التصنيفات » دراسات

نُخـب إسرائيلية تعيد التفكير باحتلال 1967 وتطرح سيناريوهات للمستقبل *


أنطـوان شلحـت
القيادة الإسرائيلية الحالية مأزومة وتتميز بانعدام الرؤية السياسية البعيدة المدى!

(*)  - 1 -  شكلت ذكرى مرور أربعة عشر عامًا على قيام طالب جامعي يهودي من أوساط اليمين المتطرف باغتيال رئيس الحكومة الإسرائيلية الأسبق، إسحاق رابين، التي صادفت مؤخرًا (اغتيل المذكور في 4 تشرين الثاني 1995)، مناسبة انشغلت خلالها نخب إسرائيلية بما كان رابين يتحلى به من "مزايـا قيادية"، في أواسط تسعينيات القرن العشرين الفائت، وأصبحت مفتقدة لدى الزعماء الإسرائيليين الحاليين، في أواخر العقد الأول من القرن الحادي والعشرين، ولا سيما ميزة "الرؤية" أو "المفهـوم". وتعني تلك النخب، في معظمها، بـ "الرؤية" القدرة الاستشرافية البعيدة المدى، على غرار التي وقفت وراء جملة مواقف سياسية آنيـة أدّت إلى أن "تجنح إسرائيل نحو التسوية السلمية" مع الفلسطينيين، كما تجسّد ذلك في التوقيع على اتفاق أوسلو مع منظمة التحرير الفلسطينية في سنة 1993، في أثناء تولي رابين رئاسة الحكومة الإسرائيلية.

ولقد ذهب البعض إلى درجة الاعتقاد بأن جنوح رابين نحو التسوية إياها كان يُضمر، في العمق، حقيقة استيعابه واقع سقوط خيار استمرار "الوضع القائم" (الستاتيكو) في ذلك الوقت، وانحسار خيار الاحتفاظ بالاحتلال الإسرائيلي منذ حزيران 1967، وخاصة في ضوء الانتفاضة الفلسطينية الأولى، والتطورات العالمية التي أعقبت انهيار الاتحاد السوفييتي، واندلاع حرب الخليج الأولى.

وهذا هو ما عبّر عنه، مثلاً، الكاتب آري شافيط، المعلق السياسي في صحيفة "هآرتس"، بالقول: إن بصيرة رابين الكبرى كانت كامنة في إدراكه أن الدولة اليهودية- الديمقراطية لا تملك خيار الاستمرار في الوضع القائم، ولذا فإنها تقف أمام خيارين: إمّا الخروج من وحل الاحتلال، وإمّا الغرق فيه. ويتعين على الحكومة الإسرائيلية الحالية أن تستوعب هذه الحقيقة، وقد حان الوقت كي نعرف إلى أين نمضي.

وعلى ما يبدو فإن تطورات الفترة الأخيرة، وخاصة في إثر تقرير "لجنة غولدستون" الأممي بشأن فظائع الحرب الإسرائيلية على غزة، وسيل الأزمات الدبلوماسية التي وجدت إسرائيل نفسها في خضمها، بداية مع الإدارة الأميركية الجديدة برئاسة باراك أوباما، ومن ثم مع السلطة الوطنية الفلسطينية وما يسمى "محور الدول العربية المعتدلة"، وانتهاء بالأزمة الحادة مع تركيا، كانت بمثابة ترجيح تعززه الوقائع الملموسة لتكريس سقوط خيار "استمرار الوضع القائم"، بما يستدعي التخلص من الاحتلال الإسرائيلي في المناطق الفلسطينية، وربما في غيرها أيضًا.

في هذا الإطار رأى المعلق الصحافي في "يديعوت أحرونوت"، إيتان هابـر، الذي سبق أن أشغل منصب مدير مكتب رابين، أن الأزمات التي تواجهها إسرائيل في الآونة الأخيرة، على المستوى الدبلوماسي، راجعة إلى جذر أساسي واحد، هو التغيير الذي طرأ على مواقف الولايات المتحدة التقليدية إزاء إسرائيل، في ضوء أن الأولى قد ضاقت ذرعـًا بالتواطؤ مع هذه الأخيرة في كل ما يتعلق بالاحتلال، وعقب تغلغل الاعتقاد لدى المسؤولين في البيت الأبيض بأنه لا بُدّ من وضع حدّ لهذا الاحتلال، عاجلاً أم آجلاً. وقد نوّه بأن مكانة إسرائيل في أسرة الشعوب كانت مستمدة، أساسًا، ولا تزال من تحالفها الإستراتيجي مع واشنطن، ولذا لا يمكن التضحية بهذا التحالف أو حتى المسّ به من أجل التمسك بالاحتلال والإصرار على مواصلة الاستيطان.

