التصنيفات » ندوات

ندوة دمشق



-          الأستاذ أحمد أبو هبة

-          الأستاذ رافع الساعدي

-          الأستاذ خالد بدير

-          الأستاذ رافع الساعدي

-          الأستاذ عبد الرحمن غنيم

-          الأستاذ عبد اللطيف مهنا

-          الأستاذ عبد الله الحسن

-          الأستاذ غطاس أبو عيطة

-          الأستاذ محمد النابلسي

-          الاستاذ مخائيل عيد

-          الأستاذ مصطفى أحمد قانوع

-          الأستاذ إبراهيم أبو ليل

-          الباحث محمد رشاد الشريف



الأستاذ أحمد أبو هبة



منذ بدء الاستعدادات العسكرية الأمريكية-البريطانية لغزو العراق، وضعت (إسرائيل) نفسها في قلب هذه الاستعدادات، باعتبار أن الحرب التي تشنها أمريكيا وبريطانيا على العراق، هي حرب صهيونية بالدرجة الأولى، تأسيساً على الفكرة الصهيونية القائلة بأن أي حدث قد يتأتى عن هذا الغزو، يغير الوضع في العالم وفي المنطقة و في (إسرائيل) تحديداً، وأصبح من الصعب هز الشعور الناتج عن الأحلام الوردية والتوقعات الصهيونية المتوجهة المتصلة بنتائج الغزو، حتى إن الشارع في الكيان الصهيوني قد عاش حالة وظروف الحرب قبل أن تندلع، وبات جميع السياسيين (الإسرائيليين) يعتقدون بناء على توقعاتهم المسبقة، إن نتائج الغزو الأمريكي-البريطاني للعراق ستصب في خدمة الأهداف الاستراتيجية الصهيونية، ونفتح الأبواب على مصراعيها أمام نشوء أوضاع جديدة ومختلفة، تخرج الكيان الصهيوني من المستنقع الفلسطيني الذي بات يغوص فيه، وتخلصه من الورطة العسكرية الاستراتيجية التي تعيشها الآلة العسكرية العدوانية، وانسداد أي أفق سياسي لحل الصراع حسب المقاس الشاروني، إلى جانب الأزمة الاقتصادية الخانقة التي تهدد بانهيار الاقتصاد "الإسرائيلي"، والأهم من ذلك كله، إن ذلك الشعور الناتج عن التوقعات "الإسرائيلية" المتوجهة لما يمكن أن ينتج عن غزو العراق واحتلاله، هو انعكاس لحالة الشعور واليأس والإحباط مما آلت إليه الأوضاع في واقع الكيان الصهيوني السياسي والأمني والاقتصادي.

فقد حرصت مختلف اتجاهات الساسة "الإسرائيلية", وكذلك جميع وسائل الإعلام "الإسرائيلية" واليهودية العالمية على ضبط حركتها على إيقاع طبول الحرب الأمريكية من جهة، وتسويق وحتى التبشير بمعظم الأهداف والادعاءات الأمريكية-البريطانية المتصلة باحتلال العراق. واستنفار  جميع الغرائز اليهودية، واستحضار جميع المخاطر والتهديدات التي يمكن أن يواجهها الكيان في حال عدم وقوع الغزو، على اعتبار أن أي تأخير أو تسويق لهذا الغزو يشكل تهديداً وخطر وجودياً عليه من جهة أخرى. وأخذت جميع المحافل السياسية "الإسرائيلية" والصهيونية تهاجم بشراسة كل صوت رسمي أو شعبي يرتفع معارضاً أو مناهضاً أو منتقد للغزو الأمريكي- البريطاني على العراق، فأوروبا أصبحت "عاهرة" في نظرها والرئيس الفرنسي شيراك "فأر صغير كثير الضجيج" في نظر وسائل الإعلام "الإسرائيلية"، والرأي العام العالمي المناهض للغزو "منافق وحسود ومعاد لليهود" في نظر شارون، فهو أي شارون وبوش وبلير يقفون مع "قوى النور" في مواجهة "قوى الظلام".

والمتتبع للسياسات الشارونية منذ بدء الغزو الأمريكي-البريطاني على العراق، يلحظ أن حكومة شارون، بل ومختلف الاتجاهات السياسية والحزبية الرئيسية، يعتبرون أن نتائج هذا الغزو قد تفسح المجال أمامهم في الاستمرار في تنفيذ سياسات القتل والتدمير الشامل التي يمارسونها ضد الشعب الفلسطيني في هذه المرحلة، من حيث إعادة احتلال أراضي السلطة الفلسطينية، وضرب جميع البنى التحتية المتصلة بمقومات الحد الأدنى للحياة الطبيعية لدى الشعب الفلسطيني، إلى جانب حصره في معازل منفصلة ومنعزلة عن بعضها البعض، حوّل الكثير منها إلى معتقلات جماعية، ورأى شارون في هذه الظروف أيضاً فرصته المواتية لترتيب أوراقه وأولوياته وخططه، سواء لجهة إحكام سيطرته على الائتلاف من خلال تشكيل حكومة من ذات اللون السياسي والأيديولوجي الواحد، ما يسهل عليه مواجهة الأزمات الداخلية الطاحنة أو لجهة وضع مخططات لما يمكن أن يقدم على تنفيذه على ضوء نتائج وإفرازات غزو العراق واحتلاله، على قاعدة طموحه في تحقيق برنامج اليمين القومي-الديني-الصهيوني في تكريس احتلال الضفة والقطاع وصولاً إلى استكمال مشروع (إسرائيل الكبرى).

والمتتبع أيضاً، لردود أفعال الشارع في الكيان الصهيوني عند بدء الغزو على العراق، يلحظ مدى الشعور بالفرح الهستيري الذي عم ذلك  الشارع، في وقت بدأت فيه جميع وسائل الإعلام الصهيونية تتحول برمتها إلى مجموعة من الخبراء العسكريين لا هم لديهم سوى إسقاط الرغبات والتوقعات المسبقة، إذ عنونت إحدى كبريات الصحف "الإسرائيلية" صفحتها الأولى  بالقول:" في وقت تتساقط فيه حمم القذائف الأمريكية على بغداد، تفتح خزائن المال الأمريكية أبوابها أمام "إسرائيل" لتهدئتها وإبقائها بعيدة عن الحرب" حتى أن أحد السياسيين "الإسرائيليين" قد اندفع  من فرط حماسه للحرب ليتساءل:" ماذا سيحل بأعداء "إسرائيل"؟  هل يتسنى لنا الانتقام من أحفاد نبوخذ نصر ، هل سنرى العراقيون يجلسون على أنهار بابل، يشكون ويبكون مصيرهم البائس؟"

فإذا كانت التحولات الكبرى التي أحدثتها غياب القطب الواحد وحرب الخليج الثانية عام 1991، قد فتحت أمام الكيان الصهيوني ما أسموه "نافذة الفرص الكبرى" فإن احتلال العراق قد وضع المنطقة أمام حقبة تاريخية ومختلفة تقلصت خلالها، من وجهة النظر الصهيونية، إلى حد كبير أحد أهم وأخطر التهديدات الاستراتيجية التي شكلها العراق قبل احتلاله، وإن هذه الحرب من وجهة نظر عوزي بنزيمان في صحيفة هآرتس قد أخرجت العراق من دائرة الصراع، ووضعته أمام إمكانية أن يصبح الطرف العربي الثالث الذي قد يوقع معاهدة (سلام) مع "إسرائيل"، إذا ما نجحت الإدارة الأمريكية في تشكيل حكومة موالية لها في العراق". إلى جانب ما تفتحه نتائج احتلال العراق أمام حكومة شارون من آفاق  على صعيد التعاطي مع الصراع الدائر على الأرض الفلسطينية (الانتفاضة) والصراع العربي- الصهيوني عامة وتلك القضايا المتصلة بالصراع مع سوريا ولبنان. فقد بات يعتقد معظم المحللون والسياسيون في الكيان الصهيوني، أن حكومة شارون سوف تتعامل مع خطة  "خارطة الطريق" على أنها معركة يتحتم  خوضها من أجل تثبيت الفهم الشاروني في مواجهة ما يجري الحديث حول صيغة "أوروبية أو أمريكية" لها وبالتالي الالتفاف على ما سمي بمبدأ بوش القائل:" باقة دولتين إلى جانب بعضهما البضع" على قاعدة الفهم الأمني الصهيوني الاستراتيجي الذي يستند إلى إقامة كيانية فلسطينية على مساحة لا تتجاوز (42-45%) من  مساحة الضفة، دون القدس، وحق العودة ودون جيش أو سيادة... إلخ، وما يكشفه كثير من الكتاب والمحللين الاستراتيجيين في الكيان الصهيوني وحتى السياسيين أنفسهم، بأن شارون سوف يتبع تكتيكا يهدف بموجبه عدم البحث في تنفيذ أي مرحلة من خطة خارطة الطرق، دون الحصول على تعهد من حكومة السلطة الفلسطينية الجديدة يقضي بإسقاط مطلب "حق العودة" وهو أمر يعفي شارون من أية ضغوط داخلية وحتى أمريكية أو أوروبية، باعتبار أن المطالبة بمطلب حق العودة هو خارج هذه اللعبة من وجهة نظر هذه الأطراف وفي الوقت نفسه، إحباط أية محاولة لفرض تنفيذ "الصيغة الأوروبية" للخارطة المذكورة، على خلفية ما صرح به بلير وزير خارجيته حيال نيتهم تطبيق الخطة المذكورة، أثناء اجتماعاتهم المتلاحقة مع إدارة بوش خلال الغزو على العراق. إلى جانب تكتيك آخر قد يلجأ إليه شارون في سياق التعامل المباشر مع ما يجري داخل السلطة الفلسطينية وخاصة على صعيد تعيين رئيس وزراء جديد و تشكيل حكومة جديدة أيضاً، وهو عدم الخوض أو النقاش في أية مسائل إجرائية مباشرة أو غير مباشرة على الأرض، مثل سحب قوات الاحتلال من داخل المدن والضواحي الفلسطينية إلى خارجها أو التخفيف من الضغط الاقتصادي والسياسي والنفسي أو رفع الحصارات عن الشعب الفلسطيني دون تعهد مسبق من الحكومة الفلسطينية الجديدة، بتجريد كافة فصائل العمل الفلسطيني من أسلحتها، وتفكيك بناها التحتية وبالتالي محاربتها، وفرض سيطرة الأجهزة الأمنية الفلسطينية على الشارع الفلسطيني بعد أن يتم إعادة بناؤها وتأهيلها بما يتلاءم ودورها المنصوص عليه في اتفاق أوسلو. وكذلك مواصلة العمل على عزل ومحاصرة دور ونفوذ عرفات وتجريده من أية صلاحيات وتحويله إلى مجرد شخصية اعتبارية.

هذا إذا ما أخذنا بعين الاعتبارأن جميع الخطط والسيناريوهات الشارونية في هذا الإطار، يجري صياغتها على قاعدة التماثل الاستراتيجي الأمريكي- الصهيوني حيال ما يمكن أن يحققه  الأمريكيين بعد احتلال العراق في سعيهم لإعادة صوغ المنطقة وفق المنظر والمصالح الأمريكية الاستراتيجية, وهو أمر يمكن الكيان الصهيوني وحكومة شارون بالتحديد في محاولاتها الهادفة إلى تصفية القضية الفلسطينية عبر مقايضة "الكيانية الفلسطينية" بالتنازل عن "حق العودة" وتطويع واستيعاب هذه الكيانية بما يتلاءم والاستراتيجية الأمنية الصهيونية على طريق استكمال تهويد فلسطين.

ولم تكن الحملة الإعلامية والسياسية الأمريكية المركزة على سوريا، وكذلك حملة التحريض الصهيونية المكشوفة ضدها، قبل وخلال وبعد احتلال العراق محض صدفة. حيث باتت هذه الحملة المسعورة المشتركة تتركز على جملة من القضايا يعتبرها السياسيين والعسكريين "الإسرائيليين" والأمريكيين أهم مرتكزات وعناصر القوة الذاتية السورية في الصراع مع "إسرائيل" في هذه المرحلة، ولذلك يركز معظمهم على:امتلاك سوريا لصواريخ بعيدة المدى وأسلحة كيماوية، ووجود فصائل وطنية فلسطينية وقياداتها في سوريا، وعلاقة حزب الله بسوريا، والعلاقة السورية- اللبنانية المميزة تحت يافطات مختلفة وادعاءات مزيفة مثل "محاربة الإرهاب" و "الحد من انتشار أسلحة الدمار الشامل" وما إلى ذلك، ويربط كثير من المراقبين والمحللين وخاصة في الكيان الصهيوني، هذه الحملة العدوانية الكبيرة على سوريا بمسألة على درجة كبيرة من الأهمية بالنسبة لأمريكا بالذات وهي أن أمريكا كما يقول أمير أورن المحلل العسكري في هآرتس:" تريد أن تحذر سوريا من مغبة التدخل فيما يجري داخل العراق بعد احتلاله على ضوء نشوء مؤشرات تدل على إمكانية نشوء حالة  مقاومة شعبية ضد وجود الاحتلال الأمريكي في العراق، لا سيما وأن الشارع العراقي بدأ يتحرك تلقائياً في هذا الاتجاه وبدأ يستفيق من هول الكارثة، وعلى ضوء ما  نشاهده من مسيرات ومظاهرات شعبية حاشدة تكاد تكون شبه يومية في شوارع بغداد وكربلاء والبصرة والناصرية، تطالب برحيل الاحتلال، وتندد بالمعارضة القادمة تحت حراب الاحتلال الأمريكي".

ويتجاوز الحديث في الأوساط الأمريكية- الصهيونية من وجهة نظر كثير من السياسيين في الكيان الصهيوني، حول المسائل المتصلة بسوريا، للحديث حول استراتيجية أمريكية- "إسرائيلية" مشتركة, وخطط ورؤى أمنية واقتصادية حيال ما سمي إعادة صوغ المنطقة في إطار شرق أوسط جديد ومختلف، وأن البحث يدور في هذا الإطار، كما يقول الجنرال "أفرام هاليفي" رئيس المجلس الأمني القومي ورئيس الجانب "الإسرائيلي"  في اللجنة الأمريكية- "الإسرائيلية" للحوار الاستراتيجي :" إن الحديث يدور حول التفاصيل في الخطط والرؤى المشتركة التي من شأنها تحديد الدور "الإسرائيلي" في أية بنى أو منظومات أمنية إقليمية أو أية رؤى لشرق أوسط جديد ومختلف بعد الحرب على العراق "ويرى الكثير من المحللين الإسرائيليين أن الجهد الأمريكي- الإسرائيلي المشترك في هذا الإطار، يسير في خطين متوازيين الأول يتمثل في مواصلة الضغط السياسي والاقتصادي والإعلامي وصولاً إلى ممارسة ما أسماه زئيف شيف في صحيفة هآرتس:" الخنق الاستراتيجي على سوريا ولبنان والمقاومة اللبنانية والفلسطينية" وبالتالي التأثير المباشر على حركة الشارع العربي التي بات يشكل خطورة على ما يسميه الأمريكيون و"الإسرائيليون" استقرار "الأنظمة العربية المعتدلة" هو أمر يقود بالضرورة إلى أن يلعب الكيان الصهيوني دوراً مباشراً في الخط الموازي الآخر, هو الضغط العسكري المباشر على سوريا والمقاومة اللبنانية والفلسطينية وإحداث شرخ في العلاقة السورية-اللبنانية. قبل أن يتم الشروع في صوغ وهيكلة المنطقة حسب الاستراتيجية الأمريكية ووضعها تحت الهيمنة الأمريكية المباشرة يلعب الكيان الصهيوني دور اللاعب الرئيسي.

على أية حال، بالرغم من أن الغزو الأمريكي للعراق، واحتلاله وتدمير قدراته ومؤسساته وحتى موروثه الحضاري، قد وضع المنطقة برمتها أمام حقبة استعمارية جديدة، تعيدنا إلى المرحلة الاستعمارية التي أعقبت الحرب العالمية الأولى وتنفيذ مخططات "سايكس-بيكو". فإن كثيراً من المؤشرات الهامة تظهر أن الإنجاز الاستعماري الكبير لا يزال حتى اللحظة على كف عفريت, و أن مسألة إخضاع الشعب العراقي وبالتالي إخضاع الأمة العربية برمتها لا يزال موضع تساؤل كبير لدى الدوائر الأمريكية- الصهيونية ذاتها، وأن شعوب الأمة العربية إذا ما استنفرت طاقاتها وإمكانياتها وقدراتها الكامنة الكبيرة والكثير مما تختزنه، وتوظيفه باتجاه مقاومة هذا الغزوة الاستعمارية الجديدة، وبالتالي يحول دون تنفيذ مخططاتها. إلى جانب أن مثل هذا الأمر يطرح نفسه بقوة على القوى والأحزاب والمنظمات والمؤسسات والأنظمة العربية التي لا تزال تؤمن بقوة هذه الأمة وقدرتها على مواجهة الأزمات والكوارث، ومقاومة جميع المخاطر والتهديدات التي تحاصرها هذه الأيام وتحدق بحاضرها ومستقبل أجيالها.

 الى الأعلى

الأستاذ خالد بدير


لا بد بداية من تقيم الورقة بشكل إيجابي لما تضمنته من جهد وتحليل مع كل الشكر لمركز "باحث" لأنه يقدم لنا فسحة للتفكير والتأمل في زمن تفرض علينا منابر الإعلام ولفيف من المثقفين العرب المتغربين رأي واحد لا يقبل التفكير والرأي الآخر رغم تشدقهم المتواصل بالديمقراطية.

بدايـة:

يبدو أن وضع تسمية التحالف للعلاقة بين الولايات المتحدة الأمريكية والكيان الصهيوني قاصرة على توصيف حقيقة هذه العلاقة خاصة في ظل واقع نراه اليوم يتبدى في انصهار الممارسة الصهيونية  في السياسة الأمريكية يحيله الكثيرون إلى تحكم اليمين الأمريكي الصهيوني بالإدارة الأمريكية والحقيقة أن الكيان الصهيوني بالنسبة للولايات المتحدة مسألة داخلية والهدف مما حدث وفي العراق وما يحدث أو سيحدث يستهدف تحقيق أمن هذا الكيان كقضية استراتيجية أمريكية وأي ترتيبات سياسية أو أمنية في المنطقة تصب في هذا المصب.


واعتقد أن في سياق "الترتيبات" المتعلقة بالقضية الفلسطينية أو ما يسمى " خارطة الطريق" فإن مسألة اللاجئين الفلسطينيين ستبقى حجر العثرة الذي يعيق أي ترتيب مهما كانت تسمياته لحل قضية فلسطين، إذ ستصبح، وهي موجودة، قضية اللاجئين نقطة هامة في برنامج المقاومة الفلسطينية والعربية.


وعندما نتحدث عن المقاومة الفلسطينية والعربية فإنه لا بد من التركيز على جدلية العلاقة بين المقاومة في فلسطين والمقاومة في العراق حيث أن كل طرف في هذه العلاقة يستقي من الآخر التجربة والخبرة وبالتالي يحفز فيه إرادة الصمود على طريق الوصول إلى أفق جديد عربي لأمتنا مختلف عن الأفق الأمريكي الذي يحاول الأعداء فرضه على هذه الأمة.


وفي هذا السياق لا بد من الإشارة إلى أن خارطة الطريق التي يتم طرحها أو نشرها اليوم لم تكن في يوم مؤجلة بل تستند في الحقيقة إلى مجمل الرؤية الأمريكية استناداً إلى خطاب الرئيس بوش في حزيران الماضي وما الإصلاحات التي تكثفت في تشكيل وزارة فلسطينية على رأس الطريق. والحقيقة أن الموقف الأمريكي قد استند إلى قراءة للواقع الرسمي والشعبي العربي وحدود اعتراضاته التي راهن ليس بإمكانها عرقلة أي مشروع معادي.


وبناء عليه اعتقد أن الحديث عن ضغط أمريكي على شارون أو على الكيان الصهيوني أمر ليس حقيقياً بسبب التطابق في الرؤى بين الولايات المتحدة والكيان الصهيوني. وإن كان هناك بعض التعارضات فبالإمكان حلها على حساب الطرف الأضعف وهو الفلسطيني وليس على حساب الكيان الصهيوني.


 الى الأعلى



الأستاذ رافع الساعدي


بادئ ذي بدء من واجبي أن أشكر اتحاد الكتاب العرب في سورية ومركز باحث للدراسات في لبنان والأستاذ الباحث إبراهيم أبو الهيجاء من فلسطين.

على إتاحة هذه الفرصة الثمينة وحلقة النقاش هذه وهذه الدراسة الغنية حول تداعيات العدوان الأمريكي على القضية الفلسطينية.


أستهل وجهة نظري هذه بجملة من الملاحظات التي أعتقد أنها ضرورية:

أدعو إلى تصحيح في صلب المصطلح فالعدوان ليس أمريكيا فحسب بل هو عدوان ثلاثي بكل معنى الكلمة فهو عدوان إمبريالي، استعماري بريطاني، نازي صهيوني فكما هو ديدن العصابات الصهيونية منذ الحرب العالمية الأولي حيث الخدمات الجلى التي قدمتها الصهيونية لتحصل على وعد بلفور وتشكيل الفيلق اليهودي في الحرب العالمية الثانية لتحصل  على دعم إقامة كيانها فوق أرض فلسطين وفي هذه الحرب الخدمات الاستخباراتية  والعملياتية والخاصة كخطوة لمد حدود هذا الكيان إلى ما بين النيل والفرات.

عدم التساوق مع المصطلحات الغربية وخاصة مصطلح (الإرهاب و محاربة الإرهاب)
 وضرورة التمييز بين حقوق الشعوب بالمقاومة وبين مصطلح الإرهاب الغربي فالصهاينة وقوات العدوان الثلاثي الجديد يرتكبون جرائم هي جرائم حرب موصوفة يجب أن يعاقب عليها مرتكبوها ويحاكمون أمام محكمة دولية خاصة لتتخذ بحقهم أقسى العقوبات.

إن الحرب التي جرت على امتداد الساحة العراقية كانت حرب تلفزيونية نفسية إعلامية استخباراتية. ترافقت مع حملة تضليلية واسعة هدفت إقناع قطاعات واسعة من أبناء الأمة العربية أن الهزيمة ليست للعراق وإنما هي هزيمة ماحقة للأمة العربية بأسرها.

إن ما جرى بالعراق يعود بنا إلى الوراء ما يزيد عن قرن كامل إلى بدايات القرن العشرين، الإحتلالات، والانتدابات، والتقسيمات، والمندوب السامي, ولورنس العرب، وغلوب باشا، ونور السعيد حيث الآن غارنر وفرانكس، والجلبي.

استطراداً نقول ما من شك أن انتفاضة الأقصى أظهرت في لحظات تعميم الهيمنة الكونية الأمريكية، عائقاً إعتراضياً لمواجهة (النظام العالمي الجديد) الذي لم يقدم للشعب الفلسطيني سوى (المعايير المزدوجة) بعد ما يقارب من عقد من سنوات مفاوضات الحلقة المفرغة.

