التصنيفات » مقالات سياسية

انتفاضة الأقصى 2000م العلاقة المزمنة بين الجهد التام والفشل الذريع


يتّضح لقارئ تلك المرحلة بأنّ الفلسطينيين خلال انتفاضة الأقصى وبعدها، قد سّيرتهم المتغيرات التي شاركوا في صنعها، وتلك التي لم يكن لهم فيها أيّ إرادة، وأبرزها وأهمّها على وجه الإطلاق، سبب اندلاع تلك الانتفاضة!

يمكن القول بأن انتفاضة الأقصى من حيث النتائج تقترب إلى حدّ التطابق هذه الانتفاضة مع ثورة عام 1936م، وذلك بسبب النتائج الكارثيّة التي تسبّبت بها وألحقتها بالشعب الفلسطيني إنّ ردّة فعل الفلسطينيين على زيارة شارون لإحدى باحات المسجد الأقصى، أمرٌ يمكن أن يندرج ضمن إطار متغيّر الفعل وردّ الفعل، الذي يتحكّم بهذا الصراع منذ نشأته؛ ولكن تفاقمت المعضلة الفلسطينية من خلال انفلات التسيّب الميدانيّ للفعاليات العسكرية غير المنظّمة من عقاله، والتي لا تمتُّ للعمل الجماهيريّ السلميّ بصلةٍ، والتي حمّلتِ الانتفاضة أعباءً ما كان لها أن تقدرَ على حملِها، بسبب ردّة فعل الإسرائيليين المدمِّرة، مقابل كلّ رصاصةٍ يُطلقها المسلّحون الفلسطينيون، وذلك على عكس ما سارت عليه الأمور خلال الانتفاضة الأولى "التي ابتعد فيها الفلسطينيون عن الأساليب التقليدية لحرب العصابات، ونجحوا في تحييد التفوّقِ العسكريّ الإسرائيليّ الواسع، باستخدامهم العفويّ للعصيّ والحجارة، وتوظيفِ وسائل الإعلام العربيّة والأجنبيّة، من أجل إيصال رسالتهم ومطلبهم العنيد بالحريّة إلى العالم".
 (المصدر- Baruch Kimmerling Book Politicide , page129)

قبل زيارة شارون إلى الأقصى بيومٍ واحد، بادر الإسرائيليون عبر قناةٍ أمنيّةٍ فلسطينيّةٍ ما ووساطة عضو كنيست عربي، إلى الاستفسار من السلطة الفلسطينيّة عن المخاطر التي من الممكن أن تحملها زيارة شارون إلى ساحة الأقصى وبعد ساعات من التشاور مع ياسر عرفات، قيل للإسرائيليين بأنّه لا خطرَ ولا ضررَ من هذه الزيارة!! كان السّؤال الإسرائيليّ خبيثاً؛ والجوابُ الفلسطينيّ بمنتهى المكر. لقد مارس كلاهما لعبةَ الخداعِ أملاً في أن يحقّق كلُّ طرفٍ مآربَهُ السياسيّة بعد فشل مفاوضات كامب ديفيد.

فعندما يلوم العالمُ "إسرائيلَ" على زيارة شارون لساحة الأقصى، التي من الممكن أن تتسبّبُ بسفكِ الدّماء، فإنّ إسرائيل ستسارع إلى القول بأنّها طلبتِ الإذنَ من السّلطة الفلسطينيّة، عبر قناة التنسيق المُشار إليها. أمّا الفلسطينيون، فإنّهم سيقولون لأنفسهم فقط، بأنّهم استدرجوا شارون إلى ساحة الأقصى، لتشتعلَ من هناك شرارةُ الاحتجاجاتِ الجماهيريّة، التي سترسل رسائل قويّةً لكلينتون وباراك، لتؤكّدَ على صحّة تخوّفِ عرفات من عدم المجازفة بقبول مقترحاتِ كلينتون وباراك في كامب ديفيد في تموز 2000م. ولكن نتيجةَ هذه المخادعةِ كانت بمثابة خسارةٍ ماحقةٍ للفلسطينيين، لربّما لن يتمكّنوا من استدراكِ تداعياتها مستقبلاً. إنَّ استجابةَ المستوى السياسيّ الفلسطينيّ للخديعة الإسرائيليّة، انتهت إلى أنْ يخدع الإسرائيليون الفلسطينيين، والفلسطينيون يعتقدون العكس. لقد أراد ياسر عرفات أن يٌثبتَ للإسرائيليين والأمريكيين والعالم من خلفهم، بأنّ رفضه لمقترحات باراك وكلينتون في كامب ديفيد، كان لهُ ما يبرّره، وأمامنا الدليل. وهو هذا الغضب الجماهيريّ العارم الخارج من القدس.

