التصنيفات » مقالات سياسية

وعد بلفور المشؤوم.. يتجدّد

   يأتي الحديث عن وعد بلفور هذا العام يأتي مع اقتراب الذكرى المئوية لذلك الوعد المشؤوم "وعد من لا يملك لمن لا يستحق". وخلال هذه الفترة منذ إطلاق الوعد، لا بدّ من التساؤل كم من وعد أطلق لتكريس وفرض الكيان الصهيوني من أطراف عربية ودولية وفلسطينية؟ وهل كان للوعد أن تستمرّ مفاعيله الى اليوم لولا تلك الوعود التي تواترت خدمة للصهيونية وكيانها الغاصب لفلسطين، والذي انتزع الأرض الفلسطينية بالقوّة، مسنودا بتواطؤ دولي وعربي؟ وهل كان الكيان الصهيوني قادراً على الاستمرار إلى اليوم لولا هذا التواطؤ؟
      في الثاني من تشرين الثاني/نوفمبر 1917 صدر"وعد بلفور" ، والذي حمل اسم وزير الخارجية البريطاني آنذاك "آرثر بلفور"، والذي منح اليهود وطناً قومياً في فلسطين. وقد جرى تثبيت هذا الوعد في المراحل اللاحقة في إطار المواثيق الدولية، وعلى أرض الواقع، عبر تضمين مضمون الوعد في صك الانتداب البريطاني على فلسطين من قِبل عصبة الأمم في العام 1922، حيث بدأت الحركة الصهيونية، بغطاء من دولة  الانتداب، بعمليات نقل اليهود من كلّ أنحاء العالم إلى فلسطين. وقد شهدت حقبة العشرينيات من القرن الماضي، وكذلك خلال الحرب العالمية الثانية، وصول أعداد كبيرة من "اليهود" إلى فلسطين؛ وهنا يبرز الدور الأميركي في دعم قيام الكيان الصهيوني الغاصب وتركيز دعائمه في المنطقة، من خلال الدور الدبلوماسي والسياسي الذي لعبته الولايات المتحدة في عصبة الأمم، وفيما بعد في الأمم المتحدة ومع مختلف دول العالم لدعم مسيرة الكيان الغاصب.
       وهذا ما قاد  الشعب الفلسطيني الى ممارسة المقاومة، عبر التحركات الشعبية المعترضة على الغزو الصهيوني، على شكل مواجهات وصدامات، وصولاً الى الثورات المسلّحة. وهي المقاومة التي تواصلت قبل وبعد  قيام الكيان الصهيوني، والتي لن تتوقف ما دام الكيان قائماً على أرض فلسطين، لانسجام ذلك مع السنن الإلهية والتاريخية والواقعية؛ فالمظلوم لا بدّ أن ينهض في وجه الظالم.
       فهذا الوعد، الذي ترتب عليه الكثير من المآسي والأحداث، كان السبب وراء متغيّرات كبرى على المستوى الإقليمي والدولي. هذه التغيرات كانت بمجملها ديمغرافية وجغرافية وتاريخية، حيث شهدت مسحا لفلسطين التاريخية، وتحولت هذه الأرض المباركة من صورة إلى صورة، وتم تفريغ الجغرافية من السكان وتهجيرهم... فلم يكن وعد بلفور مجرّد حبر على ورق، أو مجرّد وعد أطلقه أحد سياسيي بريطانيا في أوائل القرن العشرين؛ بل إن هذا الوعد كان السبب المباشر في كلّ مآسي الشعب الفلسطيني والشعوب العربية.
    وتُجمع المصادر التاريخية على أن القائد الفرنسي نابليون بونابرت حاول استغلال اليهود، بإثارته حججهم الدينية حول فلسطين من أجل تجنيدهم و(أموالهم) في استكمال حملته على بلاد الشام، ولاستغلالهم في حربه ضدّ بريطانية. إلاّ أن حملته فشلت في سنتها الثانية، لتبدأ مرحلة جديدة في استغلال نابليون لليهود الأوروبيين.
وبعد عودته إلى فرنسا منهزماً من مصر وبلاد الشام، دعا نابليون الطوائف اليهودية في المستعمرات الفرنسية إلى عقد مجلس (السانهدرين)، وهو أعلى هيئة قضائية كانت قائمة في التاريخ اليهودي القديم، وحجّته في ذلك مساواتهم بالفرنسيين والبدء بتأسيس الدولة اليهودية (في المنفى) لحين احتلال فلسطين .
