذات، هذا، إذا لم يكن التبرير التاريخي الصهيوني كله لحقهم المزعوم، ولسرقتهم حماقة في حد ذاته، وأنه لمن الغطرسة أن يتحدث الصهيونيون عن فلسطين دائما على أنها "أرض إسرائيل"، كان لم يكن هناك فلسطينيون، وبصورة دائمة، وأنه لمن الصلف أن يذكر في “ دستور دولة إسرائيل “ الذي تم إقراره في 14 أيار/ مايو 1948: "لقد ظل شعب اليهود المنفي من أرض إسرائيل وفيًا لأرضه في كل بلدان المهجر". وليس فلسطين بأرض اليهود، كما أن اليهود لم ينفوا منها، ولذلك فإنهم "لم يظلوا أوفياء" لهذه الأرض في المهجر المزعوم!! "إن العرب الفلسطينيين الذين ما زالوا يعيشون في فلسطين، هم الأبناء الحقيقيون للسكان الساميين - الجزريين الأساسيين، وجذورهم ليست قائمة في سوريا، أو لبنان، أو الأردن أو مصر بل إن البلاد التي عرفوها، ولم يعرفوا سواها قط في بلاد فلسطين" ( ). إذًا فالفلسطينيون مزيج عرقي له نواة قوية عريقة في القدم، وقد كان أجداد اللاجئين العرب الفلسطينيين الذين يحيون اليوم في الغربة حياة بائسة، يحرثون الحقول في فلسطين، قبل ثلاثة آلاف عام، ويبدو أنه مما يتصل بذلك، أن اللاجئين الفلسطينيين يكنون لوطنهم حبًا لا يمكن تصوره أبدا، إنهم يثيرون انطباعًا مؤداه أنهم شعب يضرب بجذوره في الأرض، متعلقا بكل بيت ريفي صغير، وبكل شجرة برتقال، وبكل حجر فليس الفلسطينيون رعاة لا يعنيهم كثيرا أن يستقروا هنا تارة، وهناك تارة أخرى، ومع ذلك فأكثر العرب يكتفون في النزاع الفلسطيني بالإشارة إلى التراث التاريخي العربي - الإسلامي الذي دام ألفا وثلاثمائة عام، وعلى أية حال فقد تم تعريب فلسطين في وقت كانت فيه هجرات الشعوب تجري على قدم وساق، ولم تكشف أمريكا إلا بعد ذلك بـ (580) عامًا ( ).  فيا له من حق من حقوق الملكية هذا الذي يجد سياسيونا، ومثقفونا، ووسائل إعلامنا المأجورة، اليوم سعيًا وراء تحطيمه!! حق احتفظ به بطريق بسيط دؤوب، منذ خرج الإنسان من غياهب المجهول، وربما كان أبسط، وأوضح حق من حقوق الملكية في العالم.
(*) باحث فلسطيني في التاريخ القديم مقيم في القاهرة.


 

2011-12-12 12:43:41 | 3023 قراءة

التعليقات

الإسم
البريد الإلكتروني
عنوان التعليق
التعليق
رمز التأكيد
مركز باحث للدراسات الفلسطينية والاستراتيجية