ففي هذا المنعطف التاريخي أعادت الانتفاضة، صياغة كل الفصول المعلقة بالصراع، وبشكل يتكيف مع معطيات الواقع ويوظفها خدمة للقضية الوطنية، وللقضية القومية، ولقضايا التحرر الإنساني  والانفلات من أسر الاستحواذ الأمريكي، وعياً وتياراً.

وزاد الانتفاضة فرادة أنها كشفت عن الوجه البشع واللئيم للولايات المتحدة، التي عملت ومنذ تولي الإدارة الأمريكية الجديدة على  فتح أقنية تصريفية لصرف الاهتمام عن القضية الفلسطينية بترحيلها من سلم الأوليات والاهتمامات، على المستوى العربي الدولي، واستحداث مواقع صراع بديلة مع دول وأطراف أخرى كالعراق على سبيل المثال.

وإن تفصلنا أيام قليلة على الاحتلال الأمريكي للعراق، وهي فترة وجيزة بمعيار الزمن والتاريخ  والمدى المطلوب  لاستخلاص النتائج والأبعاد إزاء هذا المنعطف التاريخي وآثاره المستقبلية على القضية الفلسطينية والصراع العربي الصهيوني وأن نستشف المتغيرات الكبرى والآثار العميقة التي تركت ولا تزال أثارها العميقة على القضية الفلسطينية وانتفاضتها المباركة.

هذا مع الأخذ بعين الاعتبار ذلك الإدراك المستند إلى الوقائع الأمريكية الصهيونية، في تصريحاتها ومواقفها، ودراساتها بأن ما حدث هو انعطاف تاريخي يحاول أن يفرض شروط التسوية الأمريكية الصهيونية على القضية الفلسطينية خصوصاً وعلى المنطقة العربية عموماً وذلك انطلاقاً من تنوع الآثار وتسارع الأحداث التي تشهدها القضية الفلسطينية بعد الغزو الأمريكي للعراق (( تعيين رئيس وزراء، إنجاز مشروع الدستور، طرح خطة خارطة الطريق)).

وهذا الموضوع لا يلغي إمكانية التوقف أمام ثوابت الإدارة الأمريكية تجاه القضية الفلسطينية وتقسيمها إلى مرحلتين تميزت الأولي منها:

أن الإدارة الأمريكية الحالية أخذت على إدارة كلينتون الديمقراطية أنها لم تدرس الأحوال   (( ومتغيراتها، بالعمق الكافي، وبهذا فإن كلينتون وهو رئيس الولايات المتحدة وجد نفسه يتفاوض في كامب ديفيد مع رؤوساء ميلشيات ومسؤولين أمنيين من المخابرات والشرطة، وبالتالي فإنه على طريق طويل من (( كامب ديفيد)) إلى ((واي ريفر)) إلى ((شرم الشيخ)) قام بعملية بهدلة مهنية لنفسه ولمنصبه ولبلاده ضيعت هيبة أكبر بلد في التاريخ وفي العالم ومع ذاك لم يتوصل لنتيجة. مما جعل رئيس الولايات المتحدة رهينة يتحكم في نجاحها أو فشلها رجال قادمون من الظلام وعائدون إليه ((حسب توصيات التقرير الرئاسي لإدارة بوش)).

التأكيد على التحالف الاستراتيجي غير المكتوب مع الكيان الصهيوني، حتى يفهم الجميع بغير التباس أن القوة الأمريكية في مجملها توظف لخدمة الكيان الصهيوني.

الحث على وقف أعمال المقاومة الباسلة وإجهاض الانتفاضة، والدعوة إلى مائدة التفاوض ضمن الشروط والمعايير الصهيونية والأمريكية مع التلويح بتحميل عواقب استمرار الانتفاضة للشعب الفلسطيني.

أن العودة لاتفاقات أوسلو ومن خلال تقييم تجربة المفاوضات السابقة هو مضيعة للوقت، وبالتالي فإن الولايات  المتحدة تتنصل منه ومن نتائجه حتى على مستوى الاتفاقيات الهزيلة والمجحفة التي تم توقيعها ما بين السلطة وقادة الكيان الصهيوني

إعلام الفلسطينيين بشكل حاسم أن الولايات المتحدة لن تقبل دون أدنى شك إعلان قيام دولة فلسطينية من طرف واحد.

وفي الفترة التي سبقت أحداث 11 أيلول/ سبتمبر تمثلت السياسة الأمريكية حيال الصراع العربي الصهيوني في فلسطين في أدنى مشاركة أمريكية، إضافة  لدعم شارون في تحديده لمفهومي العنف ووقف إطلاق النار مع تحميل الجانب الفلسطيني كامل المسؤولية عما آلت إليه الأمور، وبنفس الوقت المطالبة الأمريكية بعدم الإفراط في الرد على الأعمال الفلسطينية.

مع إصرار الإدارة الأمريكية على قيام عرفات بكامل جهده لقمع الانتفاضة والزج بالمناضلين في المتعقلات.

لقد كانت السياسة الأمريكية في أدائها الانحيازي اتجاه الانتفاضة الفلسطينية تستهدف احتواء المجابهة الفلسطينية- الصهيونية، وبحيث لا تتناثر شظاياها وتنعكس مفاعلها على المستوى العربي والإقليمي.

وأما بعد أحداث أيلول/سبتمبر فإن مرحلة ثانية برزت في تعامل الإدارة الأمريكية مع القضية الفلسطينية حيث دفعت ولا تزال تدفع أثماناً باهظة لمرتكزات السياسة الأمريكية في المنطقة، بل وحتى لمواقف ومصالح واستراتيجيات الهيمنة الأمريكية على المستوى الدولي، ولا تأتي بجديد إذا أشرنا أن السياسة الخارجية الأمريكية معزولة تماماً عن مواقع الصيرورة السياسية والفكرية الأمريكية نحو القضية الفلسطينية وطبيعة العلائق مع الكيان الصهيوني الذي اشتدت دعائمها بعد عدوان 1967 إلا أن بعد أحداث أيلول/سبتمبر أخذت تأخذ أبعاداً كارثية في طبيعة التوأمة الكاملة ما بين الكيان الصهيوني والولايات المتحدة بإدارتها الحالية. فالإدارة الأمريكية رسمت سقف المجاز فلسطينياً وتركت للآخرين مجال التحرك في ظله، وأسقطت عن الحقوق الفلسطينية طبيعتها غير القابلة للتصرف عبر ربطها بإملاءات  وشروط مختلفة. إضافة على ظهور الافتراض البين في كلاسيكيات السياسة الأمريكية التقليدية التي تقوم على البراغماتية واعتبارات المصالح والتصورات الجيوسياسية، سيما لحلفائها في المنطقة العربية الذين يبحثون عن حفظ ماء الوجه من خلال حلول يستطيعون تبريرها أمام شعوبهم.

إجمال العدوان على العراق هي حرب استباقية لخدمة المخططات الصهيونية العالمية من خلال قطع الطريق على استكمال قوس التحدي والتصدي قوس الصمود والمقاومة الممتد من بيروت إلى دمشق إلى بغداد إلى طهران بما يمثل كداعم هام للمقاومة الفلسطينية وكقوس قوى يتصدى لمخططات قوى الاستعمار والاستكبار.

فيما تسعى قوى الاستعمار والاستكبار لإحكام طوق دائرتي حصار الأولى تشمل الكيان الصهيوني وشرق الأردن والعراق المحتمل وتركيا لحصار سوريا ولبنان والمقاومة الفلسطينية والثانية التي تضم تركيا والعراق المحتمل والخليج المزدحم بالبارجات وحاملات الطائرات وأفغانستان وعدد من الجمهوريات السوفياتية السابقة وذلك لحصار إيران بما تمثل من عمق للصمود والمقاومة.

وفي فلسطين (لفرط فرحة الشعب الفلسطيني برئيس الوزراء الأول وفرحته بخارطة الطريق ويالها من فرحة دامية فإنه قدم خمسة عشر ضحية شهداء في غزة والضفة ابتهاجاً وأي ابتهاج).

أما موقع الأحداث الفلسطينية فإن دماء وأشلاء الشهداء وحدها الكفيلة بوضع قضية فلسطين في مكانها المناسب وفي الصدارة دائماً.

ختاماً ومصداقاً لقوله تعالى (إن مع العسر يسرا.......... إن مع العسر يسرا)

فإن المستقبل للمقاومة... المستقبل للمقاومين... للصامدين... للمجاهدين... للثائرين.

أما مخططات الإمبريالية والاستعمار والصهيونية فهي إلى فشل وراء فشل فإرادة الشعوب هي بعون الله .. الأقوى.. وهي الأبقى.. وهي الأعلى.

 الى الأعلى



الأستاذ عبد الرحمن غنيم


في الحديث عن تداعيات الاحتلال الأمريكي للعراق على القضية الفلسطينية، قد يبدو للبعض أن هذا الاحتلال هو حدث منفصل عن مجرى الصراع العربي- الصهيوني، أو أن تأثيراته العملية تقف عند حدود هذه التداعيات.

في العام1999, أي قبل أحداث 11 أيلول (سبتمبر) 2001, كتب هنري كيسنجر، وهو صاحب الباع الطويل سواء في السياسات الأمريكية أو الصهيونية منذ عدة عقود من الزمن، متناولاً صعوبة الوصول إلى ترتيبات سلام بين الفلسطينيين والصهاينة، معتبراً ذلك تحدياً للحسابات الصهيونية، وأضاف قائلاً:" ما يزيد التحدي تعقيداً أن الخطر الأساسي المستقبلي على "إسرائيل" على الأرجح لا من الأراضي المتنازع  في شأنها الآن بل من صواريخ بعيدة المدى وأسلحة دمار شامل جرى تطويرها في دول خارج حدود فلسطين. وفي عالم مثل هذا، لا يتوقف أمن "إسرائيل" على التسوية الإقليمية فقط، وإنما على علاقات سياسية مع دول ديمقراطية متماثلة في الرأي، وعلى علاقة ثقة وتعاون مع الولايات المتحدة. وهذا هو الأهم"[1].

حين نفكر في هذه الشروط التي أوردها كيسنجر، يتبين لنا بوضوح أن غزو العراق واحتلاله وتدمير قوته، ليس نهاية مطاف في المجابهة مع العراق منذ عام 1990، وإنما هي خطوة في تدابير تشمل المنطقة, وأن هذه الخطوة جاءت في خدمة الحسابات "الإسرائيلية" بالدرجة الأولى، مع يقيننا بوجود حسابات أمريكية أيضاً.

فالمشكلة هي في امتلاك دول عربية وإسلامية، لصواريخ بعيدة المدى وأسلحة دمار شامل، رغم أن "إسرائيل" تمتلك مثل هذه الأسلحة. وتجريد الدول من أسلحة الدمار الشامل والصواريخ البعيدة المدى، ليس إجراء كافياً، فلا بد لأجل أمن "إسرائيل" من تسوية إقليمية، وعلاقات سياسية مع دول ديمقراطية, وهذه الديمقراطية المدعاة مكبلة بشروط غير ديمقراطية عملياً، مثل التماثل في الرأي   - مع أمريكا و"إسرائيل” طبعاً- وعلى علاقة ثقة وتعاون مع الولايات المتحدة- أي تابعة لها- وهذا- كما يقول كيسنجر- هو الأهم.

باختصار شديد، فإن الاحتلال الإسرائيلي" لفلسطين أو للجزء الأكبر منها لن يكون كافياًً لحسابات الأمن "الإسرائيلي"، رغم ضخامة الترسانة العسكرية لدى "إسرائيل"، فالمطلوب هو أن يكون المحيط الإقليمي مهيمناً عليه أمريكياً بشكل كامل حتى يطمئن "الإسرائيليون" إلى أنهم يستطيعون العيش بأمان.

وفي تقرير للكونجرس، يعود أيضاً إلى العام 1999, فإنه يبرز العناصر الأساسية التالية حول التطورات المحتملة في الألفية الثالثة:

إن التغيرات في الألفية الثالثة ستحدث بسرعة كبيرة، وستنتقل التهديدات بنفس السرعة. وأن الصراعات التقليدية ستستمر، ولكن أخطر التهديدات ستكون "الهجمات غير المعلنة على المدن الأمريكية بالجراثيم المعالجة وراثياً مما يتحدى ردود الفعل التقليدي"

إن أهمية نفط الشرق الأوسط ستزداد, ولذلك سيستمر الوجود الأمريكي بالخليج.

يذكر  التقرير أن السؤال الذي لم يخط بنقاش واسع بعد هو أن مع نهاية القرن العشرين ستؤدي زيادة متوسطات الأعمار في الدول الصناعية إلى وجود جيوش من كبار السن، بينما   سيصبح لدى العالم الثالث والدول الإسلامية بصفة خاصة فائض من الشباب.

إن أعداء الغد بالنسبة لأمريكا سيتشكلون من نوعين: أولئك الذين تحطمت آمالهم، وأولئك الذين ليست لهم أية آمال[2].

ومن الواضح أن أحداث 11 أيلول في الولايات المتحدة جاءت لتؤكد المخاوف الأمريكية، وزاد من هذه المخاوف التوسع في تنفيذ العمليات الاستشهادية ضد الصهاينة في ظل الانتفاضة الثانية، حيث لم يخف الأمريكيون خشيتهم من انتقال هذا الأسلوب إلى داخل الولايات المتحدة بحكم تأييدها المطلق للكيان الصهيوني، بل إن ما حدث في 11 أيلول يمكن إدراجه في هذا السياق.

في ضوء هذه الحسابات، جاء وضع العراق على قائمة الغزو بعد أفغانستان للاعتبارات التالية:

السيطرة على احتياط النفط العراقي إلى جانب السيطرة القائمة على نفط الخليج.

حرمان العراق من طاقاته العملية وإمكانية تجنيدها في إنتاج أسلحة دمار شامل أو صواريخ بعيدة المدى بعد رفع الحصار عنه. ولا سبيل إلى ذلك سوى الهيمنة على الحكم في العراق وتشتيت قدراته العلمية.

حرمان سوريا من عمقها الاستراتيجي المتمثل  بالعراق.

إلغاء دور العراق كجسر بري للتواصل بين إيران وسوريا.

ومما سعّر من الرغبة الأمريكية في ضرب العراق، إضافة إلى التحريض الإسرائيلي، أن العراق كان قد اقترح صيغة لتخفيض صادرات النفط دعماً للانتفاضة الفلسطينية، كما أنه قام بتخصيص مساعدات مالية لضحايا الانتفاضة مما اعتبره الأمريكيون تشجيعاً لما يدّعون أنه "إرهاب" فلسطيني. وبالإضافة ادعاءاتهم حول وجود أسلحة دمار شامل في العراق، أو حول علاقة محتملة للعراق بـ"القاعدة" أو منظمات إرهابية أخرى، صاغوا مجموعة من الأهداف التي برروا بها عدوانهم على العراق، وسعوا عملياً إلى خلق وضع جديد في العراق يحرمون فيه الانتفاضة الفلسطينية من أحد مصادر دعمها الأساسية.

إن وضع هذه الاعتبارات الأخيرة في الحسبان، لا يعني أن قرار أميركا بتقويض النظام العراقي كان طارئاً، وأنه وليد إدارة بوش الابن وطاقمه اليميني؛ مثلما يتجه تفكير الكثير من الباحثين هذه الأيام. فقد كان هذا القرار قائماً لدى حكومة بوش الأب عام 1991, ولكن الاعتبارات وحسابات استراتيجية هي التي جعلت الإدارة الأمريكية تجهض الانتفاضة ضد النظام في ذلك الحين، بانتظار ظروف أخرى ملائمة لإكمال ما بدأته آنذاك.

أورد في هذا السياق تحليلاً لي للوضع ورد في كتابي " الغصة وكرة النار"، وقد كتب في شهر كانون الثاني (يناير) عام 1991و كانت القوات العراقية لا تزال تحتل الكويت، وكان صدام يواصل حديثه عن "أم المعارك".

لقد جاء في التحليل آنذاك ما أورده هنا حرفياً لما في ذلك من دلالة على كون أن الحسابات الاستراتيجية "الإسرائيلية" كانت ولا زالت هي الأهم، وهي التي خدمتها السياسة الأمريكية طوال الوقت.

لقد أوردت حرفياً القول:"قبل اجتياح العراق للكويت كانت مخاوف "إسرائيل" من الدور العراقي تتمثل في النقاط التالية:

إن العراق قد خرج من حرب الثماني سنوات وهو أكثر قوة على  الصعيد العسكري، سواء من حيث عدد القوات أو التسلح، أو الخبرة القتالية.

إن العراق قد نجح من خلال الحرب في تطوير تكنولوجية الصناعة الحربية لديه.

إن العراق قد أنتج وينتج أسلحة كيماوية وجرثومية ومن المحتمل أن يكون قد أنتج أو على وشك أن ينتج أسلحة نووية.

إذا لم يستخدم العراق أسلحته هذه بشكل مباشر ضد "إسرائيل" في عمل هجومي، فإن وجود هذه الأسلحة يشكل عامل ردع "لإسرائيل" إذا هي شنت هجوماً على العرب، حيث يشكل العراق العمق الاستراتيجي لسوريا والأردن.

إن احتمال الوفاق بين سوريا والعراق بعد أن وضعت الحرب العراقية- الإيرانية أوزارها قد تعزز. وإذا تم هذا الوفاق فإن نمط العلاقة العراقية- الإيرانية سيتعزز لمصلحة إقامة جبهة من الدول الثلاث في مواجهة "إسرائيل".

ولكي تتخلص "إسرائيل" من هذا القلق المرعب الذي ينذر بدفن أحلامها في إقامة "إسرائيل" الكبرى، بل وبإمكانية انهيارها، فقد كانت بحاجة إلى:

إيجاد قوة حليفة في المنطقة تشل فاعلية دور العراق كعمق استراتيجي لجبهة المواجهة العربية.

محاولة ضرب البنية التحتية للصناعات العسكرية في العراق وتدمير أسلحة العراق الأساسية.

السعي لإسقاط النظام العراقي، ليحل محله نظام تتوفر فيه الشروط التالية:

أن يكون موالياً للغرب.

أن يكون مضاداً لسوريا، ممتنعاً عن فكرة الوحدة معها.

أن يكون مسالماً "لإسرائيل".

"إن ترتيب البنود الثلاثة هنا وفق هذا التسلسل ليس ترتيباً اعتباطياً. فتغيير النظام القائم الآن في العراق حتى وإن توفرت إمكانية تحقيقه تواً، لن يتم إلا بعد ضرب القدرة العسكرية العراقية، بحيث يجيء  النظام الجديد نظام سلام وإنقاذ, وتحظى سياسته الانعزالية بالشعبية من قبل شعب منهك القوى مل مغامرات النظام السابق. وليس بالوسع توجيه مثل هذه الضربة إلا بعد تواجد القوات الحليفة "لإسرائيل" بكل ثقلها في المنطقة، لأن "إسرائيل" عاجزة عن توجيه هذه الضربة، خاصة وأن سوريا كانت قد أكدت أنها ستقف ضد كل محاولة "إسرائيلية" للاعتداء على العراق، مما يعني أن "إسرائيل" ستواجه العراق وسوريا معاً"

" فما الذي فعله صدام حسين باجتياحه للكويت؟

"لقد جعل خطة "إسرائيل" التي كانت تبدو مستحيلة ليس فقط في نطاق الممكن، ولكن في نطاق التنفيذ العملي"[3].

لكن التنفيذ العملي، جاء بالأمريكيين إلى المنطقة، وألحق بالعراق ضربة عسكرية مؤثرة، وفرض على العراق حصاراً دولياً، وخطة لتدمير أسلحة الدمار الشامل والصواريخ متوسطة المدى لديه. أما تغيير النظام، فقد خذل بوش الأب المعارضة العراقية بصدده. لماذا؟

لأن المعارضة العراقية آنذاك، كانت معارضة صديقة لسوريا أو لسوريا و إيران معاً. ومثل هذه المعارضة ليس من مصلحة "إسرائيل" أو أمريكا أن تحل محل صدام حسين في حكم العراق. كما أن تسلمها  للحكم قد يفوت الفرصة على القرارات المتعلقة بمحاصرة العراق أو نزع أسلحته.

ومن المعروف والمؤكد أن الأمريكيين عملوا منذ العام 1991 على إيجاد معارضة موالية لهم، ومع ذلك فإن نجاحهم في هذا المجال لم يكن مؤثراً أو حاسماً. وهذا ما يجعلهم يحذرون من دور سوري أو إيراني في العراق.  والواقع أن هذا الحذر هو من قوى المعارضة الوطنية والأساسية في العراق. وهم على كل  حال سيحاولون استغلال حالة الاحتلال لفرض الحكومة المؤقتة التي تناسب أهدافهم. ولكن حتى في ظل هذه الحكومة، فإنهم يتابعون تقويض القدرات العسكرية العراقية، وربما كان ذلك يتم تحسباً من احتمالات المستقبل.

إن الهدف الأمريكي الأساسي في العراق هو إيجاد وضع ممتنع على الوحدة، سواء كانت الوحدة العربية أو الوحدة الإسلامية. وهذا ما يستجيب بطبيعة الحال لأهم متطلبات الاستراتيجية "الإسرائيلية".

غير أنه إذا كانت الوحدة العربية أو الإسلامية هي التحدي الذي تخشاه "إسرائيل" فإن اتساع نطاق المقاومة أو ما تسميه أميركا بـ"الإرهاب" هو التحدي الذي تواجهه الولايات المتحدة، وهو تحدٍ مؤكد بالنسبة للوضع في العراق، مثلما واجهته أميركا من قبل في لبنان والصومال، ومثلما تواجهه حالياً في أفغانستان.

وهذا الوضع يؤكد عليه أناتول ليفين بقوله:" إن الموازنة الدفاعية للولايات المتحدة توازي 40% من  مجموع موازنة الدول الأخرى على التسلح. وبالتالي لا تستطيع أي دولة أن تطمح للانتصار على الولايات المتحدة عسكرياً حتى في عملية محدودة. لكن خطر الإرهاب لا يمكن الانتصار عليه في النهاية بدحر واحتلال دولة إسلامية بعد أخرى"[4].

هذه هي الحقيقة التي يجب أن نركز عليها الانتباه والاهتمام في الصراع. فمن المستحيل كسب حرب تقليدية مع الولايات المتحدة، و"إسرائيل" عملياً هي جزء من الولايات المتحدة في حساب الصراع؛ ولا تلوح بوادر لانفصالها عن هذا الواقع في المدى المنظور إلا إذا حدثت تحولات جذرية في السياسة الأمريكية أو حدثت تحولات جذرية في توازن القوى على الصعيد الدولي. وإلى أن يحدث ذلك، فإن المقاومة هي السبيل الوحيد لمواجهة طغيان "إسرائيل" أو طغيان الولايات المتحدة. فبالأسلحة البسيطة فقط يمكن النفاذ إلى القوة الطاغية لإلحاق الضربات بها. وإذا كان الصراع محصوراً في المقاومة الفلسطينية ضد "إسرائيل" ومن ورائها الولايات المتحدة، وإن لم تستهدفها المقاومة الفلسطينية، فإن احتلال أميركا للعراق فتح الباب أمام انضمام المقاومة العراقية إلى  المقاومة الفلسطينية في الصراع.