لكنّ انزلاقَ الانتفاضة إلى الأعمال العسكريّةِ التي شاركت فيها قوى الأمنِ الفلسطينيّة المختلفة، كان خطأً لم يتمكّن ياسر عرفات من معالجته مطلقاً، وأفقده زمامَ السيطرةِ والتحكّم بمسار الانتفاضة، والوقوع في الشّرَك الإسرائيليّ الأمريكيّ. وبدت الانتفاضة كحركةٍ فوضويّةٍ تمزج بين العمل الجماهيريّ والمسلّح في آن واحدٍ. لقد أضرّ هذا المشهد إعلامياً بصفاءِ الأهداف السياسيّة للانتفاضة، والتي سوّقها الإسرائيليون والأمريكيون كمنتجٍ خطرٍ للقنابل البشريّة ضدّ "المدنيين اليهود"؛ وتمكّن اللوبي اليهوديّ في أمريكا بمساعدةِ المحافظين الجُدد، من مساندةِ شارون في حربِهِ ضدّ الانتفاضة وتصفية السلطة تدريجيًّا. وهي الضحية الأولى للانتفاضة على أيّ حال.
لقد تبلور اقتراحُ تصفيةِ السلطة الفلسطينيّة، وإعادة احتلال الضّفة الغربيّة، قبل مقتل إسحق رابين بقليل. ولعلّه هو الذي قاد إلى تصفية رابين نفسه، في إطار مساعي اليمين الإسرائيليّ والمحافظين الجُدد في واشنطن لتصحيحِ الخطأ الكبير المتمثّل بالتنازلِ عن جزءٍ من (أرض إسرائيل).
حدث ذلك في عام 1996م، عندما قدّمَ المحافظون الجُدد في الولاياتِ المتحدة، قبل وصولهم إلى السلطة بقيادة جورج بوش الابن، وهم ريتشارد بيل وبول وولفوفيتز ودوغلاس فيث وجون بولتون ودونالد رامسفيلد، أفكارًا خطّيةً لبنيامين نتنياهو وأرييل شارون، تنطوي على إلغاء اتفاقِ أوسلو، وإعادة احتلال الضفة الغربيّة، ورفضِ مبدأ الأرض مقابل السلام، بهدف خلطِ الأوراق وإعادة ترتيبها من جديد، "وتفكيك السلطة الفلسطينيّة ومن ثمَّ ترميمها وإعادةِ بنائها من جديد" (المصدر- بانجمين بارت، حلم رام الله، رحلة في قلب السراب الفلسطيني ص 104)، بما يكفل الحفاظ على استمراريّة حضور الدور الأمريكيّ الفاعل في المنطقة، والمتخصّص بإدارة الصراع العربي الإسرائيلي لأطول مدىً زمنيٍّ ممكن، بما يكفل أيضاً عدم حلّه بأيّ حالٍ من الأحوال، لأنّ حضور الدور الأمريكيّ واستمراره ووجوده هو أمرٌ مرتبطٌ باستمرار هذا الصراع، لا توقّفه، ما سيؤدّي إلى فرضِ الوصاية الأمنيّة والسياسيّة والاقتصاديّة على السلطة الفلسطينيّة، من خلال تشكيل لجانٍ خاصّةٍ للإشراف على إعادة بناء مؤسّساتها بعد تدميرها.
وقد أكّد على صحّة هذه الحقيقة مدير مكتب شارون أثناء فترة ولايته الثانية، المحامي (دوف فايسغلاس Dov Weisglass)، حيث قال: "إنّ شارون أراد تنفيذ عمليّة السور الواقي التي جرت في بداية نيسان 2002م قبل ذلك بوقتٍ طويل". وأضاف إلى هذا الحديث (أوري شاني Uri Shani) مدير ديوان شارون خلال فترة ولايتهِ الأولى ما يلي:
"كنّا نريدُ الدّخول إلى القصبات، أي قلب المدن الفلسطينية، والقيامَ بعمليّةٍ عسكريّةٍ ذات معنىً كبير، والسيطرة على [يهودا والسامرة] أي الضفة الغربيّة، والدخول إلى أماكنَ لم يدخلها أحدٌ من قبل، ولا حتى في الفترة الأردنيّة".
ورغم أنّ أيًّا من المحيطين بشارون لم يصرّح بوجودِ خطّةٍ معدّةٍ مسبقًا، إلّا أنّ شاني قال "أدركنا أنّه توجدُ مهمّة، وأنّهُ إذا كان لدينا ردُّ فعلٍ يأخذُ بالحسبانِ الرأيَ العام العالمي، فإنّنا لن نصل إلى الخطّةِ الشّاملة بالدخول، وإعادة الاحتلال، والسيطرةِ على الضفة الغربية، ووقف الإرهاب، والانتصار عليه. وهذه الخطّة كانت موجودةً منذ اليوم الأوّل الذي وصل فيه شارون إلى منصبه في عام 2001م. إنّها موجودة، ولم تكن قابلة للتنفيذ في البداية، والجيش لم يفهم في البداية، ولم يستوعب الخطّة.