ويمكن العثور على اجتهادات فكرية تنحو هذا المنحى لدى نخب أكاديمية محسوبة، كما شافيط وهابـر، على تيار الوسط، الذي ليس من المبالغة اعتباره التيار الرئيس للمؤسسة السياسية الإسرائيلية في الوقت الراهن، بعد أن راوحت إسرائيل لفترة طويلة بين تيارين رئيسيين آخرين، هما "اليسار الصهيوني" واليمين.

وربما ينبغي الإشارة هنا، تدعيمًا للحكم السالف، إلى حدوث "تغيير" في الخطاب السياسي لرئيس الحكومة الإسرائيلية الحالية، بنيامين نتنياهو، كان "خطاب جامعة بار إيلان" الشهير في يوم 14 حزيران 2009 واشيًا به. وانعكس ذلك في منحيين مرتبطين بمفاصل سياسة اليمين في إسرائيل، كما يعكسها حزب الليكود الحاكم:

• المنحى الأول- الإقرار بأن "السلام الاقتصادي" ليس بديلاً من "سلام سياسي" مع الشعب الفلسطيني. ومن المعروف أن الخطوط العريضة للبرنامج السياسي- الأمني، الذي طرحه نتنياهو بشأن مستقبل العلاقة مع الفلسطينيين، وخاض على أساسه الانتخابات الإسرائيلية العامة في 10 شباط 2009 والتي أسفرت عن فوز اليمين فيها، قد أكدت أن "المفاوضات الإسرائيلية- الفلسطينية (قبيل الحرب على غزة في أواخر سنة 2008)، والتي استؤنفت منذ مؤتمر أنابوليس (في تشرين الثاني 2007) وتركزت في تحقيق اتفاق دائم بصورة مباشرة، تخطئ الهدف المطلوب". وأكد أن الفلسطينيين "غير مستعدين في الوقت الحالي لتسوية أيديولوجية ذات أبعاد تاريخية من شأنها أن تضع نهاية للصراع. ولا يوجد أي دليل على أن الفلسطينيين سيستجيبون، الآن، ولو للحد الأدنى من المطالب، التي سيطرحها أي زعيم إسرائيلي مسؤول. وقد رفض الفلسطينيون بشدة اقتراحا للتسوية قبل ثمانية أعوام (أي خلال مفاوضات كامب ديفيد في سنة 2000)، ولا يوجد دليل على أن مواقفهم إزاء قضايا الحل الدائم أصبحت معتدلة أكثر. بل على العكس، فقد أصبحت مواقفهم متصلبة أكثر في مقابل حكومة إسرائيلية ضعيفة". وبدلا من ذلك اقترح نتنياهو في ذلك البرنامج أن "تركز إسرائيل جهودها في تحسين (مستوى) حياة الشعب الفلسطيني اليومية". وقال إنه "ينبغي، بصورة خاصة، مساعدة الفلسطينيين في تطوير اقتصادهم بشكل سريع. وهذه الخطوة، بحد ذاتها، لن تنهي الصراع، لكنها ستوجد أجواء تزداد من خلالها بشكل كبير احتمالات نجاح المفاوضات السياسية. وستعمل حكومة برئاسة الليكود بصورة فورية من أجل تغيير الأوضاع الميدانية" (وهذا هو ما اصطلح على تسميته بـ "السلام الاقتصادي").