وإذا كان هناك من أمل في تعديل حالة الهيمنة الأمريكية المطلقة على العالم وما يترتب عليها من سياسات، فلا شك أن أوروبا الغربية هي المرجحة أكثر من أي قوى أخرى للقيام بهذا الدور. وهنا يقول ليفين إنه:"إذا تورطت الولايات المتحدة باحتلال عسكري دموي في الشرق الأوسط، فإن الحفاظ على تلك القواعد (الموجودة في أوروبا) سيصبح قضية أساسية في السياسة الأوروبية. مثل "إسرائيل" قد تصبح أميركا مصدر خطر أكثر من أن تكون عنصر قوة لأوروبا في ما يتعلق بخطر الإرهاب. وكما أشار وليم بفاف (صحافي أميركي في الهيدالد تربيون)  سيكون ذلك في وقت لا تشعر فيه أوروبا بأي خطر من الشرق. وهو لاحظ أيضاً أن الانتقادات الأوروبية "لإسرائيل" لم تدعمها اليوم إجراءات عملية. ولكن في حال قرر الأوروبيون توقيع عقوبات اقتصادية كأداة ضغط يمكنهم مع الوقت أن يتسببوا بأضرار فادحة للاقتصاد "الإسرائيلي"[5] .

مثل هذا التصور يفترض حدوث مقاومة أوسع من حدود المقاومة داخل الأقاليم التي استباحها الاحتلال (فلسطين- العراق- أفغانستان)، والمشكلة في هذا الخصوص قد لا تكون في توفر الإدارة، ولكن في انعدام القيادة، وفي انعدام قواعد الاستناد، وفي انعدام الخطط الواضحة والأهداف الواضحة.

ولكي تتبلور الصورة أكثر، يحسن بنا استرجاع النموذج الأفغاني لما أسمي بالجهاد ضد الاحتلال السوفياتي، وما تسبب به من انهيار الاتحاد السوفياتي.

في كانون الثاني1998, زبينغيو بريجنسكي إلى مجلة "لونوفيل أوبسرفاتور" الفرنسية أن الرئيس كارتر كان قد وقع في  3 تموز 1979 أول أمر متعلق بتقديم مساعدة سرية إلى معارضي النظام الأفغاني المقرب من موسكو، وأن بريجنسكي كتب في ذلك اليوم تقريراً إلى الرئيس كارتر قال  فيه إنه يعتقد أن هذه المساعدة سوف تؤدي إلى تدخل عسكري سوفياتي في أفغانستان. وأضاف بريجنسكي "لقد كان هذا القرار السري فكرة ممتازة. فهو أدى إلى استدراج السوفيات إلى الفخ الأفغاني". وقال إنه فور الإعلان رسمياً عن اجتياز الجيش السوفياتي للحدود الأفغانية كتب تقريراً إلى كارتر يقول فيه "هاهي الفرصة قد سنحت لنا لكي نقدم إلى الاتحاد السوفياتي حرب فيتنام الخاصة به" وأضاف إن الاتحاد السوفياتي قد اضطر بذلك إلى خوض حرب " ليس بالإمكان تحملها" طيلة عشر سنوات, وأن هذه الحرب قد أدت في النهاية إلى تثبيط همة الإمبراطورية  السوفياتية ومن ثم انهيارها[6].

لماذا صح أن تكون أفغانستان فخاً للسوفيتيين  ولا تكون فخاً للأمريكيين بالمقابل؟ يكفي أن نذكر أسماء الدول التي اشتركت في تقديم المساعدة لمن أسموا أنفسهم بـ"المجاهدين"، و نظرت إليهم واشنطن كمرتزقة يخوضون  الحرب نيابة عنهم. فإضافة إلى باكستان حاضنة "المجاهدين" وممر الأسلحة والمساعدات المختلفة ضمت القائمة الدول التالية: الولايات المتحدة- مصر- السعودية- الصين- بريطانيا- فرنسا- "إسرائيل"[7]. وهناك بالتأكيد عشرات الدول الأخرى التي ساهمت بشكل أو بآخر في مساعدة وتمويل "المجاهدين" الذين تحولوا في نظرها الآن إلى إرهابيين، وباتت تشارك في مطاردتهم، بعد أن وجهوا أسلحتهم في مواجهة أميركا، منقلبين عليها، وبعد أن أقدموا على عمليات إرهابية دراماتيكية لا يمكن أن تكون مبررة مثل عمليات 11 أيلول (سبتمبر) في أميركا وعمليتي نيروبي ودار السلام في إفريقيا.

لكن ما هو أكثر خطورة في تشكيل ما أسمي بالتحالف الدولي ضد الإرهاب إنما تمثل في الخلط بين "الإرهاب" وبين "المقاومة". فكل دولة تواجه مقاومة "إسلامية" محلية، هدفها الحرية وتقرير المصير، وجدت الفرصة ملائمة للانضمام إلى هذا التحالف، مدعية أن ما تواجهه هي أيضاً هو إرهاب. وقد مضى الكيان الصهيوني في عملية تصوير المقاومة الفلسطينية على أنها إرهاب إلى أقصى الحدود. ووجد هذا الانتهازي قبولاً لدى الإدارة الأمريكية التي باتت تعتبر فصائل المقاومة الفلسطينية إرهاباً، بينما تصف الإرهاب الصهيوني المتواصل وما يرتكبه من جرائم ضد المواطنين الفلسطينيين على أنه دفاع مشروع عن النفس.

وفي ظل هذه الظروف جاء الاحتلال الأمريكي- البريطاني للعراق, هذا الاحتلال الذي تم بسهولة نسبية لم تكن متوقعة، ولا يمكن تفسيرها إلا بأن العراقيين ميزوا بين معركة الدفاع النظام ومعركة الدفاع عن الوطن. ولكن من المهم هنا أيضاً التمييز بين نمطين من الحرب: نمط الحرب الشاملة بوسائل القتال التقليدية والتي يستحيل فيها على أي دولة في العالم التغلب على القوة الأمريكية الطاغية, ونمط المقاومة الشعبية التي تعطي للشعب المقاوم ميزات كبيرة تمكن من استنزاف قوات الاحتلال. وهذا هو نمط المقاومة الذي نعتقد أنه سيتبلور, وبسرعة نسبية في العراق, مثلما يتبلور في أفغانستان، ويستفيد من تجربة المقاومة الفلسطينية الباسلة للاحتلال. ومن الممكن لهذا النمط من المقاومة أن يتسع ليشمل كل المواقع التي تتواجد فيها قواعد للقوات الأمريكية، وخاصة في البلدات العربية والإسلامية.

ولا شك أن الأمريكيين يتحسبون من جانبهم لهذه الاحتمالات، وهذا ما يفسر السرعة التي تحركوا بها لمحاولة تطويق احتمالات المقاومة القادمة، والتي يمكن تلخيص خطواتها المعلنة وخلفياتها بما يلي:

أولاً: المسارعة إلى توجيه التهديدات إلى سوريا، وبغض النظر عن التفاوت بين الملامح الأمريكية و "الإسرائيلية" لهذه التهديدات، فإن الأهداف الأساسية المباشرة لهذه التهديدات تمثلت فيما يلي:

الحيلولة دون لجوء قادة النظام العراقي السابق إلى سوريا.

الحيلولة دون استمرار تدفق متطوعين عرب إلى العراق.

الحيلولة دون تصعيد في المقاومة الفلسطينية ضد الاحتلال الصهيوني يعكس آثاره المباشر على معنويات وتفكير العراقيين، ويحرض على بدء المقاومة للاحتلال في العراق.

تفادي الممانعة السورية العلنية لخارطة الطرق التي نضج طرحها فقط بعد احتلال  العراق، مما يدل، على العلاقة بين هذه الخارطة وبين غزو العراق وما يتبعه من خطوات أميركية في المنطقة.

ومن المؤكد أيضاً أن الأمريكيين يتحسبون للدور الذي يمكن أن تلعبه سوريا في جمع إرادة المعارضة الوطنية العراقية بمواجهة الموقف الجديد، بحكم العلاقة التاريخية القوية لسوريا مع المعارضة الوطنية العراقية.

ومن المرجح أن الأمريكيين و"الإسرائيليين" أيضاً، يضعون في حسبانهم الاحتمال الكبير في أن يقود انهيار نظام صدام حسين في العراق إلى إنهاء انشقاق حزب البعث العربي الاشتراكي بين قيادتين قوميتين واحدة في دمشق وثانية في بغداد، بحيث تعاد اللحمة إلى منظمات الحزب القومية بقيادة دمشق، وهو ما يمثل مشكلة حقيقة بالنسبة للاستراتيجية الصهيونية التي ترى أن استمرار الكيان الصهيوني رهن بمنع الوحدة العربية. ولا شك أن لجوء قيادات النظام العراقي إلى سوريا كان سيسرع في هذا التطور.

ولكن, حين نفكر في هذه الأمور من وجهة النظر السورية، نستطيع استخلاص العناصر التالية:

إن سوريا التي كانت ملاذاً دائما للمعارضة العراقية، بجميع اتجاهاتها السياسية، على مدى أكثر من نصف قرن؛ لا تمانع من حيث المبدأ في استقبال أركان النظام كلاجئين، ولكن في ضوء كون المشكلة الناشئة هي احتلال أجنبي، فإن المصلحة تقتضي صمود هؤلاء وما يمثلون من دور وإمكانيات إلى جانب المعارضة العائدة إلى الوطن، وما عليها أن تفعله هو بذل الجهد أو التوجه للحيلولة دون إثارة اقتتال بين العراقيين وتوجيه التفكير نحو مستقبل ديمقراطي على قاعدة وحدة وطنية عريضة. والأهم التوافق العراقي على مقاومة الاحتلال في حالة انكشاف نيته في البقاء كقوة محتلة. وهذا ما يفسر القرار السوري في إغلاق الحدود مع العراق. فهو ينبع من الحسابات القومية والمصلحة القومية. وليس من أي اعتبار آخر.

إن عراق ما بعد الاحتلال لم يعد بحاجة إلى متطوعين عرب من الخارج، فهؤلاء قد تترتب عليهم واجبات ومسؤوليات نضالية، ولكن ليس على أرض العراق حيث يتوجب على أبناء العراق تنظيم مقاومتهم للاحتلال بكل سبل المقاومة الممكنة من خلال تشبثهم بأرضهم وسلاحهم وحقوقهم.

إن المقاومة الفلسطينية حق لعرب فلسطين، يمارسونه فوق أرضهم المحتلة، وليس لأحد الحق في التدخل لمنع عرب فلسطين من ممارسة هذا الحق. وكل محاولة لوصف المقاومة الفلسطينية على أنها إرهاباً إنما هو قلب للحقائق. ومن شأنه الإضرار  بالتعاون الدولي في مواجهة الإرهاب؛ مما يجعل الولايات المتحدة هي الخاسرة في نهاية المطاف، جراء خضوعها للمنطق "الإسرائيلي" المخالف للحق والحقيقة.

إن لسوريا دون شك وجهة  نظرها الخاصة في كل حل سياسي يتعلق بالصراع العربي- الصهيوني بحكم كونها طرفاً مباشراً في هذا الصراع، ولها أرض محتلة، وبحكم واجبها القومي أيضاً.ولكنها لا تطغى على كل حال على حق الفلسطينيين في خياراتهم سواء تعلق الأمر في استمرار المقاومة أو السعي إلى تسوية سلمية.

إن المعارضة الوطنية العراقية تمثلها أحزاب لها تجربة نضالية طويلة، وهي ليست بحاجة إلى وصاية خارجية عليها، سواء كانت هذه الوصاية عربية أو إسلامية أو أمريكية. والموقف يقتضي  تمكين شعب العراق من ممارسة خياره الديمقراطي بنفسه.

إن محاولات الربط بين أخطاء تجربة النظام العراقي بكل أبعادها وبين تجربة حزب البعث العربي الاشتراكي بشكل عام، بغرض إضعاف  الدور القومي للحزب هي محاولات لن تصمد طويلاً. ولا بد للتجربة الأصيلة لهذا الحزب من أن تتعمق وتتطور، خاصة وأن جماهير الأمة المكلومة باتت أكثر إيماناً بحاجتها إلى الوحدة لمواجهة ما آل إلية الوضع العربي.

ثانياً: كانت إيران هي الدولة الثانية من دول المنطقة التي تتوجه إليها التهديدات الأمريكية. وهي دولة كان الرئيس الأمريكي يوش قد صنفها ضمن ما اعتبره محور الشر إلى جانب العراق و كوريا الشمالية. وهذا التصنيف له دوافعه الأمريكية بالطبع، ولكن له أيضاً دوافعه "الإسرائيلية". ولا شكل أن جانباً من احتلال العراق يتمثل في جعله عازلاً جغرافياً بين إيران وسوريا تحسباً من عون إيراني لسوريا في حالة نشوب حرب بين "إسرائيل" وسوريا. ولكن هذا العزل لا يكفي في نظر الصهاينة, طالما أن إيران تطور إنتاجها الحربي ومن صمنه الصواريخ البعيدة المدى التي ترى فيها "إسرائيل" خطراً عليها. وهذا ما بجعلها تحرض الأمريكيين على غزو إيران أيضاً.

وأما بالنسبة لأميركا, فإن إضافة إلى هذه الحسابات "الإسرائيلية"، لديها مخاوفها الخاصة من دور إيراني في العراق، في حالة نشوء مقاومة ضد الاحتلال . وهي تحول منع مثل هذا الاحتمال. حتى وإن تضمن ذلك الحيلولة دون عودة بعض قوى المعارضة العراقية من إيران إلى العراق بعد سقوط النظام العراقي.

وفي ضوء هذا الاحتمال، لجأت أمريكا إلى التفاهم مع منظمة مجاهدي خلق المعادية لإيران بعد أن كانت تصنفهم على قائمة  الإرهاب لكونهم يستظلون بنظام صدام حسين، مما يشير إلى احتمال اعتماد واشنطن على هؤلاء في مواجهة إيران في المستقبل. فالإرهاب يكون مقبولاً حين يضع نفسه في خدمة واشنطن ومرفوضاً فقط حين يقف ضد حلفائها.

ثالثاً: أقحمت الولايات المحتدة خارطة الطريق على الساحة الفلسطينية في الوقت الذي رأيه ملائماً بعد انتهاء غزو العراق؛ وإن حاولت إظهار هذا التوقيت على أنه جاء بعد تشكيل حكومة محمود عباس. ولعل الممانعات التي سبقت تشكيل هذه الحكومة  كانت نوعاً من السيناريو المدروس، بهدف تشكيلها في اللحظة المناسبة بالنسبة لواشنطن؛ خاصة حين نلاحظ أن الصيغة التي قدمت لهذه الخارطة يوم 20 نيسان 2003  مما يعني أن تأخير طرحها كان مقصوداً، وأنها طرحت لتبدو نوعاً من المكافأة والسلوى لكل تلك الأنظمة العربية التي أسهمت بشكل أو بآخر في تغطية أو تسهيل عملية الغزو الأمريكي- البريطاني للعراق.

لكن السؤال الذي يطرح نفسه الآن هو التالي: هل تكون خارطة الطريق مدخلاً لحل القضية الفلسطينية وخفض التوترات في المنطقة، أم تكون على العكس من ذلك مدخلاً لحرب جديدة، ربما كانت حرباً تشنها "إسرائيل" على سوريا ولبنان أو حرباً تشنها الولايات المتحدة على إيران؟ وهل تتحول خريطة الطريق من حل مقترح إلى ذريعة لحرب أو حروب أشد هولاً؟

لعل الهجوم الصهيوني على حي الشجاعية في غزة بالدبابات وطائرات الأباتشي في نفس الليلة التي أعقبت تسليم خارطة  الطريق الدلالة على أن ما هو آت لن يكون سلاماً وأمناً وحلاً مقبولاً فلسطينياً، ولا سلاماً وأمناً إقليمياً. وللتثبت من ذلك يكفي أن نعود إلى الرأي الذي نقلناه عن كيسنجر في بداية هذه الدراسة. فمن أجل أمن "إسرائيل" هم يستهدفون كامل الوضع الإقليمي في المنطقة، وقد بدأوا هذا الاستهداف من العراق، ولكنهم لن يتوقفوا عند هذا الحد


 الى الأعلى

الأستاذ عبد اللطيف مهنا


بادئ ذي بدء أقدر الجهد المبذول الجيد والجاد والدقيق لكاتب الورقة وأنا منحاز إليه ولا أختلف معه في آرائه التي طرحها موقفاً ومنهجاً ومنهماً، فقد أوفى بكثير مما يجب أن يقال في هذا السياق، لكننا لسنا هنا للمديح لمن ننحاز إليهم وإن كنا نؤيد ما قاله مع إضافة أو تشذيب لهذه الأعضاء الرئيسية التي يمكن أن تطرح فروعاً أخرى من الأفكار والرؤى البناءة من اجتهادات قد تفي العمل وربما استنباط هذه الأفكار والعمل عليها ودمجها مع ما يؤاخيها يكون أفيد.

فكل ما قيل ويقال الآن لا نختلف بالرؤية فيه كخطر محدق ينشب براثنه فينا، خصوصاً في سياق الأزمة الحالية التي زادت معاناتنا من المحيط إلى الخليج، ألا وهي أزمة العراق التي فعلت باتفاق ودقة غير منظورين تاريخياً وأصبح المواطن العربي أمام هذا الضغط الكبير من البيانات والخطابات وأحدث الأسلحة والواضح للعيان أن ما حصل في العراق لم يكن حرباً بل كانت مقاومة من قبل بعض الرافضين وهم كثيرون بأسلحة خفيفة، فلا طيران ولا دبابات ولا مدفعية ولا حتى أدنى تحرك من قبل أيه مجموعة نظامية تشكل رأس حربة لهؤلاء المناضلين.

تداعيات العدوان مبررات التأييد "الإسرائيلي"له:

الكاتب تحدث عن ثلاثة مبررات صحيحة تماماً، وظهرت النتائج الفورية لإعادة ترتيب المنطقة والسيطرة عليها من قبل أمريكا مباشرة وظهرت "إسرائيل" بمظهر الداعم المطلق لها علناً هذه المرة وبدأت على الحدود اللبنانية الفلسطينية نوايا العدوان والذي كان ينتظر نتائج الحرب على العراق لفرض تسويات بتدبير أمريكي صهيوني.

إضافة لما ورد في الورقة هنا هدفين استراتيجيين يحققهما العدوان للكيان الصهيوني:

إخضاع وتحييد أهم قطر عربي بعد مصر التي تم إخراجها من معادلة الصراع العربي- الصهيوني بعد كامب ديفيد، وهنا إخراج العراق بعد تدميره من ثم إعادة صياغته يعني تداعي ركيزة تاريخية من ركائز النهوض القومي، بما يعنيه العراق من قدرات وإمكانيات حضارية ومادية, وحتى الحديث عن حلف بغداد جديد يشمل العراق والكيان وتركيا.

نتائج الغزو تعتبر خطوة هامة باتجاه تتويج الكيان مركزاً إقليمياً تدور من حوله مزيج من الكيانات الميكروسكوبية والمفتتة، اثنيا وعرقياً وطائفياً وهو حلم صهيوني قديم قدم المشروع الصهيوني كما هو معروف.

حصة الكيان المنتظرة في النفط والأسواق العربية- الحديث عن كركوك حيفا، والكلام عن تنافس شركات صهيونية على عقود إعادة إعمار العراق،ولو من داخل شركات أميركية أكبر.

إنجاز صفقة بين صيغ الانتقال والإنهاء تؤمن التنازل عن حق العودة، يمكن إضافة ملاحظة وهي أن الأمر تعدى الصفقة إلى اشتراط ذلك لمجرد بحث خارطة الطريق ( ومع ما تنشره المصادر الصهيونية) التي تقول أن بحثها لا يمكن دونما تحقيق شرطين:

التنازل الفلسطيني عن حق العودة، وهذا بالنسبة لأبي مازن ما ليس صعباً، بل وينسجم مع طروحاته التصالحية.

إجراء الثقة/ يبدأها الفلسطينيون/ تعني إيقاف الانتفاضة، وقمع المقاومة  نزع سلاحها مقابل الانسحاب من المدن التي أعيد احتلالها.

إسكات المقومة الوطنية والإسلامية لا أرى مبرر لمثل هذه التصنيفات فالأسلاميون وطنيون والوطنيون بغالبيتهم مسلمون وفي التصنيف نوع من التجزأة وحتى بعض الإلغائية بالنسبة للبعض.

في نفس النقطة / الشروط/ (التدخل في انتقاء القيادات) بل حدث التدخل،ولا داعي لربما هذه الشروط "الإسرائيلية" للتعامل مع الحكومة: أن يكون رئيسها أبو مازن، ودحلان وزيراً في المسائل الأمنية!

مستقبل المسألة العراقية

أزلام النظام/ مسابرة السائد لا ضرورة لها، مهما كان رأينا في النظام/ الأولويات والسياقات هنا هامة وذات معنى.

يمكن رؤية الأمر بشكل أوسع من المسألة الفلسطينية على أهمية ذلك كموضوع للدراسة أي تأثير ذلك على الأمة ومن ضمنها القضية الفلسطينية، لأن فلسطين وقضيتها جزء من كل، ويتأثر بما أصاب هذا الكل... بل دولياً، وأثر ذلك أيضاً على القضية الفلسطينية، فالأمور مترابطة/ بغداد خط دفاع أول قومياً وإقليمياً ودولياً وأن أشير إلى ذلك لاحقاً

في التفاصيل/لا خلاف في التداعيات الفلسطينية، وهذا بدأ فعلاً مع حكومة أبو مازن وخارطتها التي شكلت من أجلهاز

سيطرة مطلقة لليمين الصهيوني وضعف واضح لليسار الصهيوني قد يكون تقسيم أو تصنيف مقبولاً "إسرائيلياً" ضمن اللعبة السياسية، ولكنه ليس كذلك بالنسبة لنا، ثم من هذا اليسار"الإسرائيلي" الذي أضعفته الحرب على العراق ونتائجها؟!

الامريكان و الصهاينة يتكاملون وليس وارداً طلب أثمان من "الإسرائيليين" فالأجندة واحدة بين قاعدة وثكنة.

... يمكن التوسع في العنوان السابق/ أحادية القطبية ختام تآكلها بفعل بروز وتعدد المراكز... شبه التحالف الفرنسي الألماني الروسي... قوة التدخل الأوروبي خارج الأطلسي مثلاً الصين بعد عقد من الآن... إلخ.

الرؤى العربية/ يجب عدم إهمال مسألة في منتهى الأهمية تقلل من التشاؤم هنا، وهو أن الأمة/ الجماهير لم تكن في يوم من الأيام بهذا المستوى من الوعي العالي لخطورة راهنها، ولا أكثر دقة في فرز وفهم معسكر أعدائها من أصدقائها، وهذا يبشر بالكثير...