 هذا ما أراده شارون، ونحن نريد الوصول إلى هناك. وفي نهاية الأمر علينا أن ندرك أن هذا هو الأسدُ المرعب، والمقصود هنا شارون الذي تحدّثت عنه. وهو ليس قادرًا على العيش مع وجودِ العمليّات العدائيّة. إنه يخرجُ عن طوره؛ إنه ليس مستعدًا لتقبّل هذا الأمر. المقصود هنا العمليّات الفدائيّة، وهو يرى بذلك عجزاً. لقد أراد احتلالَ المدن الفلسطينيّة، وتدمير كلّ شيءٍ [كلّ شيءٍ] حتّى النهاية، والقضاء عليهم نهائياً". (المصدر- من تسجيلات البرنامج التلفزيوني الإسرائيلي همكور وتعني بالعربية المصدر، وكان بعنوان [شارون والانتفاضة الثانية]، الذي بثّته القناة العاشرة في شهر شباط2013م، وهو من إعداد وتقديم الصحافي رفيف دروكر/ ترجمة المركز الفلسطيني للدراسات الإسرائيلية – مدار،  بتاريخ 10/3/2013م).
وبالفعل هذا ما قام به شارون بعد وصولٍ متزامنٍ له وللمحافظين الجُدد، إلى رأس السّلطتين في "إسرائيل" والولايات المتّحدة. وأضيفت دافعيّةٌ جديدةٌ مشجّعةٌ لدى شارون لتنفيذِ هذه الخطّة، وهي الرّد على خطوةِ عرفات في إشعالِ الانتفاضة، وبعد عام ونصف من القصف المتواصل لمقرّات السلطة الفلسطينيّة، المدنيّة والعسكريّة. وفي نهاية آذار 2002م، نفّذ الجيش الإسرائيليّ خطّةً من شقّيْن:

الأوّل: عسكريٌّ، وهو اجتياح الضفة الغربيّة واحتلال المدن، في إطار عمليةٍ بريّةٍ واسعةٍ شارك فيها سلاح المدرّعات والطيران والمشاة، عُرفت باسم (السور الواقي)، والتي بدأت في التاسع والعشرين من آذار عام 2002م، ونفّذت بالتزامن مع عملية أخرى أطلقت عليها قوات الاحتلال اسم (ملقط الجرّاح)، التي استهدفت المدن الكبرى في الضفة الغربية باستثناء مدينة أريحا والخليل، والتي امتدّت بعد فترة قصيرة لتشمل الامتداد الريفي.
الثاني: سياسيّ وعسكري ويحمل نفس اسم العمليّة العسكريّة، وهو البدء ببناءِ (السور الواقي) على طول حدودِ الضفة الغربية مع "إسرائيل" وبداخلها.

بالإضافة إلى حصار عرفات ووفاتِه مقهوراً، ولربّما ندماً على إطلاقِه لانتفاضة الأقصى، وهو الضحيّة الثانية لها، شكّل كلّ ما تقدّمَ  ضربةً كافيةً للإعلان عن فشل الانتفاضة على نحوٍ استراتيجيٍّ، في تحقيق أيٍّ من مآربها التي أعلنتها، وهي إعلان استقلال الضّفة وغزّة، وطرد المحتلّ. ولم تتمكّن حتى من الحفاظ على ما كان عليه الحال قبل يوم 29 أيلول 2000م، من مكتسباتٍ سياسيّة، ففضّلت الخطط الغربيّة كافة استخدام مصطلح (العودة إلى ما كان عليه الوضع قبل 29 أيلول 2000م) بدلَ الإشارة إلى إقامة الدولة الفلسطينية المستقلّة. وجدنا ذلك في ورقة "تينت" وخارطة الطريق وتقرير ميتشل وفي المساعي الأوروبية كافة.