• المنحى الثاني- الموافقة على "مبدأ التقسيم" من خلال قبول "مقاربة الدولتين". وبغض النظر عن رؤية اليمين في إسرائيل جوهر الدولة الفلسطينية التي ستقوم، فإن مجرّد هذه الموافقة تعني، أو من المفترض بها أن تعني، أن ذلك اليمين، وعلى وجه التحديد الذي يمثل حزب الليكود عليه، لا يملك بديلا ممكنا آخر من "حل الدولتين". لكن في الوسع أن نضيف أن هذا البرنامج السياسي هو في الوقت ذاته برنامج حزب كاديما، المعدود منذ خطة الانفصال عن غزة في خريف 2005 على تيار الوسط، طبقًا للمعايير الإسرائيلية، وهو للعلم حزب منسول في معظمه من اليمين الإسرائيلي، ومن حزب الليكود على وجه الدقة. بل كان ثمة من أشار إلى أن نتنياهو قد "سرق" خطاب رئيسة كاديما الحالية ووزيرة الخارجية السابقة، تسيبي ليفني، لا سيما وأنها كانت تؤكد دائمًا على شرط الاعتراف بـ "يهودية إسرائيل"، وعلى ضرورة أن تكون الدولة الفلسطينية العتيدة منزوعة السلاح، وتعارض حق العودة للاجئين الفلسطينيين، وهذه كلها هي الأركان نفسها التي وردت في "برنامج نتنياهو الجديد".

ولعل أبرز الاجتهادات الأكاديمية، خلال الفترة القليلة الماضية، هو الاجتهاد الصادر عن أحد كبار أساتذة العلوم السياسية في الجامعات الإسرائيلية، وهو البروفسور شلومو أفينيري، من الجامعة العبرية في القدس، والذي سبق أن أشغل منصب المدير العام لوزارة الخارجية الإسرائيلية، فضلاً عن حصوله على "جائزة إسرائيل". فقد أكّد، في سياق مقابلة مطوّلة أدلى بها إلى الملحق الأسبوعي في صحيفة "معاريف"، في أواخر شهر أيلول 2009، أنه لم يعد في العالم الراهن وجود لدولة تفرض سيطرتها على منطقة محتلة منذ أربعين عامًا، باستثناء إسرائيل. وأضاف أن المستوطنات الإسرائيلية في الضفة الغربية كانت خطأ سياسيًا وأخلاقيًا جسيمًا، يضع عراقيل كثيرة في طريق العملية السلمية. ومع أن المستوطنات، وفقًا لادعائه، لا تُعدّ السبب الواقف وراء النزاع الإسرائيلي- الفلسطيني، أو وراء انعدام الحل السلمي لهذا النزاع، إلا أنه "لو لم تكن هذه المستوطنات قائمة، ولو أن إسرائيل كانت ستتخذ قراراتها المصيرية وفقًا للاعتبارات الأمنية الصرف، لكانت الأشياء كلها أبسط كثيرًا". أمّا السبب الحقيقي للنزاع فهو راجع، في ادعائه، من جهة إلى رفض الفلسطينيين قرار التقسيم من سنة 1947، والذي اعتبره رفضًا غير أخلاقيّ، ومن جهة أخرى إلى قيامهم بفرض حرب على إسرائيل. كما أنه يؤكد أن إسرائيليين كثيرين، بمن فيهم هو نفسه، ما زالوا غير مقتنعين حتى الآن بأن الجانب الفلسطيني سلّم بوجود دولة يهودية في جزء من أرض إسرائيل (فلسطين)، والدليل على ذلك هو أن المطالبة بحق العودة للاجئين الفلسطينيين ما انفك يشكل العمود الفقري في الرواية التاريخية الفلسطينية.

من ناحية أخرى دعا هذا الأكاديمي إلى الإقلاع عن التفكير بأن هناك خطـة معينة في إمكانها أن تجلب حلاً، وذلك في ضوء اتساع رقعة الفجوات بين الجانبين الإسرائيلي والفلسطيني، منذ فشل مؤتمر كامب ديفيد في سنة 2000، في كل ما يتعلق بقضايا الحدود والمستوطنات والقدس واللاجئين. ومع ذلك فإنه يعارض الحفاظ على الوضع القائم. أمّا الوصفة التي يعتقد أنها ملائمة لإحداث التغيير وحلحلة الوضع القائم فهي عمليات انفصال تدرجيّة عن المناطق المحتلة. وشدّد على أن خطة الانفصال الأحادية الجانب عن غزة (في سنة 2005) كانت خطوة في الاتجاه الصحيح، وأن خطة الانطواء (أو خطة التجميع)، التي عرضها رئيس الحكومة السابق، إيهود أولمرت، وشملت انفصالاً أحاديًا عن معظم أراضي الضفة الغربية، وتخلى عنها لاحقًا عقب حرب لبنان الثانية (في صيف 2006)، كانت خطة صحيحة أيضًا.