الضغط البريطاني المشاكس: 

الأحرى القول النصائح البريطانية الخبيثة والمسمومة والرباعية بعد الحرب أصبحت ديكوراً لا أكثر يمكن استخدامه لا التجول في إطاره


يمكن إضافة نقطة مهمة على نقاط الرؤى الأميركية:

رئيس سلطة ضعف لأنه محاصر ورئيس وزراء ضعف لأنه بلا شعبية في الشارع و في تنظيمه على السواء... أمر يسهل التنازلات.

الرؤى "الإسرائيلية" / أنا أميل للحسم/

نقطة هامة جداً وموفقة/ العلاقات بين الولايات المتحدة وإسرائيل عضوية، ومسألة تراجع،

أهمية الكيان الصهيوني قديمة/ راهن عليها السادات، وبعض الفلسطينيين بعد حرب الخليج الثانية... وثبت أنه اعتقاد واهم.

الخارطة الفلسطينية: تجاذبات عرفات أبو مازن...

ملاحظات:

الفارق بين الرجلين لا يوجد من حيث النهج التسووي وإنما هو في الأسلوب... الفارق بين (واقعين) بين شعبوية وكارزمية عرفات ورمزيته التاريخية التي تجعل له خطوطاً حمراً لا يتعداها، وتصالحية أبو مازن المؤطر البلاحدود... أبو مازن الضعيف فتحاوياً و في الشارع لن ينجح في تنفيذ سياساته بدون موافقة عرفات. الأول يستقوي بالخارج وهنا ضعف والثاني يستقوي بالداخل مجازاً وهنا قوته.

المقاومة الفلسطينية:

الكلام عن استمرار جهاد وحماس/ وتجاهل كتائب الأقصى/ القوى الأكثر نشاطاً راهناً في مقاومة الاحتلال، وحتى كتائب أبو على مصطفى يجعل أو يشكل نقصاً بالمقاربة/ عمليتي بتاح تكفا، وتل أبيب رداً على أبو مازن

خارطة الطريق

البحث كتب قبل نشر الخارطة، بدون تعديلات، ومع ذلك لا فرق يذكر، والتحليل صائب وغير ناقص.

التعديلات التي يطالب بها الصهاينة..ملاحظة: التعديل الاول / الربط/ موجود ضمناً في نص الخارطة الذي نشر.

ثقة بالمستقبل

أنا مع كل ما ورد أضيف...

الوعي غير المسبوق لدى الأمة.

تقارب الخطابين القومي والإسلامي باضطراد.

اندفاع المشروع المضاد يدق ناقوس الوجدان الشعبي المقاوم.


 الى الأعلى

الأستاذ عبد الله الحسن


يستحق الجهد المبذول في إعداد هذه الورقة، الثناء والتقدير كما يستحقه المبادورن إلى طرح هذه الورقة للنقاش، وفي هذا التوقيت بالذات، حيث السؤال عن مصير قضية الأمة المركزية، بعد سقوط العراق في قبضة الاحتلال الأمريكي، صار ملحاً ، و أكثر من أي وقت مضى، خصوصاً في ظل إعلان المنظرين الاستراتيجيين الأمريكان عن حالة الالتمام بين المسألة العراقية والفلسطينية، منذ اندلاع حرب الخليج الثانية، حيث أعلنت أميركا أن ركائز استراتيجيتها في المنطقة العربية- الإسلامية هما:

أمن النفط

أمن "إسرائيل"

ولاحقاً في ظل اندلاع انتفاضة الأقصى المباركة برز شعار طرحه كيسنجر، وبات شعار الإدارة الأمريكية، يختصر مخطط تصفية القضية الفلسطينية و وأد الانتفاضة (( من بغداد إلى القدس وليس بالعكس)).

بداية أعتقد أن ما ورد في الورقة، يحتاج إلى إغناء، سواء على مستوى تعميق الآراء والأفكار الواردة فيها، أو الإضافة عليها. و ما يشجع على ذلك أن معد الورقة، تحدث عن التداعيات بلغة الاحتمالات، بمعنى ترك الأمور مفتوحة بدون أن يحسم أو يرجح هذه الاحتمال أو ذاك.

يلاحظ أن التركيز على التداعيات السياسية، قد استغرق الورقة بكاملها، مع أن هذا بتقديري، أحد هذه التداعيات. إذ هناك أبعاد أخرى:

البعد الأيديولوجي

البعد الاستراتيجي

البعد الاقتصادي


البعد الأيديولوجي:

مثل سقوط بغداد فرحة غامرة للصهاينة، لأنه يعني الانتقام من اكثر مدينة في الأرض كرهها اليهود (بابل) فمنذ (25) قرنا ومازال في نفوسهم فكرهوا كل شيء  ينتسب إليها، خاصة ملكها العظيم نبوخذ نصر، حيث يرتبط أسمها بذكريات "السبي البابلي". ولتأكيد هذا الحقد أشير إلى أن الشاه حين قرر الاحتفال بالملك الفارسي "كورش" الذي أنقذ اليهود من السبي البابلي، قوبل قراره بالشكر والعرفان من قبل بن غورين, رئيس الوزراء العدو الصهيوني...لتكريمه ملكاً دمر بلاد بابل, وأطاح بآلهتها وجنائنها وأنهى أفجع ما في "تاريخ اليهود". الآن مع وصول الصهاينة مؤازرة القوات الأمريكي، إلى أرض العراق, قاموا، كما تفيد المعلومات بسرقة تمثال نبوخذ نصر من قبل فرقة خاصة صهيونية، ونقلته إلى فلسطين المحتلة، بعد أن قيدته بالسلال، دلالة رمزية على الانتهاء من محنة "خراب الهيكل الأول" والانتقام لما جرى قبل (25) قرنا بيد صهيونية، وهذا يعني أن دورة التاريخ اليهودي، اكتملت، وبالتالي لا بد من أن يبدأ بداية جديدة مع الانطلاق إعادة بناء الهيكل مرة أخرى، لكن على أنقاض المسجد الأقصى. ومن المعروف أن الصهاينة في آب 2001 بادروا بخطوة رمزية في هذا السياق حيث وضعوا بموافقة المحكمة العليا، حجر الأساس للهيكل المزعوم، وهذا بالتأكيد نصر أيديولوجي سيقوي من عضد الصهيونية.


البعد الاستراتيجي:

يتجسد في حرمان الشعب الفلسطيني من أحد ركائز صموده الاستراتيجية والسياسية والاقتصادية والمالية. فالعراق شكل على عقود الصراع العربي– الصهيوني أحد قوى المواجهة مع العدو الصهيوني. فقد شارك في كافة الحروب 1948و1967و1973. كما أن المشروع الصهيوني، ومنذ بداياته الأولى جعل من العراق أحد أهم استهدافاته، ليكون الأرض التي يتم فيها توطين اللاجئين الفلسطينيين بعد طردهم من ديارهم في فلسطين، وبرز ذلك رسمياً في مقررات مؤتمر بلتميور عام 1952، لذلك فأن احتلال العراق والسيطرة عليه، هو بداية المرحلة الثانية من مراحل المشروع الصهيوني:

إقامة الدولة اليهودية في فلسطين وربما شرق الأردن.

ترحيل اللاجئين الفلسطينيين إلى العراق.

قيادة يهودية في الشرق الأوسط.

وقد جرت محاولات عدة, في أعقاب حرب الخليج الثانية، لنيل موافقة الدولة العراقية على توطين اللاجئين الفلسطينيين، مقابل رفع الحصار عن العراق. وأعتقد أن هناك فرصة باتت ملائمة للصهاينة لتحقيق هذا الهدف، سواء، من خلال تحول العراق إلى عامل امتصاص للطاقة البشرية الفلسطينية، في ظل الضغوط الاقتصادية والحياتية المتفاقمة بالداخل، عبر استيعابهم في مشاريع إعمار العراق، و ما يطلق عليه الصهاينة "الترانسفير" الطوعي.

أو بتوفير بقعة جغرافية في العراق، لكن شرطها، تجزئة العراق إلى دويلات منفصلة، وهذا مطمح صهيوني. ونشير في هذا الصدد ما كتبه  المعلق العسكري الصهيوني زئيف شيف في جريدة "هآرتس" يوم 2-6-1982 حول أفضل ما يمكن أن يحدث في العراق، من شأنه أن يحقق مصالح "إسرائيل" قائلاً (( إن ذلك يتم عن طريق تجزئة العراق إلى دولة شيعية وأخرى سنية، إضافة إلى فصل المنطقة الكردية)). كذلك نشير مخطط "إسرائيل" التفتيتي الوارد في استراتيجية "إسرائيل" في الثمانينات الذي وصفه "عوديد بنيون" أحد خبراء العلوم الاستراتيجية و مستشار الأمن القومي في وزارة الخارجية الصهيونية، أثناء فترة حكم بيغن.


البعد الاقتصادي

أولاً:-الحديث الصهيوني عن ضرورة إعادة تشغيل خط البترول كركوك- حيفا.

ثانياً:- الحديث عن مشروع أنابيب مياه السلام من خلال جر مياه الفرات ودجلة عبر الأردن إلى فلسطين المحتلة.




ص8 :

إنها (أميركا) تشعر أنها متحررة من أثمان متوجبه للعرب لم يساعدوها كما ينبغي.

هنا أنا أتساءل:  ما هي الأثمان المتوجبة؟ إذا كان جيمس بيكر وزير خارجية إدارة بوش الأب، اعتبر أن العرب قد خسرت حرب الخليج الثانية وليس فقط النظام العراقي، وجرى التعامل معهم على هذا الأساس في مؤتمر مدريد وما تلاه، وهم دفعوا الأثمان اتفاقات أوسلو و وادي عربة...إلخ.


يلاحظ أن الحديث عن التداعيات على المستوى الرسمي الفلسطيني قد استغرق الحيز الأكبر من الورقة، وذلك على حساب تداعياتها على المقاومة.

ص16: أتساءل هل هناك تسوية كاملة، حتى يكون هناك تسوية ناقصة.



 الى الأعلى

الأستاذ غطاس أبو عيطة


أولاً لا بد من إعلان التقدير للجرأة التي تميز بها "مركز باحث للدراسات" حين سارع إلى طرح مسألة بهذا الحجم وبهذه الخطورة للمناقشة، مسهماً في محاولة تجاوز الصدمة التي نجمت عن زلزال احتلال العراق من قبل القوات الغازية الأمريكية، وذلك من خلال سعيه لضبط صورة الوضع الذي نشأ عن هذا الزلزال.

وثانياً لا بد  من التنويه بحسن اختيار الباحث الذي أوكل له المركز وضع ورقة للعمل، وأن يقع هذا الاختيار على أحد أبناء فلسطين ممن يعايشون المواجهة الساخنة لمؤامرة التصفية التي يراد فرضها  على القضية المركزية للأمة في ضوء نتائج هذا الغزو.

والتنويه ثالثاً بجدية ورصانة وشمولية الورقة المطروحة للنقاش، والتي اعتمدت أسلوباً أكثر ملائمة لمقاربة الوضع الناشئ  عن العدوان، وهو أسلوب الاحتمالات، ذلك أن الوضع في المنطقة، بات مفتوحاً على أسوأ الاحتمالات في حال نجاح الغزاة في جني ثمار عدوانهم، وعلى نقيض ثلاث احتمالات، في حال نجاح قوى الأمة، ومنها القوى الإقليمية والدولية المناهضة للعدوان، في إحباط المسعى الأميركي الرامي إلى إعادة رسم خريطة المنطقة بما يخدم الأطماع الاستعمارية الأمريكية الصهيونية.

ونظراً لعدم وضوح الصورة الناشئة عن الغزو والعدوان، فإن ترجيح احتمال على آخر مما تطرحه ورقة العمل، لا يمكن أن يضيف الكثير عما ورد فيها، ومن هنا يأتي ترددنا في طرح رؤيا بشأن الوضع القائم، مما قد تحمل الأحداث المتسارعة ما يناقضها وما يضعها خارج سياق الواقع.

لكن الجرأة التي تحلى بها الباحث والمركز على السواء، تفرض علينا أن نتخلى ببعض الجرأة، لكي ندلي بدلونا متجاوزين ما نحن فيه من إحجام ومن حالة انتظار يفيد منها إلا القوى التي تسارع إلى جني ثمار عدوانها على الأمة، واضعة مخطط التصفية على سكة التنفيذ عبر ما سمي بخريطة الطريق.

إن ما تطرحه الورقة في باب التوقع الأسوأ:-

"احتمال قيام تحالف إقليمي بضم تركيا والعراق والقاعدة الصهيونية، واحتمال تفكيك العراق، واندلاع صراعات عرقية ودينية ومذهبية داخلية تسهل على المحتلين عملية إخضاعه والتحكم بمصيره"

وفي رأينا أن هذه الاحتمالات، لا يجب استبعادها من جانب قوى المواجهة،بل يجب أخذه بعين الاعتبار, والتعامل معها بالجدية التي تتطلبها عملية المواجهة.

ويمكن أن نقول هنا، على وجود حكومة في تركيا، أتت إلى سدة السلطة محمولة على أكتاف حركة شعبية تكن عداء حاسماً للقاعدة الصهيونية، وتناهض مشاريع السيطرة الأميركية، وأن نراهن على قدرة هذه الحكومة بأن تصمد أمام الضغوط الأميركية، سيما أن الدول الإسلامية بوجه عام ومن ضمنها الدولة التركية، بدت أكثر تماسكاً في مواجهة النوايا العدوانية لأميركا قياساً يتخاذل النظم العربية التابعة التي سهلت العدوان أو كانت مشاركة فيه.

كما يمكن أن نقول، على الموروث القومي التحرري الذي يختزنه شعب العراق، والذي أظهرت المؤشرات الأولية، بأن عمق المعاناة لم تستطع أن تدمر هذا الموروث، وعلى النقيض مما تطرحة بعض الأصوات المتشائمة، فإننا نرى بأن كتلة الجماهير الشيعية التي بدت أكثر تماسكاً عقب العدوان، يمكنها أن تضطلع بدور هام في تماسك الجبهة الداخلية، وفي تحشيد القوى على قاعدة التصدي للمحتلين وإحباط أهدافهم. لقد كشف المحتلون الأمريكان، عن نيتهم في تحويل العراق إلى قاعدة انطلاق لعدوانهم على دول وشعوب المنطقة، وإنه لمن قبيل التعلل بالأوهام أن نقلل من خطورة المسعى الأميركي المعلن، لكنه من قبيل اليأس أيضاً، أن نغفل حقيقة الطاقات التي يملكها شعب العراق, والتي يمكن أن تحول دون تمرير المخطط الأميركي.

وما يبدو واضحاً للعيان، أن زخم الحركة الشعبية الذي يبرز في الاحتفالات الدينية، وفي المظاهرات العفوية المناوئة للاحتلال، وفي المواقف الصلبة التي عبرت عنا قيادات روحية وعلمانية، هو ما يصعب على المحتلين فرض حكومة عميلة على هذا الشعب، وهو ما يدفعهم للبحث عن قوى ومواقف دولية تسهل لهم تنفيذ مخططاتهم المرسومة التي بدأت تصطدم بعقبات جدية على أرض العراق.

ومما تشير إليه الورقة من آثار سلبية نجمت عن العدوان:

" حالة الإحباط التي أدخلت فيها الجماهير العربية بعد نجاح العدوان، و واقع توقف أشكال الدعم المادي والمعنوي للانتفاضة والمقاومة الفلسطينية".

وما يمكن أن نضيفه على الصعيد ذاته، هو أن الوقائع التي خلفها الغزو، قد تركت تأثيرها على حركة المعارضة الرسمية والشعبية الدوليتين للسياسات الأمريكية.

وإن موجة أشد خطورة من ثقافة الاستسلام،سوف تطفو في الساحة العربية، وتذهب بعيداً في الحط من قدر الحضارة العربية والتشكيك بقدرات الأمة وتسويد كل تاريخها داعية للرضوخ للقدر الأمريكي الصهيوني باسم الواقعية.

وأن أميركا وقاعدتها العدوانية التوسعية، ستعمل على استغلال حالة الإحباط الناشئة قبل أن تفيق قوى الأمة من الصدمة، وقبل أن تتشكل جبهة دولية قادرة على عرقلة مساعي أميركا.

لكن قرار الصمود الذي يمكن أن تتخذه القوى المحلية في المنطقة، يمكن أن يغلب حسابات الأعداء، وما يبدو واضحاً هو أن هذا القرار, بات رهناً بانتصار تيار الصمود والموجهة، الذي بات يجابه تياراً خطراً أخذ يكشف عن وجهه في الدعوة للتسليم بالقدر الأمريكي، وبترتيب أوضاعنا الداخلية بما يمليه هذا القرار الذي لا يمكن مجابهته.

وفي المتفرقات تتحدث ورقة العمل:

عن احتمال إبعاد عرفات خارج الأراضي المحتلة.

واحتمال قيام ضغط أمريكي على شارون لفرض "خريطة الطريق".

وعن مسألة تعارض الرؤية بين اليسار واليمين الصهيوني بشأن الحل الأمريكي وأثر ذلك على مستقبل التسوية.

ثم إمكانية تحدي أوروبا وروسيا للهيمنة الأمريكية في المنطقة على مستوى "المشاغبة الاقتصادية" أو التعاون العسكري مع سورية إيران"

وفي رأينا:

أن ما يراد لعرفات، هو موت سريري في موقعه وليس تحويله إلى شهيد ( وهذا الرأي لا يستبعده الباحث)، ذلك أن عرفات مطلوب كغطاء لمخطط التصفية الأمريكي الصهيونية.

إن التعويل على موقف أمريكي معارض لشارون لا يعدو أن يكون وهماً ++. لأن الهدف الأساسي من خريطة الطريق هو وقف الانتفاضة والمقاومة، ليتم التفاوض بعد ذلك على أرضية المشروع الصهيوني التصفوي الذي يطرحه شارون وتتبناه أمريكا:

وعلينا أن ندرك هنا، بأن "النظام الإقليمي الجديد" الذي تسعى أمريكا لفرضه على المنطقة، هو نظام أكثر تشدداً من خط شارون فيما يتعلق بالحقوق الفلسطينية وبمستقبل العلاقة مع دول وشعوب المنطقة. وأن "اليسار الصهيوني" مازال يهتدي بالرؤية الاستعمارية الغريبة في تعامله مع المحيط العربي في حين يعتمد اليمين الرؤية الأمريكية التي تلغي الآخر اعتماداً على الإخضاع العسكري دون حاجة إلى أكاذيب استعمارية كلاسيكية، وما يعنيه ذلك، هو أن المنطقة كما العالم، قد دخلا في مرحلة العصر الأميركي، وعلى اليسار الصهيوني أن ينسجم مع معطيان هذا العصر كما انسجم سابقاً مع معطيات العصر الكولونيالي الأوروبي.

ثم إن الإفادة من أي تعارض بين أمريكا وبين قطب دولي آخر، إنما تعتمد في الأساس على الإدارة الذاتية لقوى الصمود في المنطقة. وما نلاحظ هو مظاهر تراجع على جبهة الصمود الرسمية أمام الضغوط والتهديدات، وعلى الحركة الشعبية أن توقف عملية التراجع، وإن شعب العراق الذي تحرر من ضبط إخضاع السلطة المركزية القوية، هو المؤهل إلى جانب الشعب الفلسطيني لأن يلجم هذا المسار تمهيداً لوقفه.

وفي الختام نحن مع الرؤية المتفائلة التي تخرج بها ورقة العمل والتي مفادها:

إن سياسات الإدارة الأميركية الحالية، تتسم بروح المجازفة غير المحسوبة العواقب، وسوف توجه بمقاومة شعبية إقليمية، وبعزله دولية، وبمشكلات اقتصادية داخلية لا تحلها تلك السياسات.

إن سوريا وإيران ولبنان، ستظل قادرة على الثبات في مواقعها، ويعزز بروز الصعوبات بوجه السياسة الأمريكية  داخل العراق أولاً.

إن الجماهير الفلسطينية ليست لديها ما تخسره من دعمها لخط المقاومة،ولا مجال، لأن تنخدع بالوعود الأمريكية التي تطرحها خريطة الطريق، وقد أبدت هذه الجماهير قدرة غير عادية على التكيف مع الأوضاع الصعبة المفروضة عليها.

إن خطورة نهج المحافظين الجدد في أمريكا على مستقبل العالم، من شأنها أن تستنهض أوسع جبهة عالية في التصدي لهذا النهج، وإن إرادة المقاومة لدى الجماهير العربية والإسلامية، سوف تتنامى نظراً لطبيعة الخيارات التي تفرضها أمريكا على مستقبل هذه الجماهير.

وإنه كما خرج شعب العراق وقواه الحية من مرحلة الصدمة بأسرع من كل التوقعات، فسوف تخرج قوى الأمة من هذه المرحلة رغم كل مظاهر الضعف البادية، وإن عدوى الصمود والمقاومة التي تبديها أطراف ومواقع عربية وإسلامية، مرشحة للانتشار وبرغم شراسة وشمولية الجهة المعادية.


 الى الأعلى

الأستاذ محمد النابلسي



ترتبط خطورة الحرب العراقية في كونها تشكل انقلاباً على الثوابت الاستراتيجية الأميركية وشروطها لشن الحروب الأميركية المتلخصة بالتالي( أنظر ملحق عقدة فيتنام الأمريكية) :

توريط الأصدقاء. بما في ذلك توريط الأمم المتحدة نفسها.

عدم السماح بتكرار التجربة الصدمية: وهذا يعني في ما يعنيه:

عدم خوض صراعات غير محددة الفترة الزمنية.

تجنب أي صراع أو مواجهة عسكرية طويلة الأمد.

استبدال الحرب التقليدية بالحرب الافتراضية.

الاعتماد على التفوق العسكري التكنولوجي وتجنب وقوع    ضحايا.

التعتيم الإعلامي على أي وفيات أو إصابات بين المقاتلين الأميركيين.

زيادة الاعتماد على المواجهات الاقتصادية (حصار وفرض عقوبات) وإحلالها مكان المواجهات أو حتى التهديدات العسكرية.

تحويل سياسة الاحتواء (والاحتواء المزدوج) إلى استراتيجية معتمدة في السياسة الخارجية   الأميركية.

السير قدماً في خطوات العولمة الاقتصادية: التي تحول المواجهات العسكرية إلى لعبة مونوبولي وراهناً إلى لعبة أكثر تعقيداً هي لعبة دبلوماسية.

اعتماد مبدأ تقسيط الحرب: تحديداً منذ عهد كلينتون بدأت أميركا تواجه واقعة مفادها أن الحرب هي من الضرورات التاريخية. فالاستقراء التاريخي يثبت أن الحرب كانت حاضرة في كل العصور الإنسانية. بل إنها هي المسؤولة عن التغيرات الحضارية الرئيسية في تاريخ الإنسانية، أمام هذه الواقعة لجأ كلينتون لاعتماد مبدأ "الحروب المقسطة" وينطوي هذا المبدأ على تحديد رقعة معينة للحرب (لا تتجاوزها) على أن تجري المواجهات العسكرية ضمن حدود هذه الرقعة على أقساط يتم حسابها وتقديرها وبرمجتها بصورة مسبقة.