اختُتمت هذه المرحلة بمتغيّرٍ مهم، وهو الرسالة التي ردّ بها جورج بوش على رسالة أرييل شارون، فيما عُرف حينذاك بتبادل الرسائل في 14 نيسان 2004م بينهما، والتي أكّد فيها الرئيس الأمريكي على ثوابت السياسة الأمريكية التقليدية تجاه "إسرائيل"، بالإضافة إلى اعترافه بها كدولةٍ خالصةٍ لليهود، قائلاً : "إنّ الولايات المتّحدة ملتزمةٌ بأمن إسرائيل ورفاهيتها كدولةٍ يهوديّة". (المصدر - من نصّ رسالة الرئيس جورج بوش إلى شارون، ص2/ من وثائق وزارة الخارجية الإسرائيلية).
يعني ذلك بأنَّ الانتفاضة انتهت بنتيجةٍ سالبةٍ مئةً بالمئةِ فلسطينيًّا، وإيجابيّة بنفسِ النسبة إسرائيليًّا. وتمثّل النجاح  الإسرائيلي بفرض استراتيجيّة شارون المرتكزةِ على النقاط التالية:

1- إخفاء الشريك الفلسطيني، بعد نزع شرّعيته.
2- التصرّف في كلّ أمرٍ من طرفٍ واحد، كما كان الحال مع خطّة الانفصال في غزّة التي أيّدها جورج بوش في رسالته أيضاً.
3- تأجيل إقامة الدولة الفلسطينيّة إلى ما لا نهاية، أو عندما تقرّر إسرائيل ذلك.
4- إقامة جدار الفصل والضّم والعزل.
5- عزل القدس عن الضفة الغربية، وشطر الضفة إلى قسمين شمالي وجنوبي، وفصل الضفة عن غزّة.
6- تصميم شريكٍ فلسطينيٍّ مستعدٌّ للتوقيع على ما تريده إسرائيل.
7- اعترافٌ دوليٌّ تدريجيٌّ بيهوديّة الدولة العبريّة.

لقد خدم الفلسطينيون "إسرائيل" خدمةً جليّةً بهذه الانتفاضة، عندما مزجوا بين العملِ المسلّح غير المتوازي مع قوّتها والمظاهراتِ الشّعبية. وتسبّب هذا الأمرُ بـ "تأييد شارون من قِبل الولايات المتحدة في رفضه إجراءَ مفاوضاتٍ مع سلطةٍ تدير العمل الإرهابي، رغم التزام جورج بوش النظري والمظلّل بإقامة دولةٍ فلسطينيّةٍ قابلةٍ للحياة". (المصدر- زئيف شيف،  شارون لديه خطّة، هآرتس 28/6/2002م).

إذن، لم يستفدِ الفلسطينيون من كفاحهم خلال انتفاضة الأقصى، ولا في أيّ مجالٍ من المجالاتِ، بما في ذلك ترميم حالة الانهيار المجتمعيّ الداخلي، أو كبح جماح الفلتان الأمني، الذي كاد يفتك بوحدة المجتمع الفلسطيني، وتسبّب بهجرة أجزاءٍ عريضة من الكفاءات العلمية والوطنية الفلسطينية إلى خارج فلسطين. وتحمّلت حركة فتح وزرَ تلك المرحلة وأخطاءها بالكامل من 2000 - 2006م، وفقدت من رصيدها الجماهيري، ما تسبب لها بفقدان أغلبيّتها التاريخية، في المجالسِ البلدية والمجلس التشريعيّ الفلسطيني، الذي فازت حماس بأغلبيّة مقاعده في انتخابات 2006م.




