التصنيفات » مقالات سياسية

سياسة تغيير الطرابيش

الاستاذ نبيل المقدم

كاتب وصحافي من لبنان

تختلف تركيا عن بقية الأطراف الإقليمية والدولية المتورطة في الأزمة السورية بمسألة حيوية للغاية: إن أطماع أنقرة في الشمال السوري (وإلى حد ما في الشمال العراقي) هي أطماع تاريخية وموثقة وتعتبر من الثوابت الإستراتيجية للقيادات التركية المتعاقبة، القومي منها أو العَلماني أو الإسلامي. ونحن لا نقصد هنا فقط كيليكيا وأنطاكيا والإسكندرون التي سُلبت في ثلاثينات القرن الماضي بالتواطؤ مع الاستعمار الفرنسي، بل أيضاً مناطق تمتد من حلب حتى اللاذقية على البحر الأبيض المتوسط.

قبل اندلاع الحرب العالمية الثانية سنة 1938، نجحت أنقرة في استغلال قلق فرنسا من احتمال تحالف تركيا مع ألمانيا النازية. فكانت نتيجة الصفقة ضياع "اللواء السليب". ولم تكتفِ القيادات التركية بذلك، بل سعت أثناء الحرب إلى الاستفادة من حاجة النازيين إلى طرقات آمنة للوصول إلى مناطق الانتداب الفرنسي في سوريا خصوصاً عندما سيطرت قوات "فيشي" الفرنسية الموالية لألمانيا على الكيانين اللبناني والسوري. وتكشف الوثائق الألمانية الرسمية سنة 1941 عن محاولات تركيا الدؤوبة لإقامة موطئ قدم لها في الشمال السوري بالتفاهم مع النازيين.

جاء في تقرير وضعته الإدارة السياسية بوزارة الخارجية الألمانية في برلين بتاريخ 7 آذار 1941: "لقد تحدث السفير فون بابن مراراً مؤيداً إجراء مناقشات مع الأتراك حول القضايا العربية. ومن أجل الأهداف العملية هذه يعني أنه ـ من بين أشياء أخرى ـ يمكن إعطاء الوعد لتركيا بقسم من سوريا بشروط معينة".

وفي تقرير أعده السفير الألماني في أنقرة بتاريخ 4 تموز 1941: "... وبالإضافة إلى ذلك ناقشني السيد سراج أوغلو (وزير الخارجية التركي) بوضوح كبير كيف يكون من الممكن تلبية المطالب التركية المعروفة لدينا (جعل سكة حديد بغداد آمنة) من دون إيذاء المصالح الفرنسية. وذكر أن الفرنسيين إذا لم يستطيعوا الاحتفاظ بمركزهم في سوريا، كما كان متوقعاً، فقد يجدون من الملائم أن يجعلوا الأتراك أوصياء على سوريا. وفي مثل هذه الحالة ستكون تركيا مستعدة فوراً لاحتلال سوريا، وأن تؤمن للجيش الفرنسي خروجاً مشرفاً، وبعد نهاية الحرب أن تعيد سوريا إلى فرنسا، ما عدا الجزء الشمالي".

ثم أرسل السفير الألماني تقريراً آخر بتاريخ 9 تموز 1941 قال فيه: "... وطلب (وزير خارجية تركيا) دراسة ما إذا كانت ألمانيا قد لا تعطي الموافقة على الاحتلال التركي لشمال سوريا (تقريباً حتى خط أنابيب أبوكمال ـ طرابلس) طبعاً كحل مؤقت حتى إقرار السلام". [الوثائق منشورة في كتاب "العالم العربي في وثائق سرية ألمانية 1937 ـ 1941"، ترجمة رزق الله بطرس. دار الوراق ـ لندن 2006].

فما أشبه الحاضر بالماضي!

ظلت محافظة إدلب خارج التفاهمات الروسية ـ الإيرانية ـ التركية إلى أن عُقدت لقاءات على مستوى القمة بين قيادات ثالوث الآستانة. وبسبب عدم حصول التفاهم التام في كيفية تطبيق نظام "خفض التصعيد" في هذه المحافظ المترامية الأطراف، تمكنت "النصرة" (التي غيّرت اسمها إلى "هيئة تحرير الشام") من إحكام سيطرتها على مدينة إدلب والمناطق المجاورة لها. وكان ذلك مقابل تراجع الجماعات المسلحة الأخرى أمثال "حركة أحرار الشام الإسلامية" و"ألوية صقور الشام" وغيرهما. في حين كانت قوات "درع الفرات" تحت القيادة التركية المباشرة تنتظر خلف الكواليس إلى أن تحين ساعة الصفر.

عملية "الفرز" في إدلب كانت تتطلب توجيه ضربات موجعة للمتشددين في "النصرة"، خصوصاً القيادات الرافضة لشروط التسوية كما يراها ثالوث الآستانة.

يبدو أن عمليتي "التفكيك" و"الفرز" وصلتا إلى المدى الأقصى الذي بات يتطلب مرحلة جديدة ". إن "داعش" و"النصرة" وغيرهما من الجماعات الإسلامية التكفيرية هي نتاج تركي ـ خليجي منذ بداية الحرب على سوريا، وقد أنجزت كلها حتى الآن ما قامت لأجله... فبات من الطبيعي في هذه المرحلة الجديدة تغيير الطرابيش كما تتطلب الأطماع التركيةالذي يحدث الآن، تحت ستار حملة إعلامية عنوانها القضاء على قيادات "النصرة" في إدلب، هو إعادة استيعاب أكبر عدد ممكن من عناصر هذه الجماعات الإسلامية بعد أن يكونوا قد حفوا لحاهم وغيّروا عباءاتهم وبدلوا عمائمهم بالطرابيش التركية... وهكذا يتم تأهيلهم تمهيداً للجلوس إلى طاولة المفاوضات في جنيف حيث سيتقرر مصير سوريا ومستقبلها.

 

كم كان الرئيس التركي رجب طيب أردوغان وقحاً وصفيقاً عندما أجاب على سؤال لأحد الصحافيين عما إذا كان هناك تواصل مع دمشق، إذ قال: "إننا نتحدث مع موسكو"!

إنها الوقاحة الحقيقية المؤلمة.

 

 

 

 

2018-11-03 10:53:04 | 1192 قراءة

التعليقات

الإسم
البريد الإلكتروني
عنوان التعليق
التعليق
رمز التأكيد
مركز باحث للدراسات الفلسطينية والاستراتيجية