وها هي الحرب العراقية تتكشف عن قدرة إدارة بوش على تجاوز هذه الثوابت لتنطلق في سلسلتها المعلنة من الحروب الاستباقية. الأمر الذي يدفعنا لتحري مصدر هذه القدرة على تجاوز الحدود التي فرضت نفسها على السلوك العسكري الأميركي ما بعد فيتنام. وهذا التحديد ضروري وحيوي للوقاية من مفاجآت جديدة لصقور الحرب الأميركيين واستراتيجياتهم الجديدة. ونجد الجواب على ذلك في المبدأ الاستراتيجي الذي أطلقه الاستراتيجيان الأميركيان روزنفلت و أركيلا تحت عنوان الحرب الافتراضية (أنظر ملحق الحرب الافتراضية) . وهي تتيح لأميركا تجنب الحرب العسكرية التقليدية وضمان الانتصار بتوظيف تفوقها المعلوماتي والمخابراتي. بما يحول الحروب الأميركية القادمة إلى نزهات حقيقية تغيب عنها الأخطار الفعلية. وهذا ما يجب أن نتوقف عنده مطولاً إذا أردنا الحد من النزهات الأميركية القادمة.

وفي عودة إلى الورقة التي بين أيدينا نجدها تقدم واحدة من الرؤى المتماسكة للانعكاسات المحتملة للحرب العراقية على القضية الفلسطينية وعلى والوطن العربي عامة. و هي قد اعتمدت جملة منطلقات نظرية يجب التمسك بها حتى لدى اختلافنا مع بعض استنتاجات الورقة. إذ تمكن الباحث إبراهيم أبو الهيجاء من الإمساك بمفاتيح نمط التفكير السياسي لما يسمى بالصقور الأميركيين. الأمر الذي أتاح للباحث إمكانية رصد السلوك المستقبلي للولايات المتحدة في مقابل الخطر الديمغرافي العربي.

بناء عليه فنحن نتفق مع فرضيات الورقة وقراءة الباحث للاحتمالات والبدائل الأمريكية، وتالياً "الإسرائيلية"، أمام متغيرات الوضع العراقي وتداعيات هذه المتغيرات على الصعيد الفلسطيني.عداك عن الرغبة الأمريكية الملحة في استكمال رؤيتها لمستقبل المنطقة. وهي رؤية متميزة باعتبار العلاقة مع "إسرائيل" مرجعية وبراءة ذمة من دعم الإرهاب. بحيث يرتبط استصدار هذا النوع من البراءات بالرضى "الإسرائيلي".

ومع إعجابنا بمنهجية الورقة وتحليل الباحث للحدث وانعكاساته فإننا نرى تقصيراً فيها لجهة رؤيتها المستقبلية التي أنهى بها الباحث ورقته. فبدت "الثقة بالمستقبل" وكأنها خلاصة الورقة. حيث تركزت ثقة الباحث بالمستقبل على النقاط التالية:

المقاومة العراقية

لامنطقية استمرار الآحادية القطبية.

الشارع العربي.

غموض الرعاية الأمريكية لسيرورة السلام.

إمكانية تعقيد الوضع بتورط أميركي جديد.

وعى فلسطيني يمنع تكرار أوسلو.

مناعة المقاومة الفلسطينية الناجمة عن خبرتها.

ونحن نخالف هذه الرؤية التبسيطية دون أن نخطئها. إذ نجدها من النوع الستاتيكي (static) الذي يعكس الواقع الدينامي المتغير بسرعة فائقة في زمن التغيير الاستراتيجي. الذي يقترن مع تغيير التحالفات ومبادئها وشروطها. خاصة وأن الدول غائبة الرضى الأمريكي تحتاج إلى التموقع بالنسبة إلى التوازنات العالمية الراهنة واتجاهاتها الرد فعلية على الحروب والتهديدات الأمريكية المتتابعة.

حيث نرى ضرورة تقسيم التصور المستقبلي لأوضاع فلسطين وفق محاور ثلاث هي:

متغيرات الداخل الأميركي

وفي هذا المجال لا بد من تحديد العوامل الداخلية الأميركية القادرة على تحقيق انقلابات استراتيجية كبيرة ومفاجئة قادمة. أو على العكس دفع تهور الصقور وتسريعه بصورة غير مرتقبة. ومن أهم هذه العوامل نذكر:

الحالة المتردية للاقتصاد الأميركي: حيث تبدو مكاسب الحرب العراقية غير كافية لإنعاش هذا الاقتصاد وصولاً إلى الآمال التي علقت على هذه الحرب.

الانتقادات الأميركية للحرب: حيث يملك المنتقدون معلومات سرية وتفسيرات خاصة لسلوك بوش وإدارته. مع الإشارة إلى أن عدم مساءلة بوش وفريقه بتهم الفساد قد تأجلت بمناسبة 11 أيلول ثم حروب أفغانستان والعراق وفوز الجمهوريين في انتخابات نوفمبر للكونغرس. لكن هذه المساءلة لا تزال مطروحة.

الأميركيون المتضررون من الحرب: شركات الأسلحة والطاقة عوضت خسائرها وتجاوزت أزماتها عبر هذه الحرب. لكن شركات أميركية أخرى تضررت من هذه الحرب بما يهدد استمراريتها ويدفعها نحو الإفلاس. وهذه الشركات قادرة على تحريك إضرابات عمالية وتفجيرها في وجه الإدارة. ويكفي هنا التذكير بإضراب عمال الموانيء في أكتوبر 2002 الذي كلف الاقتصاد ملياري دولار يومياً.

الاستقالات الاحتجاجية على الحرب العراقية: وفي مقدمتها استقالات مسؤول شؤون الارهاب في مجلس الأمن القومي. عداك عن إقالة وزير المال والمستشار المالي   ( بول أونيل ولاري ليندسي) وغيرهم. حيث نجاح دخول أميركا إلى بغداد لا يلغي أسباب ودوافع هذه الاستقالات. عداك عن الخلافات الخفية داخل إدارة بوش.

محدودية سياسة التخويف: استغلت إدارة بوش أحداث أيلول لتمارس التخويف على الجمهور الأميركي. ومن علائم هذا الإرهاب تسويق شائعة القنبلة النووية القذرة   ( تبين لاحقاً أنها ملفقة تماماً ). ونتيجة لهذا التخويف تمكن الجمهوريون من كسب انتخابات الكونغرس النصفية. وتمكن بوش من كسب مستوى تأييد لا يستحقه بدون تخويف. ومن المنطقي طرح السؤال عن مدى قدرة الجمهور الأميركي على تحمل هذه الحالة الخوافية. خاصة بعد أن اقترحت لها الإدارة علاجاً يقضي بتحويل الداخل من الليبيرالية إلى التوجيه المخابراتي وتحويل العلاقات الخارجية إلى نزاعات مقسطة على مدى سنوات قادمة.

أزمة الحروب الأميركية اللامنتهية: على الرغم من النجاحات العسكرية الأميركية في أفغانستان والعراق فإن هذه النجاحات ليست حاسمة. إذ أن هذا النوع من الهيجان يؤدي إلى حروب تبقى غير منتهية وغير مرشحة لنهايات قريبة. وتكفي الإشارة إلى أن خروج أميركا من أفغانستان سيعيد الباشتون ومعهم طالبان إلى الحكم. وبقاء الأميركيين هناك يزداد كلفة من التورط السياسي وزيادة أعداد القتلى الأميركيين يوماً بعد يوم.

موقف اليهود من بوش خلال الانتخابات: حيث سجل بوش رقماً قياسياً بفوزه مع حصوله على أدنى نسبة من أصوات اليهود يحظى بها رئيس فائز ( كانت أدنى النسب هي نسبة نيكسون إذ حصل على 12 % من أصوات اليهود. أما ووكر بوش فقد حصل على 2 % فقط منها) وهذا يشير إلى أزمة بين الطرفين. وهي إن تجمدت بسبب الظروف الأميركية فإنها قد تعاود الانفجار في الانتخابات المقبلة.

بوش بوصفه بطة عرجاء: دخل بوش إلى البيت الأبيض بأدنى فوارق الصوت الانتخابي. فكان بطة عرجاء منذ البداية. لكنه مع ذلك سيتحول إلى بطة كسيحة في نوفمبر القادم مع بداية الانتخابات التمهيدية.

هوام تكرار الصدمة: الخوف من تكرار 11 أيلول سيبقى هواماً مسيطراً على الوعي الأميركي لسنوات قادمة. وهو يزداد حدة مع أية عملية محدودة ( أو حتى مجرد شائعة ) تعنون على أنها الرد على سلوك بوش الإستباقي. فهذا الهوام قد يعيد لبوش وضعيته الأساسية وينزع عنه دون كيشوتية المنقذ!. والتكرار ليس حكراً على العرب والمسلمين. إذ يمكنه أن يكون آرياً أميركياً ( مثل انفجار اوكلاهوما) أو مجهول المصدر (مثل انفجار اتلانتا ) أو غامض وغير محدد بدقة مثل 11 أيلول.


متغيرات عالمية

لعل منطق القوة والاستباق الأميركي هو المفجر لهذه المتغيرات. فبالإضافة إلى المتغيرات العالمية الروتينية المتوقعة نجد ردود فعل عالمية تراكمية على السلوك الأميركي المستجد. وهنا لابد من التنويه إلى عطل أساسي في الفكر الاستراتيجي الأميركي. وهو المتمثل بالاستناد إلى السوابق. مثال ذلك سابقة اعتقال نورييغا من قصره الرئاسي وسوقه للمحاكمة في أميركا. وهي السابقة التي استند إليها في التخطيط لإسقاط سلسة من نظم الحكم حول العالم. دون مراعاة الفوارق الثقافية والقيمية ودون التنبه إلى الفارق بين شريك أميركي في تجارة المخدرات وبين رؤساء يخضع حكمهم لمعادلات انتروبولوجية فائقة التعقيد.

ومن أهم المتغيرات العالمية المعوقة للإندفاعات الأميركية نذكر التالية:

الإصرار العالمي على إنقاذ الأمم المتحدة ودورها من التجاوزات الأميركية.

لجوء الأوروبيين لإنشاء قوتهم الخاصة للتدخل السريع. وهي محاولة التفافية على تدخل أميركي مقبل في أوروبا أو في مناطق مصالحها. كما أنه رد خجول على بدء نشر الدرع الصاروخي الأميركي.

إصرار كوريا الشمالية على موقع متكافئ في التفاوض مع الأميركيين. وجهوزيتها للتصعيد إذا اقتضت الحاجة ذلك.

الانتظام المتصاعد للعمليات التي تستهدف التواجد العسكري الأميركي في أفغانستان وربما قريباً في العراق.

ردة الفعل الروسية أمام سلوك التهديدات الأميركي. والمتمثلة بالمعارضة داخل مجلس الأمن مع تعزيز الاتجاه الإستراتيجي الروسي نحو الشراكة مع الصين والشرق الأقصى.

الرد الصيني على تعدي بوش على التفاهم الضمني بعدم الاقتراب من تخوم الصين. حيث تضمن تعديل اتفاق الأطلسي بنداً يعلن عن عدم وجود مصالح استراتيجية لدول الحلف على تخوم الصين. وها هو بوش يلامس التخوم الأفغانية ويسعى لملامسة التخوم الكورية. وفي هذه الحالة فإن ارخص ثمن يمكن للصين أن تطلبه هو استعادتها لتايوان.

ردود الفعل العالمية المتفرقة والمتفاوتة الحدة على استئثار الولايات المتحدة بالثروات وبأسواق النفط (تسعير النفط) ومشاريع إعادة الإعمار العراقية.

الصدام مع الفاتيكان الذي أدخل العالم الكاثوليكي في توازنات سياسية مباشرة لمنع الحرب على العراق. ومعه إحراج قيام الحرب ونتائجها إضافة إلى المظالم الكاثوليكية المزمنة في أميركا.

النزاعات الاقتصادية المتوقعة نتيجة المخالفات الأميركية لاتفاقية الغات وغيرها من الاتفاقات العولمية.

الخيبة البريطانية من الاستئثار الأميركي بعائدات حرب العراق.

دفاعات دول الاتحاد الأوروبي , وخاصة فرنسا, أمام الاستئثار والسيطرة الأميركيين على الأسواق العالمية. وخاصة على أسواق النفط.

قائمة الدول التي تلقت تهديدات أميركية مباشرة. حيث تضاف إلى الدول العربية الدول التالية: إيران وكوريا الشمالية و كوبا والفيليبين وفنزويلا.

قائمة الدول المهددة بالعقاب الأميركي لمعارضتها الحرب العراقية. وهي قائمة طويلة من أهم دولها غير العربية نذكر: فرنسا وألمانيا وبلجيكا وروسيا والصين وكندا والمكسيك وبقية الدول أعضاء مجلس الأمن المعارضة للقرار الذي يسمح بشن الحرب الأميركية على العراق.


متغييرات عربية

ونكتفي بما أشارت إليه الورقة من هذه المتغيرات.



استنتاجات


مما تقدم يتضح لنا أن تداعيات الحرب العراقية على الساحة العالمية قد أنتجت لحظة عالمية متحولة. بما يستوجب تخطي الثوابت الدولية بالنظر إلى احتمالات تعديلها. ونظراً لقصور المعلومات المتوافرة لنا فإننا نعطي في ما يلي بعض الأمثلة على هذه التعديلات:

الدول المعارضة للحرب: إن مراجعة المواقف المعلنة لهذه الدول تبين أنها بعيدة كل البعد عن موقف المحاسبة لأميركا. بحيث تجاوزت أميركا أية مطالبات تتعلق بلا قانونية الحرب وبما رافقها من تجاوزات للقانون الدولي ولاستخدام الأسلحة المحرمة دولياً وغير ذلك من التجاوزات. بل أن هذه الدول تبدو وكأنها تتسابق للحصول على حصة من الكعكة العراقية.

الحروب الأميركية القادمة: لا تزال إدارة بوش تطلق تهديدات الحرب في شتى الاتجاهات. ويوحي نجاحها في العراق بتشجيع الصقور على مواصلة سلسلة حروبهم المخابراتية. حيث النصر نتيجة الاختراقات المخابراتية أكثر منه عسكرياً. وحيث يريد الصقور استغلال فرصة إطلاق يد المخابرات في العمليات القذرة. حتى يمكن القول بصورة كاريكاتورية بأن الصقور سينصحون بوش بحرب جديدة إذا ما أحس بمنافسة قوية في الانتخابات القادمة.

سيرورة السلام: لا نشك بأن شارون سيكرر لعبة باراك في المماطلة ريثما يلتهي الرئيس الأميركي بالانتخابات ويتحول إلى بطة عرجاء ( آخر سنواته الرئاسية ). وعليه فإن أية مفاوضات تبدأ بعد الحرب العراقية هي مؤجلة إلى ما بعد الانتخابات. كما أننا لا نشك باستحالة اتخاذ "إسرائيل" لأية خطوة جدية بوجود الفوضى الاستراتيجية الأميركية الراهنة. وعليه فإن الولايات المتحدة إذ تطرح خارطة الطريق فإنها تدفع العرب إلى تقديم التنازلات مقابل مماطلات وعدم جدية "إسرائيلية". وهي لن تتحرج من هذه الدعوة بعد التهديدات والتدخلات الموجهة صراحة إلى المفاوض العربي. ومرة أخرى نسأل عن مسرحية الحياد الأميركي في مفاوضات تشارك فيها حليفتها "إسرائيل" ضد العرب المعلنين أعداءً من قبل الأميركيين.

سقوط الأحلاف بعد سقوط العولمة: مع تجديد حلف الأطلسي وتعديل استراتيجيته رأينا أميركا تعاود اتجاهها نحو سياسة الأحلاف. بما يعني إسقاطها للعولمة حيث الأحلاف لا تتسع للجميع. أما وقد خالفت أميركا الشرعية الدولية وحلفاءها الأطلسيين ، بشنها الحرب العراقية، فإن بالإمكان القول بأنها أسقطت أيضاً سياسة الأحلاف. فهل تسعى أميركا فعلاً إلى أمركة العالم!؟. سلوك الصقور يؤكد ذلك رغم كونه مخالفاً للمنطق مخالفة صريحة.

الطاعون السياسي العربي: تعاني السياسة العربية من مرض مميت نشبهه بالطاعون. بسبب خطورته وقابليته للانتشار. وهذا المرض هو تحديداً الاختلاف على تعريف العدو. فهل يمكن أن نطالب الجامعة والقمم العربية بمواقف ضد عدو غير معرف وغير محدد؟. ولو عدنا إلى مرحلة ما قبل الحرب العراقية لوجدنا أن العرب موزعين بين أصدقاء للولايات المتحدة وبين متهمين بالعداء لها. ولوجدنا بعض العرب يعطي صفة العدو لإيران وآخرون يعطوها "لإسرائيل" والبعض يعلن العداء للعراق. وبالمقارنة نجد أن الولايات المتحدة تكاد تفقد توازنها لفقدانها العدو السوفياتي فهل يمكننا الاستمرار بدون الاتفاق على تعريف العدو؟. وفي حال الاختلاف على هذا التعريف هل يمكن الإدعاء بفعالية ما للمؤسسات العربية الجامعة؟. والأسوأ أن هذا الاختلاف يمتد إلى الساحة الداخلية في البلاد العربية. ولو عدنا إلى المثال العراقي لوجدنا اختلاف العراقيين ،المستمر إلى ما بعد تدمير العراق، على تعريف العدو. حيث رآه بعضهم متمثلاً بصدام حسين وآخر بالنظام كله وآخر بأميركا وآخر بالسعودية أو بإيران أو حتى بالطوائف العراقية في ما بينها ... الخ. بما يطرح السؤال عن استطاعة هذه الفرق الاتفاق على شكل الحكم الذي يريدونه لعراق ما بعد الحرب؟. إنه الطاعون المستشري في الأجواء السياسية العربية.

ملحق عقدة فيتنام

عقدة فيتنام الأمريكية

نشرت هذه الدراسة 30-6-2000 وهي تساعد على طرح الأسئلة حول السلوك العسكري للرئيس جورج بوش وصقور إدارته. وكذلك السؤال عن مصير عقدة فيتنام لدى المواطن الأمريكي العادي. حيث تؤكد الدراسة على عدم شفاء عقدة فيتنام. بل ربما هي تعقدت وتداخلت مع عقدة الثلاثاء الأسود. مع ذلك يستمر ووكر بوش باعتماد سياسة الثور الهائج وإن على شكل حروب مقسطة... وها نحن نقرأ هذه العقدة بعد الحرب العراقية فنقرر ليس فقط عدم شفاءها بل عدم قابليتها للشفاء. فبالرغم من ثقة الجنود الأميركيين وقادتهم بتفوقهم المطلق  فهم لم يتحملوا إحباط مقاومة أم القصر البدائية فراحوا يتناولون مخدر الامفيتامين. وهذا المخدر هو المسؤول عن النيران الصديقة التي قتلت نصف قتلى التحالف في هذه الحرب. مع الإشارة إلى إصرار قائد الحرب فرانكس على تأمين تغطية جوية كاملة لجنوده. ومع التأكيد على استمرار الحسابية الأمريكية المبالغة والممانعة غير القابلة للتجاوز في ما يتعلق بتقديم ضحايا بشرية أميركية في هذه الحرب أو في غيرها. الأمر الذي يؤكد استمرارية العقدة الفيتنامية وما يتفرع عنها من سلوك عسكري تجنبي.

كانت حرب فيتنام آخر انتصارات الشيوعية لكنها لم تكن آخر الحروب الأمريكية. ومع ذلك يمكننا اعتبار هذه الحرب خاتمة للهزائم الأميركية حتى أن بعضهم يعتبر هذه الحرب آخر الهزائم الأميركية. وهذا البعض يصنف المواجهات الأميركية الخاسرة بعد فيتنام على أنها مواجهات افتراضية وليست مواجهات حقيقية. لكن الجميع يكادون أن يتفقوا على كون هذه الحرب قد أحدثت تغييرات جذرية في السلوك العسكري الأمريكي. وهم يردون  هذه التغييرات إلى ما يصطلح على تسميته بعقدة فيتنام. ولقد أصابت هذه العقدة نظام القيم الأميركي بكامله فانعكست على جميع القطاعات الأميركية. فبات كل قطاع منها يبحث عن حلول لهذه العقدة على طريقته الخاصة.

بعد مضي كل هذه السنوات على نشوء هذه العقدة وعلى الجهود الدائبة لإيجاد الحلول السلمية لها, يقول البعض إن أميركا شفيت من هذه العقدة شفاءً تاماً. في حين يصر البعض على تفاقم هذه العقدة باعتبار الحقائق الأميركية خاضعة لنظام التعليب (التخطيط الموجه مع إهمال بعض الحقائق وحجب بعضها وتضخيم بعضها الآخر... إلخ) بما يتناقض مع المواجهة الصريحة للحقائق, وهي المواجهة الضرورية للتخلص من أي عقدة نفسية (فردية أو جماعية).

ومهما يكن وقبل الدخول في التفصيلات فإنه من الضروري أن نميز بين القطاعات المعانية من آثار هذه العقدة وهي اختصاراً:

الرئاسة الأمريكية.

الكونغرس.

المراكز المهمة في صناعة القرار.

الرأي العام الأميركي.

وهذا الاختصار ينطوي على تبسيط يؤدي إلى سوء الفهم. فهو يهمل التناقضات والصراعات داخل كل قطاع من هذه القطاعات.


تعريف العقدة النفسية

لا بد من إيراد هذا التعريف وتطبيقه على الحالة الأميركية- الفيتنامية قبل مواصلة البحث في مصير هذه العقدة. وهذا التعريف هو الآتي: العقدة هي مجموعة من العلائم الشخصية والرغبات والانفعالات والأهواء والمواقف العاطفية اللاوعية  والمتشابكة في ما بينها بروابط لا واعية أيضاً. ويتابع التعريف بأنه من الخطأ الاعتقاد بإمكانية نشوء العقدة عن صدمة عنيفة. بناءً عليه فإن تسمية "العقدة الفيتنامية" هي تسمية غير دقيقة من الناحية العلمية وهذا يستتبع أنها لا تشفى على غرار العقد- بل أن شفاؤها مثله مثل سائر حالات الشفاء, يقتضي التشخيص الدقيق الذي لا غنى عنه في عمليات مراقبة تطور الحالة وتماثلها للشفاء أو حتى تفاقمها. والتشخيص الدقيق للحالة هو أنها تجربة صدمية (traumatic) عايشتها القطاعات الأمريكية كل واحدة على طريقتها الخاصة. فكانت علائم الصدمة الرسمية معنوية وذات علاقة بالصراع مع الاتحاد السوفياتي وبالتالي بهيبة القطب الأميركي وبقدرته في الاستمرار على حماية مصالحه وأصدقاءه. أما على الصعيد الشعبي فقد تجلت  علائم الصدمة بالخسائر البشرية للحرب. وهي خسائر لم يجد لها الرأي العام الأمريكي أي مبرراً. وهكذا فجرت هذه الصدمة الانشقاق بين الحكومة الفيدرالية وبين الشعب الأميركي. مما يشكل صدمة إضافية يمكن اعتبارها تمهيدية للانشقاقات اللاحقة للرأي العام الأميركي. وأبرزها الميليشيات الآرية التي تدعو لطرد الملونين واليهود والاحتفاظ بالولايات المتحدة للعرق الآري. وهكذا يمكننا أن نقبل تساهلاً تسمية "العقدة" ولكن بعد أن نوضح ملامح السلوك التجنبي الذي يعقب التجربة الصدمية. فهذا السلوك هو الذي يشكل المظاهر المتبدية سياسياً للعقدة الفيتنامية.