انفصالُ غزّة عن الضّفة الغربية
بسبب عدم قبول حركة فتح وتسليمها بفوز حماس في انتخابات المجلس التشريعيّ التي نُظِّمت في 25 كانون الثاني 2006م، "وحصلت فيها حماس على الأكثرية المطلقة، أي 74 مقعداً (56%) من أصل 132 مقعداً، وحصلت "فتح" على 45 مقعداً (34%)، والمقاعد المتبقية حظِيت بها منظمات فلسطينية أخرى ومستقلّين". (المصدر- بانجمين بارت، حلم رام الله، رحلة في قلب السراب الفلسطيني، ص 218)؛ فإنها طلبت من الأمريكيين مساعدتها في إنقاذ خطّة إطاحة حكم حركة حماس. ولم تتأخر إدارة الرئيس جورج بوش في إجابةِ الطلب، فدفعت بـ (جاكوب والس Jacob Walles)، القنصل الأمريكي العام في القدس، إلى المقاطعة (رام الله) حاملاً معه الخطوط العريضة لتلك الخطّة، القائمة على دفع الرئيس محمود عبّاس لإلغاءِ نتيجة الانتخابات وإعلان حالة الطوارئ في الأراضي الفلسطينية. فيما بعد تعرّضت الخطوط الأمريكية العريضة لإطاحة حماس لإضافاتِ فلسطينيّة جوهريّة عُرفت باسم (خطّة عمل الرئاسة الفلسطينية)، وهي قائمةٌ على محورين اثنين: الأول: تنفيذ انقلابٍ لطيفٍ مدعّمٍ بعباراتِ الحفاظ على مسيرة السلام، والثاني: تنفيذ انقلابٍ عسكريٍّ صارمٍ. ومن أبرز أفكار تلك الخطّة المنشورةِ على موقع جريدة المجد الأردنيّة، التي سبق للأمن الأردنيّ أن صادرَ النّسخة الأصليّة منها من مطبعة الجريدة في 30 نيسان 2007م، قطع التمويل عن غزّة وتحويله إلى المقاطعة، وتعزيز السلطة الفلسطينية من خلالِ سلسلةٍ طويلةٍ من التسهيلات، كرفعِ الحواجز العسكريّة من شوارع الضفة الغربية، وتنفيذ مشاريع تطويرٍ اقتصاديةٍ ملموسة، وتكثيف برامج التجنيد والتدريب لعناصر أمنٍ جديدةٍ في الضفة الغربيّة، وذلك كمقدّمةٍ للدعوةِ لانتخاباتٍ مبكّرةٍ في خريف عام 2007م. لكن كلّ ذلك توقّف تنفيذه تقريباً بسبب مبادرة حزب الله إلى اختطاف الجنود الإسرائيليين، واندلاع الحرب بينه وبين "إسرائيل" في تموز 2006م. ولأنّ اتفاق مكّة في شباط 2007م لم ينجح في تسوية الخلاف العميق بين حركتي فتح وحماس، فإنّ "فتح" أستأنفت العمل بالخطّة التي طرأت عليها تعديلاتٌ نهائيّةٌ في شباط 2007م، وهو الشهر الذي وقّعَ فيه الجانبان الفلسطينيان على اتفاقِ مكّة؛ وعُرضت للمرّةِ الأخيرةِ على الرئيس عبّاس الذي صادقَ بدورهِ عليها، حدث كلُّ ذلك بدعمٍ منقطعِ النظير من قِبلِ الدبلوماسيّة الأمريكيّة بقيادة كوندوليزا رايس، والمبعوثين الأمنيين كيث دايتون وأليوت أبرامز. ومن أغرب ما قرأتُ في وصفِ ما حدث في غزّة هو ما قاله (ديفيد فورمسر david Fwurmser)، مستشار نائب الرئيس الأمريكي (ديك تشيني dick cheney) لشؤون الشرق الأوسطِ ، حيثُ قال: "أرى أنَّ الذي حصل في غزّة ليس انقلابًا لحماس بقدرِ ما هو محاولة انقلابٍ فاشلةٍ لفتح". (المصدر- بانجمين بارت، حلم رام الله، رحلة في قلب السراب الفلسطيني، ص 236)
إنّ حركة فتح أخطأت هنا خطأً تاريخيّاً بعدم إتاحتها المجال لحماس لممارسة سلطتِها. وأخطأت أيضاً في عدم تقديرها لقوّة حماس بشكلٍ واقعيٍّ ورسمِ سيناريوهات المواجهةِ معها. كان يجب على "فتح" أن تُقدّر بالضبط المستوى الذي عليه قدرة حماس العسكرية، وعلى أساسِه تقرّر. لو حصل ذلك لما حدثت المواجهة التي أخرجتها من قطاع غزّة، المكان الذي لن تعود إليه أبداً، حتى بمساعدةِ الآخرين، مثلما كانت عليه سابقاً، وبسبب عدم تقدير "فتح" لحقيقة موقف الإسرائيليين الذين شجّعوا أوساطاً معيّنةً فيها على هذه الخطوة، وصرفوا النظرَ في الفترة ذاتها عن عوامل عديدة ساعدت في تعاظُم قوّة حماس. لقد اقتيد الطرفان الفلسطينيان إلى الاقتتال بتدبيرٍ إسرائيليٍّ كامل، لأنَّ "إسرائيل" ستكون الرابح الوحيد منه.
ويمكن الاستدلال على هذا الأمر من خلال النظر إلى إحدى الوثائق التي سرّبَها موقع (Wikileaks)، وهي نصُّ لمحادثةٍ بين عاموس يادلين رئيس جهاز المخابرات العسكريّة الإسرائيليّة وبين السفير الأمريكيّ في تل أبيب، بتاريخ 13 حزيران 2007م، أي قبل يوم واحد من "تمرّد" حماس في قطاع غزّة، حيث جاء في تلك المحادثة وفقاً للنّص المسرَّب، والحديث ليادلين "يُسعد إسرائيل أن تضع حماس يدها على غزّة فيتمكّن الجيش الإسرائيلي من معاملةِ غزّة كدولةٍ عدوّة". (المصدر-  بانجمين بارت، حلم رام الله، رحلة في قلب السراب الفلسطيني، ص 224)