القيادة الإسرائيلية مأزومـة

ولدى الانتقال إلى الحديث عن الأوضاع الإسرائيلية الداخلية قال أفينيري إن الأمر الغالب الآن هو أن هناك أزمة قيادة في إسرائيل، تنعكس بدورها على عملية اتخاذ القرارات المصيريـة.

ويمكن اعتبار قوله هذا هو خلاصة تفكير بشأن الوجهة، التي تمضي القيادة الإسرائيلية فيها.

وفي واقع الأمر فإن التفكير، في هذا الأمر على وجه التحديد، أخذ مدًّا واسعًا منذ سنة 2000، وهي السنة التي تفجرت فيها المفاوضات حول ما بات يعرف بـ "الحل الدائم" للنزاع الإسرائيلي- الفلسطيني، والتي دارت في إطار قمة كامب ديفيد، التي جمعت بين رئيس الحكومة الإسرائيلية الأسبق، إيهود باراك، والرئيس الفلسطيني الراحل ياسر عرفات، ورعـاها الرئيس الأميركي الأسبق، بيل كلينتون. وكان من حصيلة ذلك أن عادت الأوضاع إلى المربع الأول، ولعل الأصح القول إن تلك المفاوضات لم تغادر هذا المربع أصلاً. وفي إثر ذلك شهدنا عودة إسرائيلية عامدة إلى سياسة النظر التقليدية للشعب الفلسطيني والشعوب العربية جمعاء عبر فوهة المدفع، والتي كانت قد أخلت مكانها، بصورة مؤقتة، لسياسة تسوية ومصالحة تقف في صلبها، على ما يبدو، غاية الاحتواء والتهرّب من دفع المستحقات اللازمة لا أكثر. وكما لم يعد خافيًا على أحد، فإن هذه العودة انطوت على تصعيد للسياسة الداخلية، المتعلقة بعلاقة الدولة الإسرائيلية والأكثرية اليهودية مع الفلسطينيين في الداخل. كما أن صعود أريئيل شارون، مع ما كان يحمله على كتفيه من إرث سياسي وعسكري عدواني إزاء الشعب العربي الفلسطيني عامة والفلسطينيين في إسرائيل خاصة، إلى سدّة رئاسة الحكومة الإسرائيلية في سنة 2001، يُعدّ من تداعيات أحداث سنة 2000، التي شهدت أيضًا اندلاع الانتفاضة الفلسطينية الثانية، وما عرف باسم "هبّة أكتوبر" بين صفوف الفلسطينيين في إسرائيل.

وقد تعمّق هذا التفكير، أكثر فأكثر، بعد انتهاء حرب لبنان الثانية وما أسفرت عنه من نتائج "كئيبة"، وهو ما سنتناوله في الحلقة المقبلة.



2-  متى تنتهي عملية احتلال فلسطين؟


(*) إن التفكير بأزمة القيادة في إسرائيل، الذي بدأنا بتناوله في الحلقة السابقة، قد تعمّق، أكثر فأكثر، في إثر انتهاء حرب لبنان الثانية (في صيف 2006) وما أسفرت عنه من نتائج "كئيبة" أدّت، من ضمن أشياء أخرى، إلى قيام "لجنة فينوغراد"، التي تقصّت وقائع تلك الحرب، بتوجيه نقد حادّ إلى القيادة الإسرائيلية، وأساسًا جراء اعتمادها، شبه المطلق، على قوة الردع الإسرائيلية، وعدم تجريب بدائل أخرى، بما في ذلك العمليات السياسية. وللعلم فإن جوهر النقد كان بسبب الاعتماد على قوة الردع وعدم إعداد الجيش الإسرائيلي كما يجب لخوض حروب، بافتراض أنها لن تقع، لكن ذلك لم يمنع اللجنة من نقد القيادة الإسرائيلية جراء انعدام الرؤية السياسية البعيدة المدى لديها. وقد ورد في أحد الاستنتاجات المهمة لـ "تقرير لجنة فينوغراد" أن حرب لبنان الثانية "أعادت إلى مركز الجدل والتفكير أسئلة قاسية فضّل المجتمع الإسرائيلي، في أجزاء كبيرة منه، أن يتهرّب منها. فالجيش الإسرائيلي لم يكن جاهزًا للحرب لأنه، من ضمن أمور أخرى، تبلور لدى قسم من المسؤولين في المؤسستين السياسية والعسكرية التفكير بأن عصر الحروب قد انتهى، وأنه يوجد لدى إسرائيل والجيش الإسرائيلي ما يكفي من الردع في سبيل الحؤول دون أن تشنّ عليها حرب حقيقية. وبحسب هذا التحليل لم يكن هناك ضرورة للاستعداد للحرب، لكن لم يكن هناك ضرورة أيضًا للبحث بحماسة عن مسارات تفضي إلى اتفاقات ثابتة وبعيدة المدى مع جيراننا".