السلوك التجنبي عقب صدمة فيتنام

بعد نهاية التهديدات التي تحملها الصدمة يبدأ الجهاز النفسي عمله من أجل استعادة التوازن المعتاد. ويتصاحب هذا العمل مع جملة مظاهر سلوكية. تمكن تسميتها بالسلوك التجنبي عقب الصدمى وتتلخص كما يأتي:

شعور بعدم الاطمئنان: الذي يؤدي إلى سلوك يقظة زائدة بهدف تجنب احتمالات تجدد الخطر، ويمارس هذا السلوك على الصعيدين الفردي والجماعي. ويمكن اعتباره استمرارية للخوف الناجم عن التجربة الصدمية.

مشاعر الذنب أمام الضحايا: يحس الناجون من الحدث الصدمي بأن نجاتهم كانت صدفة (خصوصاً الناجين ممن شاركوا في القتال), وتستمر غالبيتهم في وراية تفصيلات نجاتهم (التهرب من الخدمة أو الأخطار التي تعرض لها المقاتل...إلخ) ومن مجمل الروايات تتبدل مشاعر ذنب الناجين أمام الضحايا كونهم يستمرون في الحياة لأن الصدف لم تشأ اختيارهم للموت مع/أو بدلاً من الضحايا.

مشاعر الغضب والثورة: وهي مشاعر تعكس العجز عن منع حدوث الحدث الصدمي. والتي تتحول إلى غضب وثورة ضد من يعتبرونه متسبباً أو مشاركاً في إحداث الصدمة.

الخوف من تكرار الصدمة: يؤدي هذا الخوف إلى استمرارية معايشة الصدمة وخفض القدرة على نسيانها, وذلك بحيث تجدها تكرر على شكل ذكريات الصدمة أو كوابيس ورؤى هلوسية عابرة على علاقة بالصدمة. وتجلت الرؤى الهلوسية الأميركية ( عقب صدمة فيتنام) بهلاس الخوف من هجوم نووي شيوعي على الولايات المتحدة، فأدى ذلك إلى نشوء جمعيات تبني المخابئ الخاصة وتكدس الأطعمة الكافية لفترات طويلة تحسباً لذلك!.

التجنب المباشر: حيث يضطرد الفرد (أو المجموعة) لبذل الجهود من أجل السيطرة على الأفكار والعواطف والمواقف والنشاطات ذات العلاقة بالصدمة. وبذلك يكون الاضطرار لتجنبها وتجنب الآثارات والذكريات المرتبطة بالحدث وبالتالي تجنب كل وضعية يمكنها التذكير بالصدمة.


شفاء صدمة فييتنام

إن الشفاء التلقائي للصدمات مستبعد من تجارب الطب النفسي. ويقول العالم جانييه (Janet): " إذا ما فكرنا بالهرب من ذكرى حادثة مؤلمة، عن طريق الرحيل بعيدا عن مكانها، فإن الحزن يصعد معه ويسافر معه أينما رحل".

وعليه فإن مرور الزمن على الصدمة لا يعني شفاءها بل هو يعني تحولها إلى مزمنة ( وربما يسمح لنا هذا الأزمان بالتساهل في تسمية العقدة).

وفي عودة إلى عقدة فييتنام لا يمكننا تجاهل المتغيرات الحاصلة منذ نهاية الحرب الفييتنامية وحتى اليوم. ولعل أهمها وأكثرها جذرية هو اختفاء العدو- المهدد (الشيوعية). بما يوحي بأن نهاية التهديد يجب أن تستتبع معها نهاية الخوف. وإلى هذا المنطق يستند القائلون بشفاء عقدة فييتنام.

لكن التجارب الصدمية لا ترتبط العدو ( المتسبب بالحدث- الكارثة) قدر ارتباطها بالمشاعر المرافقة للصدمة والمخاوف الناجمة عنها. فالفتاة المتعرضة لعملية اغتصاب لا تشفى من صدمتها بمجرد موت الذي اعتدى عليها (مغتصبها) في المقابل نرى البعض يلاحضون، وعن حق، تدني مظاهر معاناة الصدمة الفييتنامية لغاية اختفاء بعضها تقريبا.

والجواب إن تباعد فترات ظهور هذه المظاهر والعوارض المصاحبة لها لا يعني الشفاء. فهذا الأخير إنما يعني الاختفاء الكلي لهذه المظاهر وهذا ما لم يحدث لغاية اليوم. حيث تتبدى هذه المظاهر بمناسبات معينة.

ولكن ما يمكن تأكيده أن سلوك الإدارة الأميركية العسكري، منذ حرب فييتنام ولغاية اليوم، يقوم بدور علاجي لهذه المظاهر. فهذا السلوك بات يتركز على جملة تصحيحات للخطأ الأميركي في فييتنام وأهمها:

توريط الأصدقاء، بما في ذلك توريط الأمم المتحدة نفسها.

عدم السماح بتكرار التجربة الصدمية: وهذا يعني في ما يعنيه:

عدم خوض صراعات غير محددة الفترة الزمنية.

تجنب أي صراع أو مواجهة عسكرية طويلة الأمد.

استبدال الحرب التقليدية بالحرب الافتراضية.

الاعتماد على التفوق العسكري والتكنولوجي وتجنب وقوع الضحايا.

التعتيم الإعلامي على أي وفيات أو إصابات بين المقاتلين الأميركيين.

زيادة الاعتماد على المواجهات الاقتصادية (حصار وفرض عقوبات) وإحلالها مكان المواجهات أو حتى التهديد العسكرية.

تحويل سياسة الاحتواء ( والاحتواء المزدوج) إلى استراتيجية معتمدة في السياسة الخارجية الأميركية.

السير قدما في خطوات العولمة الاقتصادية: التي تحول المواجهات العسكرية إلى لعبة مونوبولي وراهنا إلى لعبة أكثر تعقيدا هي لعبة دبلوماسي.

اعتماد مبدأ تقسيط الحرب: تحديدا منذ عهد كلينتون بدأت أميركا تواجه واقعة مفادها أن الحرب هي من الضرورات التاريخية. فالاستقراء التاريخي يثبت أن الحرب كانت حاضرة في كل العصور الانسانية. بل إنها هي المسؤولة عن التغيرات الحضارية الرئيسية في تاريخ الانسانية، أمام هذه الواقعة لجأ كلينتون لاعتماد مبدأ " الحروب المقسطة" وينطوي هذا المبدأ على تحديد رقعة معينة للحرب (لا تتجاوزها) على أن تجري المواجهات العسكرية ضمن حدود هذه الرقعة على أقساط يتم حسابها وتقديرها وبرمجتها بصورة مسبقة.

لكن هذه التصرفات التي تكون مجتمعة السلوك العسكري للإدارة الأميركية تبين أن هذه الإدارة لا تزال تعاني عقدة فييتنام. فعلى الغرم من الطابع العلاجي لهذه التصرفات فإن ملامح السلوك التجنبي تبقى واضحة فيها. أما الدور العلاجي لهذا السلوك فيمكننا تلخيصه كالآتي:

إنه يعطي المواطن الأمريكي مشاعر الأمان عبر توريط الأصدقاء في النزاعات. وبالتالي فإن هذا المواطن لا يشعر بالاستفراد الذي أحسه في الحرب الفييتنامية.

إن تكرار التجارب الصدمية يجعل آثارها تتراكم وتتصاعد بشكل هندسي. ومن هنا جهد الإدارة الأميركية لعدم تكرار أي مغامرة توقظ ذكريات الصدمة الفييتنامية.

ترفع الحصارات الاقتصادية ومعها مكافآت الدولة الأولى بالرعاية من معنويات المواطن الأمريكي. فتشعره بقدرة الولايات المتحدة وتأثيرها العالميين، لكن المبالغة والتوسع في استخدام هذه الآليات جعلا المواطن  يفكر طويلا ويناقش مدى فاعلية هذه الآليات، وخصوصا بعد تجارب ليبيا والعراق وكوبا..الخ.

يرى المواطن الأميركي في سياسة الاحتواء (والاحتواء المزدوج) إمكانية الخلاص من الأعداء دون الاضطرار لمواجهتهم. بل أحيانا عن طريق دفعهم لتصفية بعضهم البعض أو حتى لتصفية أنفسهم بأنفسهم.

تعطي العولمة/ الأمركة الاقتصادية للمواطن الأميركي شعورا بالتفوق الاقتصادي يستتبع معه عصبية التفوق في الميادين الأخرى. مما يحقق لهذا المواطن طموح الرخاء المتصاعد على حساب الآخرين.

الحرب بالتقسيط: تشبه لعبة الكاراتيه التي تستند إلى ضرورة تجنب أي التحام بالعدو والحفاظ على مسافة كافية بين الطرفين، وبهذا يتاح للولايات المتحدة استخدام تفوقها العسكري وتجنب الالتحامات التي تفضح نقاط ضعفها. بعد كل ما تقدم يطرح سؤال مزدوج: هل تخلصت أميركا من عقدة فييتنام ؟ وهو سؤال يستتبع آخر وهو: إلى متى تستطيع أميركا اعتماد هذا السلوك التجنبي في سياستها العسكرية والخارجية ؟

وهذا السؤالان يعودان بالجدل إلى منطلقاته الأولى. فالذين يرون أن الولايات المتحدة قد شفيت من عقدة فييتنام يرون أن هذه السياسة التجنبية ناجحة تمام النجاح وقابلة للاستمرار بدليل وجود بدائل للعراق وكوسوفو ومن هذه البدائل داغستان وتيمور الشرقية والقائمة تطول.

أما معارضو هذا الرأي فيرون فقدان الشعب الأميركي لقابلية الاتفاق على تقديم تضحيات لأي سبب من الأسباب. ويرون أن هناك تكرارا للصدمة الفييتنامية في كل من لبنان والصومال وكولومبيا والعراق وكوبا... إلخ، وهم يؤكدون بالوثائق فشل معظم سياسات الحصار الاقتصادي الأميركية ويشيرون إلى أن الخسائر المادية للحروب المقسطة تحرج الاقتصاد الأميركي، كما يرون أن العولمة الاقتصادية بدأت بالتراجع ويستدلون على ذلك من مؤتمرات الدول الخمس عشر المتلاحقة، ثم أنهم يرون الخطر الأكبر على مستقبل الولايات المتحدة داخليا، حيث هشاشة نظام القيم تؤدي إلى جرائم قتل غريبة وحيث الميليشيات العنصرية البيضاء، وعديدها مئات الآلاف، تعارض الحكومة الفيدرالية. عداك عن المجموعات العرقية واللاتينية التي تحاول تشجيع قيامة جهاز قيمها الأصلي...إلخ من التناقضات الداخلية التي تعترف الحكومة بأنها تصرف عليها 6 مليارات دولار سنويا تحت بند "مكافحة الإرهاب داخل الولايات المتحدة" ( بلغت مصاريف هذا البند 200 مليار دولار منذ 11 أيلول 2001حتى اليوم).

وفي النهاية وعيدا عن الموقفين فإن الرأي الاختصاصي (الطب النفسي) يمكنه التشديد على هضم العديد من آثار العقدة الفييتنامية دون أن يعني ذلك شفاءها أو قابليتها للشفاء طالما استمر السلوك التجنبي واضحا في تصرفات الإدارة الأميركية، وهي تصرفات تزيد تراكم الأعداء من البشر الذين يحسون بالاضطهاد (بغض النظر عن صحة هذا الشعور أو عدمها) فيفكرون بالانتقام، وهو رغبة كامنة ترضيها الإدارة الأميركية وتستجيب لها كحاجة من حاجات جمهورها. ولو نظرنا إلى تفوق السيناتور ماكين على بوش في المراحل الأولى لوجدنا أن ماكين يستند في ترشيحه، وفي هذا التفوق، على بطولته في حرب فييتنام. فهل يمكن القول بنجاة اللاوعي الأميركي من عقدة فييتنام ؟


صدمات الحرب العراقية

يتعذر علينا تحديد أصداء الكارثة المرافقة لهذه الحرب بدون تحديد الحجم الموضوعي للخسائر الناجمة عنها. حيث نجهل الأعداد الفعلية للضحايا (قتلى ومشوهين ومصابين جسديا ونفسيا ومتضررين مباشرين بخسائر معنوية ومادية وفقدان الأعزاء...) في كلا الطرفين، وهذه المسألة لا تحتمل الإرتكاء إلى الشائعات المتداولة، كما أنها مرشحة للبقاء طي التكتم لفترة طويلة، لذلك سنكتفي بعرض لنقاط الضعف والقوة بين الطرفين حيث نلاحظ:

كان المقاتل العراقي يملك عقيدة قتالية لكونه  يدافع عن أرضه ضد محتلين. لكن المواقف المتراكمة في معاداة النظام أضعفت هذه العقيدة وأربكتها. في المقابل لم يكن للمقاتل الأميركي أية عقيدة قتالية.

كانت تعبئة المقاتل الأمريكي تؤكد على تفوقه وتغطيته الجوية المطلقة وتشير إلى تشبيه الحرب برحلة صيد تستهدف نوعا معينا من الطرائد. مع تطمينات بأن بقية المتواجدين لا يتسببون له بالأذى ما لم يؤلمهم، في حين كان المقاتل العراقي مدركا للتفوق الهائل للخصم، وضمنا لاستحالة انتصاره.

كان المقاتل العراقي يتوقع الأسوأ في حين كان التفاؤل الأميركي زائدا، وهذا ما يفسر فقدانه لأعصابه وما عرف بظاهرة "النيران الصديقة"، ومعها هروب المقاتل الأميركي من المقاومة غير المتوقعة إلى تعاطي الكحول والمخدرات (وجدت زجاجات الكحول في الطائرات والدبابات التي أسر قوادها الأميركيون، كما تسربت أنباء عن تعاطي الجنود الأميركيين للأمفيتامينات وتورط ضباطهم ببيعهم هذه المواد).

يعاني المقاتل الأميركي من عقدة فييتنام في مقابل معاناة المقاتل العربي من إحباط مزمن ومتراكم.

إنشطار ولاءات المقاتلين العراقيين بين الولاء للنظام وبين معارضة مؤجلة للنظام مع تقديم مواجهة الاحتلال وبين مقاتلين لإرساء مصالح الجماعات التي ينتموا إليها. في حين تمتع المقاتل الأميركي بواقعة التفوق وبأحلام المكافأة والرخاء بعد النصر.

إنقلاب كل المعادلات بعد سقوط النظام، الذي عالج انشطار الولاء الأخطر، ليبقى السباق بين محاولات تنظيم معارض عراقية فاعلة ضد الاحتلال وبين المحاولات الأميركية لتعميق انشطارات التناقضات العراقية الداخلية، ربما تمهد لحرب أهلية عراقية.



ملحق الحرب الافتراضية

د- الحرب بين الاستباقية والافتراضية



إن نجاح الحرب الأميركية على العراق ليس دليلا على نجاح الحرب الاستباقية، إذ تعود عناصر هذا الانتصار إلى جملة أسباب موضوعية لا علاقة لها بالنظرية الاستباقية، وحسبنا التذكير بأن هذا الاستباق يأتي بعد أكثر من ربع قرن على استلام صدام للحكم، وهي فترة يراكم فيها الحاكم معارضاته ويرسخها، فالحاكم العابر (بضع سنوات) يخرج بكمية محدودة من الأخطاء وبقدر أقل من الأعداء. كما أن سقوط العراق أتى بعد سنوات الحصار التي أنهكت شعبه وإنسانه قبل أن تنهك بنى الدولة فيه. وعليه فإن انتصار الدولة الأقوى على دولة واهنة ليس نصرا يستحق التحول إلى مثال على صوابية مبدأ استراتيجي، كما أن هذا الفوز هو حصيلة الخطط الحربية المرتكزة إلى مبدأ الحرب الافتراضية المعاكس تماما للاستباقية، بما يجعلنا نعتبر هذه الحرب نموذجا للحرب الافتراضية ونقيضا يدحض الاستباقية.


الحرب الافتراضية

انبثاق سياسة المعرفة (The Emergence of Noopolitik) كان عنوان كتاب ظهر في العام 1999 لمؤلفين أميركيين مصنفين في عداد الاستراتيجيين الأكاديميين وهما: جون أركيلا، الأستاذ في جامعة مونترامي والمتخصص في الإعلام إلى جانب كونه عسكريا سابقا من رجال البحرية الأميركية والثاني هو دافيد روزفلت الذي يعمل محللا في مركز رائد للأبحاث الذي يقدم استشاراته لجهاز المخابرات العسكرية الأميركية، لكن الكتاب لم يلقَ الاهتمام الكافي في حينه وذلك لأسباب موضوعية أهمها:

الانهماك الأميركي في حرب كوسوفو والذي بلغ حدود الحرج بزيادة بالمدة المقدرة لها حتى وصلت إلى 79 يوما وأيضا باضطرار أميركا لممارسة ضغوطات عديدة على حلفائها الأوروبيين واضطرارها لإعلان عدم قدرتها على اتخاذ خطوة الإنزال البري وبالتالي إعلان الحرب.

وهو سبب يعود بدوره إلى حرب كوسوفو التي خاضها كلينتون كواحدة من حروبه الرمزية (استخدام التفوق العسكري والتهديد بزيادته ولكن دون إعلان الحرب) في المقبل يطرح كتاب مبدأ "الحرب الافتراضية" وهو متعارض مع "الحرب الرمزية" ومحرج لها على أكثر من صعيد.

إن الكتاب وعلى الرغم من طابعه المستقبلي- التنبوئي الرائج، لم يقدم شائعة قابلة للرواج الشعبي وللتداول بين عامة الجمهور، بل على العكس فإن الكتاب يطرح مصطلحات جديدة يجهد المؤلفان لتفسيرها ولتبيان سبل تطبيقها على الوقائع.

إن المؤلفان يستعجلان نقلة، لم يحن أوانها بعد، في مفهوم الصراع والحرب. ومن وجوه هذه النقلة اعتبار المصالح لا تبرر وحدها خوض الصراع إذا كان ذلك سيسقط ضحايا بين حلفاء يجب حمايتهم، على غرار ما حصل للكوسوفار. وهذه الأسباب تستتبع السؤال عن مدى قابلية أصحاب القرار لمناقشة طروحات الكتاب وآراء مؤلفيه ؟ وهل يتسم موقف هؤلاء باللامبالاة ذات التي لقيها الكتاب ؟ من الصعب طبعا إعطاء إجابة كافية عن هذا السؤال، إلا أن مجلس النواب قبل دعوة  المؤلفين لإجراء مداخلة عرضا فيها آراؤهما في موضوع الحرب الافتراضية، وتبدو المداخلة أكاديمية من النوع الذي يحتاج إلى إثبات فاعليته الإجرائية. أما أوساط الدفاع الأميركية فهي لا تعطي الوجاهة لهذا النوع من الأفكار الذي يهمل أهمية ملكية العدو المفترض لجهاز تلفزيون حتى نتمكن من التأثير فيه عبر محطات بثنا التلفزيوني. فالكتاب ومؤلفاه يضعان ثورة الاتصالات كمرتكز أساسي للصراع. وهما يتجاهلان أن توزيع أدوات الاتصال العالمي لا يتسم بالعدالة !

ولكن لماذا التوقف عند هذا الكتاب وقراءته على الرغم من كل الشوائب المذكورة أعلاه. والتي تدعو لإهماله أكثر مما تدعو لمناقشته؟ وهذا تساؤل واجب التبرير والإجابة كي نملك قابلية الاطلاع على الكتاب واستشفاف نواحي القوة والموضوعية فيه. بالنسبة إلينا فقد رأينا في هذا الكتاب، لدى صدوره، بعض التصورات المستقبلية الدقيقة حتى بدا لنا الكتاب وكأنه قد بكّر في ظهوره بضع سنين فقط. وبمعنى آخر فقد رأينا أن العديد من أفكار الكتاب المهملة والمهمّشة في حينه يمكنها أن تتحول في المستقبل القريب إلى أفكار مهيمنة، خصوصا أن غالبية الأسباب المؤدية لإهمال الكتاب سوف تنتهي بمجرد خروج كلينتون من البيت الأبيض، وعندها ستعاود هذه الأفكار وتستعيد قدرتها على إثارة النقاش وربما على القيام بتحليل رجعي للصراعات الأميركية منذ سقوط جدار برلين وحتى تاريخه.

ونأتي إلى عرض الأفكار الرئيسية للكتاب ومؤلفيه، وبالتالي فإن عرضنا هو عرض مفاهيم وليس عرض محتويات، والمفهوم الرئيسي فيها أن حروب المستقبل يجب أن تواكب التحولات الاجتماعية العميقة في بنى المجتمعات. وعليه فإن إدارتها الرئيسة ستكون متمثلة بالإعلام وليس بالأسلحة التقليدية أو بأسلحة الدمار الشامل أو حتى بالأسلحة الذكية. وعلى هذا الأساس يرى الكتاب أن الإعلام هو ميزة فيزيائية مثله مثل الطاقة والمادة، وبذلك يصبح من السذاجة الاستمرار في قبول التعريفات التقليدية للإعلام على أنه مرسل ورسالة وأداة اتصال ومستقبل، ومفهوم الكتاب يحيل كلا من المرسل والمستقبل وأداة اتصال (إرسال واستقبال) إلى مجرد عناصر، أما القيمة الرئيسية فهي للرسالة . فعن طريق الرسالة يمكن خوض الحرب عبر الشبكات (Netwar)، فحروب الغد لا يكسبها من يملك القنبلة الأكبر بل يربحها ذلك يخبر الرسالة (الرواية) الفضلى! بهذا يطرح الكتاب وبجرأة مفهوما جديدا للقوة، إذ يتنبأ بتحول القوة من عسكرية (أسلحة وعتاد) إلى إعلامية (علاقات إنسانية)، وبمعنى آخر فإن القوة ستتحول من مادية إلى لا مادية. ويصبح الصراع مرتكزا على قطبي التنظيم/ الإرباك (حيث النصر للطرف الأكثر تنظيما والأقل إرباكا). وعندها تصبح القدرة على إرباك العدو مساوية للقدرة على تدميره، وعلى هذه الأسس تحديدا يبني المؤلفان مفهومهما لما يسميانه بالحرب الافتراضية (Cyber war) ، حيث يتحول الإعلام إلى بعد استراتيجي رئيسي يمكنه الحلول مكان البعد العسكري (الحروب التدميرية) في حل الصراعات، وبهذا يتحول الإعلام إلى "سلطة لطيفة" قادرة على تجسيد الأفكار والقيم والمعايير والقوانين والأخلاق بالصورة الملائمة لعصر تتزاوج فيه "سياسة المعرفة" مع "عصر الاتصالات": وبهذا يكون الكتاب قد استجاب لدعوة المستقبليين ألفن وهايدي توفر من اجل تطوير فهم جديد للعلاقات بين الحرب وبين المجتمع الداخل في تطور سريع، والحاجة إلى هذا الفهم هي وراء تحذير المؤلفين من خطر الإصرار على اعتماد الطرائق التقليدية لإدارة شؤون الدولة مما يؤدي إلى احتمال استمرارية استخدام القوة العسكرية بصورة غير فاعلة وغير متناسبة، ويلخص المؤلفان رؤيتهما للسلطة اللطيفة (الإعلام) بتوزيع مفهومهما للإعلام على أربعة صعد هي:

يعتبر أن "كل بنية تحوي إعلاما"، وبما أن الإعلام يدخل في مقومات البنية فإنه يتجاوز مفهوم الاتصال، بل هما يعتبران أن الإعلام هو الذي يعطي البنية شكلها.