إلى ذلك، فقد اعتبر مؤتمر هرتسيليا لفحص حالة الأمن القوميّ الإسرائيلي، ومناعة "إسرائيل" ضدّ المخاطر الوجودية التي تهدّدها، في دورته الأولى سنة 2000م، وهو مؤتمرٌ دوريٌّ يُعقدُ كلَّ عامٍ بمشاركةٍ نوعيّةٍ من شخصياتٍ صهيونيّةٍ هامّةٍ، بأنَّ الخطر الديمغرافيّ الذي يشكّلهُ الفلسطينيون في الضفة وغزّة والقدس الشرقيّة والداخل، يستحقُّ المعالجة المبكّرة. ومن ضمن توصياته السريّة أيضاً، التي قُدّمت للمستوى السياسيّ الإسرائيلي، العمل على فصلِ الضفة عن غزّة، وتقسيمِ الضفة إلى قسميْن، وإلحاق الأقسامِ الثلاثة المذكورة بمصر والأردن لكن قبل ذلك ينبغي العمل على هدم أركان ومقوّماتِ إقامة دولةٍ فلسطينيّةٍ مستقلّةٍ متصلةٍ قابلةٍ للحياة، أي العمل على إنهاءِ وحدةِ الترابِ الوطنيّ الفلسطينيّ بشكلٍ نهائيٍّ. ومن أجل ذلك يجب العملُ بشكلٍ متزامنٍ على:

1- تعزيز الاستيطان في الضفة وتوسيع غلافِ القدسِ الاستيطاني، وإتمام عزلِ شمال الضّفة عن جنوبِها.
2- فصل الضفة الغربيّة عن غزّة سياسياً، لإتمام الانفصال الجغرافيّ والديمغرافي.

صفوةُ القول
ولو بعد حينٍ تحقّقت نبوءةُ "إسرائيلَ" وأمنيتها في هذا المضمار. وفي هذا الشّرَكِ وقع الفلسطينيون بإرادتِهم ودَفْعِ الآخرين. أمّا التحدي الذي يجب أن يواجهه الفلسطينيون بعد اليوم، هو كيف يمكن أن يعيدوا الوحدة السياسيّة بين الضفة الغربية وقطاع غزّة؟ لقد انتهت مساعي "فتح" وجهودها في قطاع غزّة، منذ فجر انطلاقتها، أدراجَ الرّياح. وفي لحظاتٍ قليلةٍ تمّ طرد أبنائها خارج منازلهم ليحلَّ بها آخرون. إنَّ هذهِ الخسارة هي الجزء المكمّل لخسارةِ "فتح" في انتخاباتِ المجالسِ المحليّة والمجلس التشريعي عامي 2005م و2006م.



ناصر دمج
باحث ومؤرخ فلسطيني

2016-09-29 13:36:19 | 3441 قراءة

التعليقات

الإسم
البريد الإلكتروني
عنوان التعليق
التعليق
رمز التأكيد
مركز باحث للدراسات الفلسطينية والاستراتيجية