وعادة ما يتم التلميح، في غمرة ما ذُكر سابقًا، إلى أن جانبًا كبيرًا من انعدام الرؤية السياسية البعيدة المدى عائد إلى نوعية القيادة الإسرائيلية الحالية ومستواها. فمثلاً، عندما سُئل البروفسور أفينيري، في المقابلة نفسها مع صحيفة "معاريف"، عن مقدار رضاه من مستوى القيادة الحالية في إسرائيل، قال إنه غير راض بتاتًا من هذا المستوى.
وقد تبيّن من كلامه أن أشد ما يزعجه في هذا الصدد هو أمران:

الأول- أن طريقة اختيار لوائح المرشحين للكنيست لدى الأحزاب الإسرائيلية الكبرى، والتي تعتمد على الانتخابات التمهيدية العامة (برايميريز) في صفوف أعضاء الحزب، تؤدي إلى تدهور المؤسسة السياسية إلى الحضيض، حيث أنها تفتح المجال أمام هيمنة الشعبوية الرخيصة، وأمام معاقبة الأشخاص، الذين يقولون الحقيقة كما هي من دون رتـوش للجمهور العريض؛

الثاني- الحضور الفائض عن الحاجة للقادة العسكريين السابقين في النشاط السياسي المدني، والذي يخلّ بتوازن المؤسسة السياسية.

وقبل أن يدلي أفينيري باجتهاده هذا، كان البروفسور أفيعيزر رافيتسكي، وهو أحد أبرز المفكرين الإسرائيليين في السنوات الأخيرة، وباحث زميل كبير في "المعهد الإسرائيلي للديمقراطية"، وباحث في قسم الفكر الإسرائيلي في الجامعة العبرية- القدس وسبق أن أشغل منصب رئيسه، كما أشغل منصب رئيس معهد الدراسات اليهودية في الجامعة نفسها، وحاصل على "جائزة إسرائيل"، قد تطرّق إلى أزمة القيادة الإسرائيلية، وذلك في مقابلة صحافية أدلى بها إلى النشرة الإلكترونية الصادرة عن "المعهد الإسرائيلي للديمقراطية"، بعد انتهاء حرب لبنان الثانية، وقبل أن يتعرّض إلى حادث سير في شهر تشرين الأول 2006، أصيب نتيجته بجراح وصفت بأنها بالغة أدت إلى دخوله في غيبوبة لمدة شهرين.

وبحسب رأي رافيتسكي فإن هذه الأزمة عائدة، في أحد جوانبها، إلى ما يسميه بـ "روح العصر الراهن"، عصر ما بعد الحداثة، والانكشاف الإعلامي الواسع، فضلاً عن اختيار لوائح المرشحين للكنيست، بواسطة طريقة الانتخابات التمهيدية العامة في القواعد الحزبية. لكن يوجد عامل متراكم آخر خلق بالتدريج عدم الثقة بالزعماء، وهو ظاهرة التصريحات التي يطلقها كل رئيس حكومة في اتجاه معين، قبل انتخابه، ثم تجده "ينحرف يسارًا" بعد ذلك. فمناحيم بيغن دعا إلى الاستيطان والبقاء في صحراء سيناء، وبعد انتخابه أعادها كلها إلى مصر؛ وإسحاق رابين لم يخطر بباله أبداً الذهاب إلى أوسلو؛ كذلك فعل أريئيل شارون الذي لا داعي للتذكير بالتصريحات التي أدلى بها طوال حياته؛ حتى إسحاق شامير لم يعط أي إشارة إلى أنه سيذهب إلى (مؤتمر) مدريد؛ وهل كان أحد يتصوّر أن يوافق بنيامين نتنياهو (خلال ولايته الأولى في رئاسة الحكومة بين السنوات 1996- 1999) على اتفاقيات "واي ريفر" أو أن يعيد أجزاء من مدينة الخليل إلى الفلسطينيين؟؛ وهل كان متوقعاً أن يصل إيهود باراك إلى مرحلة يبدي استعداده فيها لتقسيم القدس؟. وهو يعتقد أن الزعماء المذكورين تصرفوا بشكل سليم، في معظم تلك الحالات، لكن أيًا منهم لم يملك الجرأة للإعلان عن ذلك مسبقًا، أو للإقرار بالحقائق الواقعية قبل انتخابه لرئاسة الحكومة.