إن تطور تكنولوجيا الإعلام يتيح إمكانات متزايدة لتحقيق التنظيم عبر الشبكة، حيث يميز الكتاب بين أربعة تجليات للتنظيم هي: القبائل والأسواق والمؤسسات والشبكات، ويزيد روزنفلت أن التكنولوجيا تتطور باتجاه تعزيز دور الشبكة على حساب بقية أنواع التنظيم.

إن نظام الشبكة يتيح تفرق المعركة  (Swarm Battle) والمنتصر هو الناجح في السيطرة على الإعلام ( أي على الشبكة، كون هذه السيطرة تؤمن له التفوق في المعلومات وفي الاتصالات).

إن "السلطة اللطيفة" (الإعلام كبعد استراتيجي) تتيح إمكانية اعتماد استراتيجيا شاملة تقوم على مبدأ "الانفتاح الحذر" (Guard dopenness) ، وهذا الانفتاح يقترن بحرية تجوال المعلومات وهو تجوال في مصلحة الولايات المتحدة لأنها الأقدر على الإفادة منه حسب قناعة المؤلفين,

وبعد هذه المتابعة لنظرية الحرب الافتراضية، التي يطرحها الكتاب، يحق لنا الاستنتاج بأنهما ينظران إلى حرب كوسوفو على أنها حماقة كبرى، في المقابل يحق لمعارضيهما أن يتخذوا من كوسوفو منطلقا للقول بأن نظريتهما قد دفنت حتى قبل ولادتها !

لقد حاول المؤلفان توضيح موقفهما من حرب كوسوفو عبر مقال نشراه في صحيفة "لوس انجلوس تايمز" بتاريخ 20/6/99، وفيه أصرا على حسم النزاع كان بفضل نشر وحدات صغيرة من الكوسوفار (وعدد ضئيل من الحلفاء) مما اجبر الصرب على المناورة وإطلاق النار فأدى ذلك إلأى تحديد المواقع الصربية وقصفها. وبذلك فإن حرب كوسوفو تستجيب برأيهما لمبادئ الحرب الافتراضية التي تقتضي إشراك وحدات صغيرة على اتصال في ما بينها، مما يمكنها من شن هجمات منسقة (متفرقة مندمجة ومنتشرة) بصورة متحررة.

بذلك يمكن تجنب الاعتماد على القوى الأرضية التقليدية، أما عن حجم هذه الوحدات فيكفي أن يكون عشر عدد جنود العدو. ورأى الباحثان في مقالتهما أن العودة للإنزال البري كانت خاطئة. ويخلص المؤلفان إلى طرح "الحرب الافتراضية" كبديل في الحالات التي تعجز فيها العقوبات الاقتصادية والقصف الجوي المدمر والدموي عن حسم المعركة.


حرب العراق أولى الحروب الافتراضية


نأتي إلى تطبيقات نظرية الحرب الافتراضية في الحرب العراقة لنجد أنها كانت حرب معلومات في المقام الأول، حيث كان الإعلام المكون الرئيسي للبنية الهجومية الأميركية ( راجع الفصل الأول: الحرب النفسية الأمريكية)، إذ كان أداة لإرسال رسائل داعية للتمرد وموجهة للمعارضين وكذلك للمحبطين في دائرة النظام. كما يلفتنا لجوء المخابرات الأميركية إلى تدمير موقع الجزيرة على الانترنت، وقصف مكتبها في بغداد مع حصار مكتب فضائية أبو ظبي. وأيضا، الاعتماد على القبائل والعشائر العراقية، ولا يخفى دور الانفتاح الحذر للمعلومات (Swarm Battle)  حيث كانت المعلومات الأميركية تسرب بصورة متضاربة ومقسطة وتتوزع ما بين البنتاغون والقيادة الميدانية وقاعدة السيلية. فإذا نظرنا إلى معركة المطار وجدنا أن الصراع حسم بفضل نشر وحدات صغير من القوة المحمولة الـ 101 مما اجبر العراقيين على المناورة وإطلاق النار فأدى ذلك إلى تحديد المواقع العراقية وقصفها ، ثم لاحقا، تم إرسال فرقة من المتطوعين العرب للقتال في دائرة المطار فكان ذلك إيذانا "بقصف مواقعهم وتحديد قدراتهم". فإذا ما أضفنا إلى كل هذه العلائم الافتراضية الدور الرئيسي المحرك للمخابرات الأميركية ( إنزالات استطلاعية واستكشافية متكررة مع اتصالات هاتفية فضائية مساعدة على توجيه القصف والاتصالات الاختراقية لبعض المسؤولين الكبار) لوجدنا أن حرب العراق هي الحرب الافتراضية الأولى، وهي تجد تتمتها في تشجيع الأميركيين للفوضى المطلقة التي ينشرها لصوص بغداد فيساعدون المحتلين على إتمام سيطرتهم على النقاط الاستراتيجية الحساسة في غياب تام لأي مراقبة أو حتى ملاحظة وطنية عراقية، ولخلق حالة إرباك يستحيل معها تنظيم أية مقاومة للاحتلال. وهكذا فإن البحث في هذه الحرب واستراتيجيتها يعود إلى أركيلا وروزنفلت وليس إلى ريتشارد بيرل وبول ولفويتزز

 الى الأعلى


الدكتور مخائيل عيد


قرأت تداعيات العدوان الأمريكي على القضية الفلسطينية واستمعت إليه بانتباه فزادت قناعتي بأهميته وزاد إعجابي بدقة التحليل وعمقه وبواقعية الاستنتاجات وموضوعيتها ، فلا تهويل بالخطر ولا تقليل... فالخطر ماثل على الأرض وهو يتفاقم ويستفحل، لكنه ليس خارج إمكانية مجابهته إذا أحسنا توظيف ما نملك من طاقات. فهل سنفعل؟


النقطة الأولى: ما أود الإشارة إليه على هامش هذا العمل الجاد وشبه الشامل هو أن الشراسة الأمريكية لا تتجلى خارج الولايات المتحدة فقط بل أرى أن الشراسة الخارجية المتجلية بالعدوان والتهديد والغطرسة هي انعكاس لصراع داخلي ناشب بين الاحتكارات الأمريكية العملاقة وما أحداث 11 أيلول إلا من بعض تجليات ذلك الصراع الشرس... .

فابن لادن لم يكن وراء تفجير البرجين بل كان دوره الوحيد في ذلك هو سكوته عن توظيف اسمه في العملية... وثمة مثقفون ومحللون سياسيون أمريكان يعرفون ذلك جيداً وقد أعلنوه ولم يعد سراً. فالاحتكارات الحربية والاحتكارات النفطية في جهة والاحتكارات المالية المصرفية في جهة وللشعب الأمريكي المغيب موقف آخر مختلف.


النقطة الثانية: التي كنت أتمنى أن تتوسع الورقة في إبرازها هي مسألة أن الخطر الأمريكي لا يهدد العرب والمسلمين وحدهم، بل هو خطر ماثل يهدد شعوب العالم وحكوماته وحتى احتكاراته الكبيرة والصغيرة غير الأمريكية بما فيها الاحتكارات البريطانية الذيل المنتوف للولايات المتحدة.


النقطة الثالثة, هي مسألة توظيف الأموال العربية في خدمة أعداء الأمة... فهل نتوسل لمتمولينا  كي يوظفوا بعض أموالهم في بلدانهم أم نرجو الولايات المتحدة كي ترغمهم على ذلك، مادامت تعين لنا المخاتير كما تشاء... وهل ستفعل ذلك إذا رجوناها أن تفعل... إن توظيف أموالنا الطائلة لدى الأعداء مسألة بالغة الخطورة يطال خطرها العالم بأسره بكل فئاته...


وتبقى المسألة الأهم هي توحيد قوانا الطامحة إلى الخلاص والتقدم ورص الصفوف حول برنامج الحد الأدنى وتناسي الخلافات الثانوية... وستلعننا الأجيال القادمة إن لم نفعل.

وتبقى مسألة الديمقراطية وترتيب البيت الداخلي على أسس سليمة الخطوة الأولى والأهم نحو المستقبل.



 الى الأعلى

الأستاذ مصطفى أحمد قانوع


أولاً: أوجه التحية لاتحاد الكتاب العرب ورئيسه الدكتور/ علي عقلة عرسان الثابت كالجبل الأشم دفاعاً عن قضايا الأمة العربية وعلى رأسها القضية الفلسطينية في مواجهة الثقافة والكتابة من المطبعين والمتخاذلين والمثبطين.

كما أوجه التحية لمركز "باحث" ورئيسه الصديق الأستاذ/ وليد أبو محمد على عقد هذه الحلقة النقاشية في هذا الوقت العصيب الذي تمر به الأمة في حاضرها ومستقبلها، وقد عودنا على تناول الأمور بجدية وعمق فجزاه الله خيراً.

كما أتوجه بالتحية والتقدير إلى الأستاذ الجليل/ إبراهيم أبو الهيجاء المرابط على أرض البطولة والفداء في جنين القسام، والذي لم يصرفه العناء والحصار وخطر الموت أو الاعتقال الذي يعاني منه شعبنا الفلسطيني من قبل سلطات الاحتلال الصهيوني عن الانفعال بقضايا الأمة، والتفكير بالأسلوب الأمثل للخروج من هذه المحنة الخطيرة من خلال هذه القراءة الواعية المعمقة.

أعلن أني أختلف مع أولئك الذين أعلنوا عن استغرابهم من إفراد القضية الفلسطينية بتداعيات العدوان الأمريكي على العراق لأسباب منها:

أن القضية الفلسطينية هي قضية الأمة المركزية، وهي المتضرر الأكبر من هذا العدوان، بل أكاد أقول:" إن هذا العدوان قد استهدف القضية الفلسطينية من خلال العدوان على العراق، وهو قد حدث لاعتبارات صهيونية أولاً ولخدمة الكيان الصهيوني المحتل في فلسطين، ولوقف مساندة العراق لفلسطين وشعبها وتقديمه الدعم المادي وتأكيد موقفه السياسي الرافض لوجود هذا الكيان على أي ذرة من أرض فلسطين المباركة وتقديمه الشهداء في فلسطين منذ عام 1948 وطوال تاريخ الصراع حتى الآن، وتغييب العراق في هذه المرحلة الخطيرة بعد تغييب مصر بعد خيانة كامب ديفيد، وتغييب الجزائر منذ التسعينات، والتآمر على سوريا وإيران لكسر شوكتيهما وإضعاف دوريهما وإشغالهما بأنفسهما بعد احتلال العراق، ومن ثم إيصال الشعب الفلسطيني إلى الإحباط والاستسلام الصهيوني الأمريكي، وتوقيع صك التسليم والتفريط في ظل اليأس وانعدام الأمل في المستقبل.

أن مركز باحث هو مركز فلسطيني يعنى أول ما يعنى بالشأن الفلسطيني وتأثره أو تأثيره في سير الأحداث.

كذلك فالكاتب الأستاذ أبو الهيجاء كاتب ومفكر فلسطيني يعيش في الأراضي المحتلة صامداً مقاوماً بالكلمة واللسان.

إلى جانب أن المدعوين لنقاش الورقة هم في معظمهم من الكتاب والمفكرين الفلسطينيين أو المتعاطفين معها.

إن هذا البحث المقدم من قبل الأستاذ أبو الهيجاء هو بحث متكامل في مختلف جوانبه، وهو دراسة معمقة يحاول من خلالها الباحث أن يدرس الواقع وأن يرى الانعكاسات وأن يتابع المخاطر المتوقعة، وأن يضع الحلول المناسبة وفق الخيارات الممكنة.

سقوط بغداد: لا شك أن سقوط بغداد قد شكل صدمة عنيفة للشعوب العربية والإسلامية على وجه العموم, وللشعب الفلسطيني على وجه الخصوص, هذا الشعب الذي صمد برغم إمكانياته الضعيفة في وجه أعتى  وأشرس حملة صهيونية كما جرى في كل من مخيم ومدينة وقرية في فلسطين، وما حدث من صمود في مخيم جنين لأكثر من عشرة أيام وتكبيد العدو الصهيوني عشرات القتلى ومئات الجرحى، ومع تلك الصدمة فأننا يجب أن نكون واقعيين وموضوعيين فلا نبخس العراق حقه وهو الذي قد صمد خلال عشرين يوماً وكبد العدو الأمريكي البريطاني خسائر فادحة في جنوده الإرهابيين وأسلحته المتطورة، ومن كان يظن أن العراق سوف يهزم أمريكا وبريطانيا أو أنه سوف يصمد على الأبد فهو واهم، لأن العدو الأمريكي الإرهابي خرج لينتصر ولو أدى به الأمر إلى استخدام السلاح النووي لإبادة بغداد وكل العراق كما فعل من قبل في هيروشيما ونجازاكي، ولا سيما في ظل الهيمنة الإمبريالية لوحيد القرن على العالم، واستهتاره بكل الدول والمؤسسات الدولية.

إن سقوط بغداد مازال لغزاً محيراً لا يجوز أن نتعجل الحكم على العراق أو نظامه قبل انكشاف الحقائق، كما يجب علينا أن نلوم الأمة وقياداتها التي وقفت متفرجة وهي ترى العراق يتم تدميره واغتصابه طوال تلك الأيام دون أن تتحرك لضرب مصالح أمريكيا وبريطانيا أو تقف مع الشعب العراقي ومقاومته وقفة جادة تفرض على العدوان أن يتوقف أو يندحر.

وإننا لعلى ثقة أن العراق سوف يقوم هؤلاء المحتلين الأمريكان والبريطانيين كما يقاوم شعبنا الفلسطيني المحتل الصهيوني دون كلل ولاملل ولا حساب لآلاف الشهداء وعشرات آلاف الجرحى الذين يجود بهم شعبنا في سبيل الله ودفاعاً عن شرف الأمة  ومقدساتها، ولعل بوادر قد ظهرت لمقاومة العراقيين في الفالوجا وغيرها، سقوط يومي لقتلى وجرحى من الإرهابيين الأمريكان والبريطانيين بأيدي المقاومين سواء في الشمال أو وسط أو جنوب العراق، لتلتقي مقاومة العراق مع مقاومة فلسطين وأفغانستان للتحالف الإرهابي الأمريكي الصهيوني البريطاني، ونحن على ثقة أن هذا هو الطريق  لموجهة أعداء العرب والمسلمين، ولا سبيل لنا إلا المقاومة والجهاد، وإذا كانت المقاومة في العراق مازالت  دون المستوى المطلوب فإننا على ثقة أن الشعب العراقي ما يزال في معظمه تحت تأثير الصدمة أو تحت تأثير اثنتي عشرة سنة من الحصار والتجويع والإبادة والقهر، ولا شك أن ممارسات العدو الأمريكي الصهيوني الإجرامية ضد هذا الشعب، وتكريس احتلاله للعراق، وسيطرته على مقدارت ونفط العراق، سوف يستفز شعب العراق البطل لمقاومة المحتلين الغاضبين، ولكن لا بد من مرور فترة ينتهي فيها جيل القهر والخوف ليظهر جيل جديد حر لا يخاف ولا يجبن، ولا يعيش فيها الكثيرون من أجل مصالحهم الشخصية أو الحزبية، بل من أجل العراق وإنقاذه من المستعمر الأمريكي أو عملاته الذين سوف ينصبهم لحماية مصالحه وجنوده ومستوطنيه، والذين يطمحون من خلالهم إلى اعتراف العراق الجديد من خلال قيادته العميلة بالكيان الصهيوني والغاصب لفلسطين وتبادل العلاقات السياسية والاقتصادية مع الصهاينة، وقد بدأ الصهاينة يطمحون إلى إعادة فتح خط أنابيب كركوك- حيفا النفطي بعد أن أغلق الأمريكان المحتلين خط أنابيب النفط بين العراق، كما أصبحوا يطمحون في علاقات ديبلوماسية ويرشحون لسفارتهم المحتملة الصهيوني الإرهابي بن أليعازر وزير الحرب السابق لأنه من أصل عراقي، كما أصبحوا يطالبون في إعادة الإعمار بالعراق.

إن غياب حكم طالبان في أفغانستان من خلال العدوان الأمريكي قد أدى إلى تنصيب العميل كرزاي حاكماً لقمع مقاومة الشعب الأفغاني وتكريس الاحتلال الأمريكي ومحاولة تبادل العلاقات مع العدو الصهيوني الغاصب، ولقد طالعتنا صحيفة "معاريف" الصهيونية قبل أيام بنص رسالة خطية أرسلها المدعو/ عبد الله عبد الله وزير خارجية حكومة كرزاي لنظيره الصهيوني سيلفان شالوم ذكر فيها أن حكومته تريد أن تعمل مع دول تريد السلام وعلى رأسها "إسرائيل", وأنه يطلب من الكيان الصهيوني أن يؤيد ترشيح أفغانستان لعضوية منظمة اليونسكو التابعة للأمم المتحدة التي ستجري انتخاباتها في شهر أيلول القادم في العاصمة الفرنسية باريس، وأكدت الصحيفة الصهيونية على لسان مصدر في الخارجية الصهيوني أن "إسرائيل" ربما تبرم اتفاقاً مع أفغانستان على التعاون في إعمار الأراضي الأفغانية واستثمار شركات التكنولوجيا "الإسرائيلية"  في تطوير التكنولوجية الأفغانية مقابل مساندة "إسرائيل" لأفغانستان في اليونسكو وبقية المنظمات الأخرى التابعة للأمم المتحدة.

وزارة محمود عباس وخريطة الطريق:

إن وزارة محمود عباس التي تشكلت بأوامر أمريكية وصهيونية ومن بعض الأنظمة العربية، والتي تم فرضها لتهميش دور رئيس السلطة ياسر عرفات الذي وصل في التنازلات إلى الخط الأحمر الذي يمنعه تاريخه ورمزيته من تجاوزه قد دفع الأمريكان والصهاينة لفرض تشكيل حكومة فلسطينية برئاسة محمود عباس تتمتع بكل الصلاحيات، وتبقي عرفات رئيساً شكلياً يبقى في مقر السلطة دون قتل أو اعتقال أو إبعاد حتى يوقع على الاتفاق النهائي الذي يلحق الدولة الفلسطينية التي يراد لها أن تقوم على جزء من الأرض بدون سيادة أو حدود حرة مع جيرانها العرب، وبدون سيادة على الأرض أو الجو أو البحر, وبدون مدينة مقدسة وبدون عودة اللاجئين الفلسطينيين على أرضهم وقراهم مدنهم، أو يموت موتاً طبيعياً دون ضجيج أو تأثير، وقد بدأت معركة كسر عظم حقيقة بين عرفات وعباس على الصلاحيات فاز فيها أخيراً محمود عباس واستطاع أن يفرض حكومته بمعظم وزرائها التي استبعدت بعض الوزراء المقربين لعرفات، وفرضت وزراء لا يريدهم عرفات مثل محمد دحلان الذي تم فرضه على عرفات من خلال زيارة مدير المخابرات المصرية عمر سليمان إلى رام الله، وإن كان قد تم التغطية على هزيمة عرفات بتغيير مسمى وزير شؤون الداخلية التي احتفظ بها محمود عباس لنفسه،كما سوف يشرف على قوى الأمن والمخابرات الفلسطينية التي سوف يناط بها   - كما جرى سابقاً- مهمة وقف الانتفاضة وقمع المقاومة حماية أمن الكيان الصهيوني وتفكيك البنى التحتية للمقاومة وجمع السلاح وقتل أو اعتقال المجاهدين كشرط للتفاوض على خريطة الطريق التي قبلتها السلطة دون نقاش أو تحفظات بعدما فرضتها أمريكا على الرباعية، وبالرغم من  أن هذه الخريطة  قد تمت استشارة الصهاينة في كل بنودها أثناء التفكير الأمريكي في تقديمها من قبل إلا أن الإرهابي شارون راح يزيد في الشروط التي يجب على الفلسطينيين القيام بها شرطاً لقبول هذه الخارطة أو البدء بتنفيذها.

خريطة الطريق تبيع وهماً للفلسطينيين وتمهد لحرب أهلية فلسطينية لأن حركات المقاومة وكتائبها مثل حركتي "حماس" و الجهاد الإسلامي والجبهة الشعبية وحتى كتائب الأقصى التابعة لحركة فتح ترفض وقف المقاومة وتسليم السلاح وضرب بناها التحتية مما قد يؤدي إلى صراع لا تحمد عقباه، يستفيد منه العدو الصهيوني وحده، ويخسر الفلسطينيون وحدهم، وهذا ما تسعى إليه حكومة عباس- دحلان.

إن الفصائل الفلسطينية المقاومة قد أعلنت أنها لن تستدرج إلى الحرب الأهلية محصنة بماضيها مع أجهزة أمن سلطة الحكم الذاتي وعلى رأسها جهاز الأمن الوقائي الذي كان يرأسه دحلان ويرأسه في الضفة جبريل الرجوب، والذي خدم العدو الصهيوني خدمة جليلة، وباهى ويباهي مسؤلوه بعلاقتهم الخاصة والقوية مع قادة المخابرات الأمريكية وكونداليزا رايس، وبقادة الجيش الصهيوني وأجهزة أمنه، وقد اعتقلت هذه الأجهزة آلاف القيادات والعناصر والمقاومين من حركة "حماس" عام 1996 إثر العمليات الاستشهادية التي قامت بها كتائب القسام والتي أدت إلى قتل وجرح المئات من الصهاينة انتقاماً لاغتيال الصهاينة للمهندس يحيى عياش، وقد تم تعذيب المعتقلين تعذيباً شديداً واستشهد الكثيرون أثناء التعذيب، كما تم تسليم بعض المجاهدين للصهاينة وتقديم المعلومات للصهاينة، بل لقد شارك الصهاينة في التحقيق مع المجاهدين في كثير من الأحايين، وقد استمرت أجهزة أمن السلطة حتى أثناء انتفاضة الأقصى في التنسيق مع الأمن الصهيوني وتقديم المعلومات والمساهمة في تسير اغتيال الصهاينة لبعض رموز المقاومة، ولقد عضت "حماس" والجهاد الإسلامي على الجرح، وتحملت كل هذا بصبر وجلد، ورفضت الانتقام من السلطة وأجهزة أمنها، واكتفت بالمجابهة السياسية من خلال رفض اتفاقية أوسلو التفريطية سياسياً، مع الحرص على استمرار المقاومة وتصعيد العمليات ضد العدو الصهيوني، معتبرة أن الاقتتال الفلسطيني خط أحمر، وأن البنادق كل البنادق لا بد من توجيهها إلى العدو الصهيوني، وأن اليد الفلسطينية التي تطلق النار على فلسطيني هي يد خائنة تخدم المخططات الصهيونية.