كان وعد نابليون لليهود بتأسيس دولة لهم أساس التفكير اليهودي الجدّي والعملي بإعادة ما يُسمّونه باطلاً "أرض إسرائيل". ولم يكن يدرك أحد أن نابليون هو من وضع حجر الأساس في العقلية اليهودية؛ فبعد هذه التجربة التي خاضوها مع بونابرت وفشلهم في تحقيق أمانيهم أدركوا أن فرنسا لن تقوم لها قائمة بعد هزائم بونابرت، فانتقلوا إلى دول أخرى، على رأسها بريطانيا فألمانيا وروسي والنمسا.
 دوافع  وعد بلفور:
   جاء اهتمام بريطانيا بفلسطين مبكراً، وكان لأسباب اقتصادية. إلاّ أن التماهي الكبير بين بريطانية والحركة الصهيونية هو الذي دفع باتجاه إصدار هذا الوعد. وأبرز الدوافع هي:
1 ـ تصاعد النزعة الصهيونية المسيحية جعل فكرة "عودة" اليهود إلى أرض فلسطين تبرز بقوّة، كشرطٍ لعودة المسيح (عليه السلام) ودخول اليهود في المسيحيّة؛ وبالتالي نهاية العالم. وهو ما يعني أنّ تسهيل احتلال اليهود لأرض فلسطين كان عبارة عن نوع من العمل الديني المسيحي لدى الصهاينة الغربيّين؛ أي أنّ منشأه "لم يكن حبّاً في اليهود، ولكن تطبيقا لمعتقدات دينية متطرفة".
2 - ضمان تأييد اليهود في العالم  لبريطانيا في الحرب، ولا سيّما اليهود الموجودون في الولايات المتحدة الأمريكية، الذين دفعوا بالفعل أمريكا إلى دخول الحرب رسميا في العام 1917.
3 ـ التنافس الإمبريالي على السيادة والمصالح الإستراتيجية: ففي الوقت الذي كان لفرنسا موطئ قدم في فلسطين، بعلاقتها مع المسيحيين الكاثوليك هناك، وروسيا بعلاقتها بالأورثوذكس، فإنّ بريطانيا لم يكن لها من بين السكّان الأصليّين حليف. وهو ما جعلها تسعى إلى أن تعقد تحالفاً مع الصهاينة، هذا من جهة. ومن جهة أخرى، فإنّ موقع فلسطين الاستراتيجي كنقطة التقاء لثلاث قارّات، وسعي ألمانيا وروسيا وفرنسا إلى تعزيز مواقعها: إما بمدّ شبكة القطار من برلين إلى بغداد، أو بالسيطرة على البوسفور، أو بمحاولة السيطرة على منطقة الشام ككلّ؛ كلّ ذلك جعل بريطانيا تفكّر بجدّية في بسط النفوذ على فلسطين حتى تضمن عدم تحوّلها إلى أيادي أخرى بعد الحرب، وبالتالي تضمن حفظ مصالحها الإستراتيجيّة لفترة طويلة.
4 ـ المركز المالي الذي يتمتع به اليهود في العالم وما كان له من أثرٍ في كسب الحرب.
5 ـ تنفيذ الوعد الذي قطعته بريطانيا لحاييم وايزمن (أول رئيس للكيان الصهيوني وأحد مؤسّسيه) بإنشاء وطن قومي لليهود حين تمكن وايزمن من تحضير الجلسرين وإنتاجه من السكر بالتخمير، ثم استخدمه في عمل المتفجرات، حيث عرضت عليه الحكومة البريطانية أن تشتري منه حق الاختراع مقابل ما يطلبه؛ وكان طلب وايزمان هو الحصول على وعد من الحكومة البريطانية بوطن قومي لليهود في فلسطين مقابل حق انتفاع الجيش البريطاني بالجلسرين المبتكر لصناعة المتفجرات، التي استخدمها ضدّ الجيش الألماني. وقد وافق لويد جورج على شرط وايزمان، وكلف وزير خارجيته بلفور بأن يعلن وعده لليهود. 
    آمن بلفور، كما زعم في كتابه: العقيدة والإنسانية "Theism and Humanity"، أن الله منح اليهود وعداً بالعودة إلى أرض الميعاد، وأن هذه العودة هي شرط مسبق للعودة الثانية للمسيح، وأن هذه العودة الثانية تحمل معها خلاص الإنسانية من الشرور والمحن ليعمّ السلام والرخاء مدّة ألف عام تقوم بعدها القيامة وينتهي كلّ شيء كما بدأ!
اكتسب بلفور هذه الثقافة من عائلته، وخاصة من والدته التي تركت في شخصيته الدينية بصمات واضحة من إيمانها بالعقيدة البروتستنتية المرتبطة أساساً بالعهد القديم، وبما يبشّر به من خلال النبوءات التوراتية.  
    ولأجل كلّ هذه الدوافع أطلقت بريطانيا وعد بلفور. وقد وجّه هذا الوعد للّورد روتشليد، في الثاني من نوفمبر من عام 1917م، من قِبل وزير خارجيتها آرثر جيمس بلفور ؛ ونصّه:

     عزيزي اللورد "روتشيلد"
       يسرّني جدًّا أن أبلغكم بالنيابة عن حكومة صاحب الجلالة التصريح التالي الذي ينطوي على العطف على أماني اليهود والصهيونية، وقد عُرض على الوزارة وأقرّته:
     "إن حكومة صاحب الجلالة تنظر بعين العطف إلى تأسيس وطن قومي للشعب اليهودي في فلسطين، وستبذل غاية جهدها لتسهيل تحقيق هذه الغاية، على أن يكون مفهومًا بشكل واضح أنه لن يؤتى بعمل من شأنه أن ينتقص الحقوق المدنية والدينية التي تتمتع بها الطوائف غير اليهودية المقيمة الآن في فلسطين، ولا الحقوق أو الوضع السياسي الذي يتمتع به اليهود في البلدان الأخرى.
وسأكون ممتنًا إذا ما أحطتم اتحاد الهيئات الصهيونية علمًا بهذا التصريح .
المخلِص : آرثر بلفور".
 
         لقد اعتمدت الحركة الصهيونية هذا الوعد مستنداً قانونياً لدعم مطالب الصهاينة بإقامة الدولة اليهودية. في حين أجمع رجال القانون في العالم على عدم شرعية هذا الوعد؛ باعتبار إن التصريح ليس معاهدة، وليس لهذه الرسالة أية قيمة قانونية كون وعد بلفور يمنح أرضاً لم تكن لبريطانيا أية رابطة قانونية بها، فبريطانيا لم تكن تملك فلسطين حين إصدارها هذا الوعد.
فالقوات البريطانية احتلّت الأراضي الفلسطينية بشكل تدريجي، بدءاً من غزة في 7 نوفمبر عام 1917، ثم احتلّت يافا في السادس عشر من نوفمبر من نفس العام، واحتلّت القدس في التاسع من ديسمبر من نفس العام أيضاً، و حتى ذلك الوقت كانت فلسطين جزءاً من ولايتي طرابلس وبيروت في الدولة العثمانية التي رفضت تصريح وعد بلفور، ولم تعترف بحقّ اليهود في فلسطين. ولم يرض سكان فلسطين العرب بهذا التصريح و قاوموا مطالب الصهيونية .
إن الحكومة البريطانية بإصدارها هذا الوعد قد خوّلت لنفسها الحق في أن تتصرف تصرّفاً مصيرياً في دولةٍ ليست لها عليها أية ولاية، وأن تعطيه للآخرين دون أن ترجع إلى أصحاب هذا الإقليم، ممّا يجعل هذا الوعد باطلاً من وجهة نظر القانون الدولي، وهو غير مُلزم للفلسطينيين.
    إن وعد بلفور تنعدم فيه الأهلية القانونية. فطرف "التعاقد" مع بريطانيا في هذا الوعد هو شخص أو أشخاص وليس دولة. وهو مجرّد خطاب أرسله بلفور إلى شخص لا يتمتع بصفة التعاقد الرسمي، وهو روتشيلد.
     ومن شروط صحّة انعقاد أي اتفاقية أو معاهدة دولية، كما هو معلوم، أن يكون طرفا أو أطراف التعاقد من الدول أولاً، ثم من الدول ذات السيادة ثانياً، أو الكيانات السياسية ذات الصفة المعنوية المعترف لها بهذه الصفة قانونياً.