ما المطلوب في هذه المرحلة الخطيرة؟:

إن وزارة محمود عباس- دحلان قد جاءت لتفرض خارطة الطريق بالقوة، ولتضرب المقاومة من أجل حماية الأمن الصهيوني مما يجعل قوى المعارضة تعيش معادلة صعبة بين استمرار المقاومة للحفاظ على حقوق الشعب الفلسطيني التي لن تحقق إلا بالصمود والمقاومة والجهاد، وبين احتمالات الوقوع في الحرب الأهلية التي يخطط لها الأمريكان والصهاينة وتستعد لتنفيذها أجهزة أمن دحلان إذا قررت فصائل المقاومة استمرارها في المقاومة ومواجهة الاحتلال ورفض التنازلات والتفريط التي تهيئ وزارة عباس- دحلان لتقديمها. إن الاستفادة من الخلاف بين عرفات ومحمود عباس يمكن أن يفيد في إضعاف موقع عباس- دحلان، ولعل تلميحاً من عرفات برفضه لممارستهما وغضبه من فرضهما عليه وتهميشهما له، واستجابتهما للصهاينة والأمريكان سوف يشوه سمعتيهما لدى حركة فتح والشعب الفلسطيني، ويحول بين استمرارهما في خدمة الاحتلال وضرب المقاومة، أو يدفع إلى تماديهما فيكون ذلك كافياً لتدميرهما حركياً وشعبياً واحتمالات تصفيتهما، وينبغي على حركات المقاومة أن تفضح مخططاتهما لدى الشعب الفلسطيني وتدفعه للثورة عليهما، ورفض ممارستهما، وأن يلتف الشعب كله حول المقاومة وينهض لحمايتها.


كما ينبغي أن يتم فضح هذه الوزارة وأهدافها لدى شعوب وحكام البلاد العربية والإسلامية لقطع الطريق أمامها من التمادي في الغي وتقديم التنازلات واستهداف المقاومة واستدراجها للحرب الأهلية، والدعوة لتكريس الوحدة الوطنية بين أبناء الشعب الفلسطيني في الداخل والخارج، وتحريض الشعب الفلسطيني في الضفة وغزة والأرض المحتلة عام 1948 والشعب الفلسطيني في الشتات لمنع التفريط بحقوقه وثوابته.

ولا بد من بث روح الثقة والأمل في نفوس الفلسطينيين ونزع بذور اليأس والإحباط التي يحاول الأعداء والجهات العملية والمشبوهة تكريسه في النفوس بعد سقوط بغداد والنظام فيها واحتلال الأمريكان للعراق وتهديد دول أخرى صامدة، ولا بد من الاستناد إلى تكريس الإيمان في القلوب الواجفة بأن الله سبحانه أكبر من كل الأعداء وأن قدر الله نافذ لا محالة وأن اليأس كفر، وأن الله معنا، وأن النصر قادم لا محالة،وأن مع العسر يسرا،" وعسى أن تكرهوا شيئاً وهو خير لكم وعسى أن تكرهوا شيئاً وهو خير لكم وعسى أن تحبوا شيئاً هو شر لكم ولله يعلم وأنتم لا تعلمون، صدق الله العظيم.

ولا بد من تصدي المثقفين والكتاب الشرفاء لحملة التيئيس والإحباط التي يشنها بعض أدعياء الثقافة والكتابة المرتبطين أو المأجورين لخدمة مخططات التصفية وللدفاع عن العملاء والمتآمرين.

ويجب تعبئة الشعوب العربية والإسلامية وبعض المخلصين من الحكام على الوقوف مع قوى الصمود والمقاومة التي يستهدفها الأعداء الأمريكان والصهاينة بالعدوان بعد العراق وفي مقدمتها سوريا وإيران، ولا بد من الدعوة لموقف قوي في وجه الأعداء واستهداف مصالحهم للضغط عليهم، ومناصرة قوى المقاومة في فلسطين و العراق وأفغانستان، وطرد سفارات العدو من الدول العربية والإسلامية، وكذلك الدعوة لتخفيض العلاقات السياسية والاقتصادية مع أمريكا للوصول إلى قطعها،ولا بد من تنشيط لجان المقاطعة،  ومحاربة التطبيع مع العدو الصهيوني ومؤيديه.

والسلام عليكم ورحمة الله وبركاته.



 الى الأعلى


الأستاذ إبراهيم أبو ليل


ألقت الحملة العسكرية الأمريكية على العراق بظلالها على المنطقة العربية عامة وعلى القضية الفلسطينية بخاصة، حيث كان الهدف الأساسي من وراء هذه الحملة هو إغلاق ملف القضية الفلسطينية حسب  وزير الخارجية الأمريكي كولن باول. بعد أن أعادت الانتفاضة لهذه القضية أهميتها الاستثنائية من خلال روح المقاومة التي تجسدت على الأراضي الفلسطينية وأسقطت رهانات  التسوية وأصبحت خياراً استراتيجياً للشعب الفلسطيني في مقاومة الاحتلال. ولذلك عمدت الإدارة الأمريكية بالتنسيق مع حكومة شارون إلى تأجيل بحث أي موضوع يتعلق بالشأن الفلسطيني إلى حين

الانتهاء من الحرب على العراق. حيث أن سقوط النظام العراقي واحتلال القوات الأمريكية للعراق والاستيلاء على النفط و المياه والثروات الباطنية سوف يؤدي إلى ضمانة السيطرة الأمريكية على السياسة المستقبلية للمنطقة والتحكم بمصائر شعوبها. والسعي نحو الأهداف الصهيونية في سياق المساعي التي تحث عليها الإدارة الأمريكية نحو إعادة تشكيل العالم بما يتلاءم مع المصلحة الأمريكية وفق نظام عالمي جديد تحت الهيمنة الأمريكية والتي أصبحت موضع التنفيذ بعد أحداث الحادي عشر من أيلول. وقد تجسدت هذه السياسة في الحرب على العراق بقرار أمريكي منفرد متجاوزاً الأمم المتحدة والقوانين الدولية كما لو أن العالم غابة يحكمها الوحش الأمريكي. وقد أدى هذا التفرد الأمريكي إلى إبعاد الأوروبيين عن كبح جماح الأمريكيين في شن الحرب. الأمر الذي يؤدي إلى إبعاد الأوروبيين عن المشاركة الفعلية في صياغة العالم. مما يضعف دورهم في التأثير على المحاولات الجارية لإيجاد حل للصراع الدائر مع الكيان الصهيوني. وهو الهدف الذي يسعى شارون بشكل حثيث لتحقيقه لمنع تدخل أي طرف أوروبي في الشأن الفلسطيني.

ويرى قادة الكيان الصهيوني أن الحرب الأمريكية على العراق عكست عليهم نتائجاً كبيرة حققت أحلامهم الأمنية في تشكيل قوة رادعة في المنطقة وتحقيق التفوق العسكري من خلال التخلص من الخطر العراقي الذي يتهدد "إسرائيل" من الجهة الشرقية. وخاصة بعد أن تمكنت الصواريخ العراقية من الوصول إلى تل أبيب عام 1991. وكذلك التخلص من أي تهديد نووي عراقي في المستقبل وكذلك إضعاف الأطراف التي تشكل خطراً على الكيان الصهيوني في المنطقة. ويحلم الصهاينة في أن تعيد الولايات المتحدة رسم المنطقة من جديد للاستفادة من مصادر الطاقة والمياه التي يفتقرون لها في الحدود التي يسيطرون عليها وفي هذا الإطار ينظر الاحتلال الصهيوني باطمئنان إلى الاحتلال الأمريكي للعراق والذي يعمل إلى إيجاد حكومة عراقية موالية للغرب. يمكن أن توقع على اتفاقية صلح (عراقية-إسرائيلية) على غرار اتفاقية كامب ديفيد (المصرية- الإسرائيلية). وأن تلتزم هذه الحكومة بتنفيذ هذه الاتفاقية بشكل كامل تتفادى فيها ما يوصف بالقصور في كامب ديفيد المصرية. ذلك أن احتلال العراق وإيجاد حكومة موالية لأمريكا سيجعل منه حلقة هامة لتشكيل ما يعرف "بقوس سلام" الذي يمتد من تركيا عبر العراق والأردن إلى تل أبيب. ويمكن أن يفتح أفقاً سياسياً يساعد على إحداث تغييرات جيوسياسية  في المنطقة وفق الرؤية الأمريكية بما يخدم أمن الكيان الصهيوني. وقد زادت تطلعات "الإسرائيليين" بعد الحرب على العراق إلى فتح قنوات التطبيع مع الدول العربية. وإقامة علاقات مباشرة على مختلف الصعد الثقافية والتجارية والاقتصادية والعمل على إعادة فتح مكاتب الاتصال في بعض الدول العربية التي أغلقت في ظل الانتفاضة.

وأرى أن الهدف هنا لا يقتصر على محاولة فك العزلة والخروج من الأزمة التي يعيشها الكيان الصهيوني. بل يمتد إلى التغلغل في نسيج المنطقة من خلال إيجاد صيغة إقليمية يحتل الكيان الصهيوني مركزها ويهيمن عليها.

أما على الصعيد العربي فإن السلوك الأمريكي في المنطقة من خلال  استسهال الطريقة التي جرى التعامل بها مع العراق سوف يزيد من الضغوط على الأنظمة الرسمية لإجراء التغييرات فيها. وتفكيك البني القائمة، وإعادة تركبيها على نحو يسمح لليد الأمريكية أن تتدخل في رسم سياساتها الخارجية تحت شعار "تعميم الديمقراطية". ذلك أن الإدارة الأمريكية تنظر إلى البنى الثقافية والاجتماعية القائمة في الدول العربية. والتي يشكل الدين الإسلامي مكوناً أساسياً لثقافتها، على أنها منبعاً للعنف ويجب القضاء عليها. وإذا استطاعت هذه السياسة أن تخيف الأنظمة الرسمية وتحملها على فتح باب واسع أمام عمليات التطبيع وإقامة العلاقات المباشرة مع الكيان الصهيوني. إلا أنها على المستوى الشعبي ستدفع نحو بروز أشكال من المقاومة كما تؤدي إلى نشوء صراعات داخلية حادة من جراء خضوع الأنظمة للإملاءات الأمريكية. لأن هذه السياسات تتناقض مع إرادة الشعوب وتضعها وجهاً لوجه مع السلطات الحاكمة. وأرى أن هذا الواقع سيدفع كثيراً  من الطاقات الوطنية للعب دور طليعي في مواجهة هذه السياسات ورفض الاندراج  فيها ويساهم في التمهيد لانبثاق قوى حية جديدة تعيد الاعتبار للقضية الوطنية. إن أول الآثار السلبية للحرب على العراق انعكست  على القضية الفلسطينية تمثلت بفرض صيغة جديدة للسلطة الفلسطينية من خلال تشكيل حكومة فلسطينية برئاسة محمود عباس. ويتضح منذ البداية أن هذه الحكومة سيناط بها الدور الذي عجز شارون عن القيام به وتحقيق أهدافه في إنهاء الانتفاضة ووقف المقاومة. حيث أكد عباس على ضرورة وقف المقاومة وسحب كافة الأسلحة المتواجدة في أيدي الفصائل والأجنحة العسكرية وتقتصر حيازتها على أجهزة الأمن  التابعة للسلطة تحت شعار "السلطة الواحدة" في الوقت الذي لا تزال قوات الاحتلال تعيث في المدن والمخيمات الفلسطينية وتواصل عدوانها ضد الشعب الفلسطيني. وما أن انتهى عباس من تشكيل حكومته حتى أعلنت الإدارة الأمريكية نشر "خارطة الطريق" التي تندرج في ثلاث مراحل لإنهاء الصراع العربي- الصهيوني.

تبدو خارطة الطريق مفتوحة لطريق طويلة لا نهاية لها. حيث يرتبط تنفيذ مراحلها حسب تقديرات سلطات الاحتلال وتحقيق نتائج مرضية "للإسرائيليين" ، مما يعني أن الوضع المتفجر في ظل الاحتلال سيظل في حالة مراوحة. فضلاً عن أن مطالبة السلطة الفلسطينية بإنهاء المقاومة قد تؤدي إلى نشوء صدامات مع أجهزة الأمن.

الخطة لا تلزم سلطات الاحتلال بتفكيك البؤر الاستيطانية إلا تلك التي تم إنشاؤها منذ قيام الحكومة "الإسرائيلية" الحالية وبما يتماشى مع هذه الحكومة.

الخطة أمنية تسعى إلى تحقيق التهدئة وهي تستند إلى خطة تنت.

لا تتضمن الخطة الإعلان عن الدولة المستقلة وهي النقطة التي أكد عليها شارون من خلال المطالبة بحذف كلمة مستقلة من عبارة "الدولة الفلسطينية المستقلة".

لا تشير الخطة إلى انسحاب قوات الاحتلال من الضفة والقطاع أو أراضي عام 67.

يشير جدار الفصل الذي تدعي سلطات الاحتلال أنه لأغراض أمنية، إلى أن الدولة المنظرة ستكون مقطعة الأوصال على شكل معازل وكانتونات. إلى جانب دولة يهودية لا مكانة فيها لغير اليهود, من خلال تطبيق سياسة الترانسفير على الشعب الفلسطيني.

وأرى أن خطة الطريق ستلقى نفس المصير الذي لاقته اتفاقات أوسلو حيث ستستخدم فيها المراحل الانتقالية لاستهلاك الوقت وتحويل السلطة الفلسطينية إلى أداة لتنفيذ المخططات الأمنية الصهيونية ثم ستصطدم المفاوضات بقضايا المرحلة النهائية المتمثلة في القدس والحدود واللاجئين. في الوقت الذي تواصل سلطات الاحتلال فرض الوقائع على الأرض الأمر الذي سيدفع الأوضاع للانفجار ويعيدها إلى نقطة البداية مما يعني أن خارطة الطريق ما هي إلا وسيلة للقضاء على الانتفاضة وتصفية المقاومة.


 الى الأعلى


الباحث محمد رشاد الشريف:


قد يكون الوقت مبكراً للحديث بدقة, حول تداعيات العدوان والاحتلال الأمريكي للعراق، وعلى القضية الفلسطينية، ومجمل قضايا المنطقة العربية والوضع الدولي بوجه عام، لكن ذلك لا يقلل من أهمية محاولة استشراف هذه التداعيات والانعكاس منذ الآن، من أجل محاولة رسم استراتيجيا فلسطينية وعربية مناسبة للتعامل مع الوضع الجديد, ولتجاوز المعطيات السلبية في الوضعين الفلسطيني والعربي، والتقدم أكثر لتحقيق الأهداف الوطنية الفلسطينية والقومية العربية.

وفي البداية لا بد من القول أن الأهداف الصهيونية والأمريكية من هذا العدوان والاحتلال، على الصعيد الفلسطيني كانت واضحة ومعلنة تقريباً، تتمثل أساساً في:-


أولاً:- توجيه ضربة مادية ومعنوية للشعب الفلسطيني تؤدي إلى وقف الانتفاضة الشعبية الباسلة المتواصلة منذ أكثر من عامين ونصف، والتي ألحقت بالكيان الصهيوني خسائر بشرية واقتصادية وسياسية جسيمة. من خلال ما يحدثه سحق القوة العسكرية وإسقاط النظام العراقي من خلل إضافي خطير في موازين القوى في المنطقة والصراع العربي الصهيوني.


ثانياً:- الشروع في فرض عملية تصفية القضية الفلسطينية، تصفية نهائية، عبر فرض الحل الصهيوني لهذه القضية القائم على تكريس الاحتلال والاستيطان وتبديد الحقوق الوطنية للشعب الفلسطيني، خلف ستار، استئناف عملية التسوية بدءاً بخطة الطريق، والعمل "لدولة فلسطينية" خالية من كل مقومات السيادة، ولا تعدو كونها أداة أمنية في خدمة الصهاينة.


ثالثاً:- فرض الاعتراف بالكيان الصهيوني على كل الدول العربية والتطبيع، وفرض الحل الصهيوني على المحورين السوري واللبناني، عبر نزع سلاح المقاومة وضربها، وتطبيق الطروحات الصهيونية بشأن موضوعي الجولان وجنوب لبنان.


لقد تحدثت ورقة العمل المقدمة لهذه "الندوة" عن جوانب تفصيلية في هذه الأهداف، وقالت أن تحقيقها يتوقف إلى حد كبير على مستقبل العدوان على العراق، لجهة القدرة على السيطرة وتحقيق الاستقرار لصالح المحتلين الأمريكيين, وبما يمكنهم من التحول لترتيب أوضاع المنطقة وتسيد الكيان الصهيوني فيها.






وهي قد طرحت التداعيات المحتملة لهذا الاحتلال الأمريكي على العراق ضمن سيناريوهين متعاكسين:

أولهما يقوم على تحقيق الأهداف الأمريكية على الصعيد العراقي والصعيدين العربية والدولي وتوحيد الأمور لصالح العدوان والاحتلال.


أما الثاني فهو يقوم على احتمال تطور مقاومة عراقية فاعلة ضد الاحتلال الأمريكي، وممانعة عربية وإسلامية، وتحد دولي للأهداف الأمريكية, وبما يؤدي إلى حالة تورط أمريكي في العراق والمنطقة، تحد من التأثيرات السلبية لهذا الاحتلال والعدوان، على القضية الفلسطينية بوجه خاص، وقضايا المنطقة العربية بوجه عام.

وهنا لا بد من القول أن الأمور لا  تجري  في الواقع ضمن حدود السيناريوهات المتعاكسة، " أما هذا وأما ذاك"، بل "خليطاً من هذا وذاك" وهو ما تشير إليه مجريات الأمور في العراق والمنطقة والعالم منذ سقوط بغداد وانهيار النظام العراقي، وحتى الساعة.

فعلى الصعيد العراقي نجد نوعاً من المقاومة والرفض الشعبي المتعدد الأشكال تختلف من منطقة إلى أخرى، في الوقت الذي نجد فيه قوى متعاونة مع الاحتلال الأمريكي أو تتجه للتعاون معه سواء انطلاقاً من مصالح انتهازية أو مصلحة عابرة، أو مسايرة لواقع قائم، كما نجد قوى حائرة ومرتبكة تتخبط في هذا الواقع الجديد. نرى المحتل الأمريكي يبذل جهداً كبيراً من أجل تطبيق برنامجه ورؤيته وسط التعقيدات غير المتوقعة في الواقع العراقي، وبما ينعكس عليه تخبطاً وارتباكاً من الصعب إخفاؤه.

وعلى الصعيد العربي والإسلامي: نجد أيضاً شيئاً من الممانعة الوجلة لما يجري في العراق، ولمحاولة صياغة وضع المنطقة وفق المصالح والغايات الأمريكية والصهيونية، كما نجد في الوقت نفسه موافقة وانسياقاً من دول أخرى لا تجد غضاضة في السير ضمن الاستراتيجية الأمريكية, أو التكيف معها على الأقل.

أما على الصعيد الدولي وعلى الرغم من الارتباك والتراجع الذي أصاب دول المحور المعارض للحرب بعد سقوط بغداد مباشرة، إلا أنه بدأت تبرز مؤشرات إيجابية تتمثل في نوع من التحدي الروسي الذي يصر على أن الأمم المتحدة صاحبة الكلمة فيما يجري في العراق، يدعمه وإن يكن بشكل أضغف موقف فرنسي وألماني. مع تشكيل أطر دفاعية أمنية لا توافق الرغبات الأمريكية، كمعاهدة الأمن الجماعي التي ضمت روسيا، وبيلوروسيا، وطاجكستان  وكازخستان، وأرمينيا والمفتوحة لانضمام دول أخرى من الاتحاد السوفيتي السابق. وتشكيل قوة أوروبية للتدخل السريع مستقلة عن حلف الناتو تضم فرنسا وألمانيا وبلجيكا و الكسمبورغ.

أما على الصعيد الفلسطيني فعلى الرغم من المسارعة إلى تشكيل حكومة أبو مازن، ونشر مشروع خارطة الطريق في احتفالية شارك فيها ممثلو اللجنة الرباعية، إلا أننا نرى تصاعداً في الأرض للصراع يتجسد في استمرار الهجمات والاقتحامات الإجرامية التي يقوم بها الجيش الصهيوني على المدن والأحياء الفلسطينية، وفي العمليات الاستشهادية وعمليات المقاومة والرفض الفلسطيني لوضع السلاح قبل انتهاء الاحتلال الصهيوني، كما نجد حملة في الأوساط الصهيونية المتطرفة منذ "خارطة الطريق" وحتى في الكونغرس  الأمريكي(جنجريتشي).

وبالإجمال يمكن القول أن تداخل المعطيات الإيجابية والسلبية لانعكاسات الاحتلال الأمريكي على العراق، على مختلف الصعد المحلية والعربية والدولية، يجعل مسألة استشراق تداعيات هذه الحرب والاحتلال على القضية الفلسطينية أقل وضوحاً، وأكثر تعقيداً. والمهم في هذه المسألة هو العمل على نفث غبار الإحباط عن كل الجماهير العربية, وعلى تماسك القوى المناضلة الفلسطينية والعربية، ووضع استراتيجية ترتكز على التحرك والعمل على المحاور الإيجابية في الوضع الجديد وتطويرها، وردء مفاعيل العوامل السلبية وصولاً إلى تجاوز هذه المرحلة التي تحاول الولايات المتحدة فيها، أن تستثمر سريعاً احتلال العراق لفرض حالة استسلام كامل على الشعب الفلسطيني والأمة العربية، وأن تعيد تشكيل المنطقة وفق المصالح الأمريكية والصهيونية.

فالمعطيات القائمة بعد احتلال العراق لا تتسم بالسلبية المطلقة، وهي تشير إلى أن باب الصراع مازال مفتوح على كل الصعد، وأن الاستسلام ليس قدراً، وأنه ليس من السهل أن تصبح المنطقة والعالم بحيرة أمريكية صهيونية مغلقة.




 


--------------------------------------------------------------------------------

[1]  الكفاح العربي- 12/2/1999, عن "واشنطن بوست".

[2]  الشرق الأوسط- 7/10/1999

[3]   عبد الرحمن غنيم الغصة وكرة النار- قراءة في عقل صدام حسين وأسلوبه في اتخاذ القرار السياسي- دار الجليل- دمشق 1991    ص64-66.

[4]  اناتول ليفين، نهاية الغرب، الحياة عدد 14419 تاريخ 11/9/2002.

[5]   نفس المصدر

[6]  جريدة المحرر- العدد 349 تاريخ 14-20 حزيران 2002 عن كتاب "حروب غير مقدسة".

[7]  المحرر- العدد 351 تاريخ 28 حزيران- 4 تموز 2002.

2009-01-28 08:46:52 | 4840 قراءة

التعليقات

الإسم
البريد الإلكتروني
عنوان التعليق
التعليق
رمز التأكيد
مركز باحث للدراسات الفلسطينية والاستراتيجية