أما التعاقد أو الاتفاق أو التعاهد مع الأفراد، فهو باطل دولياً شكلاً وموضوعاً، ولا يمكن بأيّ حال من الأحوال امتداد أثر مثل هذا التعاقد بالنسبة لغير أطرافه. وبالنتيجة، فإنه ليس مُلزماً حتى لأطرافه.
  إضافة إلى أن وعد بلفور باطل لعدم شرعية مضمونه، حيث أن موضوع الوعد هو التعاقد مع الصهيونية لطرد شعب فلسطين من دياره وإعطائها إلى غرباء. فإنه من أسس التعاقد الدولي مشروعية موضوع التعاقد؛ بمعنى أن يكون موضوع الاتفاق بين الطرفين جائزاً وتقرّه مبادئ الأخلاق ويبيحه القانون. وكلّ تعاقد يتعارض مع إحدى هذه الشروط يُعتبر في حكم الملغى ولا يمكن أن يُلزم أطرافه.
والوعد المذكور هو انتهاك لحقوق شعب فلسطين. وهذا يُعتبر مخالفاً لمبادئ الأخلاق والقانونين الدولي والإنساني. ويرفض القانون الدولي انتهاك حق الشعوب في الحياة والإقامة في بلادها، وتهجيرها قسراً.
   وأخيراً، فوعد بلفور ليس أوّل ولا آخر وعد يُقدّم لليهود عبر التاريخ؛ فهو مجرّد حلقة في إقامة الكيان الصهيوني، واستكمال لما بدأه نابليون حين وعد اليهود بتأسيس كيان لهم في فلسطين.
     لقد وجد الصهاينة اليوم من يعدِهم بأكثر ممّا وعد بلفور، وهم الأمريكان الذين يُطلقون وعودهم على مدار الساعة بحماية الكيان الصهيوني وقيادته السياسية وبتحقيق والتفوّق العسكري والأمني للكيان.  فالوعد ما كان له أن ينفّذ لولا الرعاية البريطانية والدولية. والكيان الصهيوني ما كان له ان يستمرّ كلّ هذه العقود لولا توفر الوعود بدعمه وحمايته؛ ولا ننسى خطورة الوعود العربية الرسمية وتهيئتها للمناخات المدمّرة لكفاح الشعب الفلسطيني، وصولاً إلى الولوج في عملية التسوية وسلسلة الاتفاقات المذلّة التي تُعتبر كوعود داعمة ومؤكدة للوعد الأول. والمبادرات العربية للتسوية هي وعود علنية؛ عدا عن الوعود السريّة التي قُدّمت للحركة الصهيونية مبكراً، ولـ"إسرائيل" لاحقاً، وصولاً إلى دعوات التطبيع الكامل مع الاحتلال باعتباره أولوية عربية، والضرب عرض الحائط بالحقوق الفلسطينية، من اجل ان تبقى "إسرائيل" الكيان الغاصب، وأن تستمرّ مفاعيل الوعود المشؤومة من بلفور إلى اليوم. فوعد بلفور لم يكن سوى الخطوة الأولى للغرب على طريق إقامة كيان عنصري توسعي لليهود على أرض فلسطين.



محمود إبراهيم
باحث فلسطيني

2016-11-11 13:16:35 | 5057 قراءة

التعليقات

الإسم
البريد الإلكتروني
عنوان التعليق
التعليق
رمز التأكيد
مركز باحث للدراسات الفلسطينية والاستراتيجية