كما أنه توقف عند أسباب أزمة السياسة الإسرائيلية بشكل عام.

ورأى أنه مهما تكن هذه الأسباب، فإن سببين منها يجب أن يكونا أساس الاهتمام:

الأول- منذ تسعة وثلاثين عاماً (والمقصود منذ سنة 1967) ومعظم الإسرائيليين منهمكون في موضوع واحد، هو مسألة الحدود. وكل شيء يدور حول هذه المسألة، فهي محور أي جدل سياسي أو عسكري، ثيولوجي أو أيديولوجي. كذلك فإن مفاهيم اليمين واليسار، والمسائل المرتبطة بالهوية الإسرائيلية وبماهية الصهيونية، تتحدّد كلها بناءً على هذه المسألة. وهذا الوضع غير صحي وغير طبيعي، فهو يولد صراعًا قاسيًا وانقسامًا داخليًا وشعورًا من الاغتراب ومن عدم الوفاق الأساسي اللازم.

الثاني- سادت في إسرائيل، كما هو معروف، ثلاث نظريات رئيسية مختلفة، فيما يتعلق بحل النزاع مع الفلسطينيين، هي: نظرية "أرض إسرائيل الكبرى"؛ نظرية "التسويات السلمية"؛ نظرية "الانسحاب الأحادي الجانب". وهناك من يعتقد أن جميع هذه النظريات قد مُنيت بالفشل، غير أنه يرى أن كلاً منها نجح في جانب، وفشل في جانب آخر. وبحسب رأيه لا يمكن القول إن نظرية "أرض إسرائيل الكبرى" فشلت تماماً، في الوقت الذي يعيش فيه مئات آلاف المستوطنين اليهود في "يهودا والسامرة" (الضفة الغربية المحتلة)؛ ولا يمكن القول إن نظرية التسويات السلمية فشلت تمامًا بينما توجد اتفاقيات سلام مستقرة مع مصر والأردن؛ كما لا يمكن القول إن نظرية التجميع (الانطواء) فشلت في الوقت الذي لم تُجرَّب أو تُختبر بعد. وأضاف: في السابق كان لكل واحد منا تقريبًا موقف راسخ وشامل، فيما يتعلق بالحل المرغوب فيه، أما اليوم فقد بات الكثيرون منا يعون النواقص والثغرات في موقفهم، والجزئية الموجودة التي ينطوي عليها كل حل. غير أننا الآن لا نعرف بوضوح إلى أين نحن ذاهبون.

وعلى النسق ذاته يقول البروفسور إفرايم عنبار، أستاذ العلوم السياسية ورئيس "مركز بيغن- السادات للدراسات الإستراتيجية" في جامعة "بار إيلان"، إن "تاريخ شعب إسرائيل قد أثبت أن لزعامة الدولة دورا في منتهى الأهمية. ويجدر بنا أن نتذكر بأن الدولة اليهودية تعرضت للهلاك والخراب مرتين في الماضي ("الهيكل الأول" و"الهيكل الثاني") وذلك بالأساس بسبب زعامة سيئة، لم تقرأ الواقع الدولي بشكل سليم. ويبدو لي أن الذي يتابع الوضع السياسي الداخلي في إسرائيل يمكنه أن يلاحظ بدرجة كبيرة من اليقين أن لدينا أزمة زعامة. بناء على ذلك، فإن آليات تجنيد القيادات السياسية القائمة في الوقت الحالي يجب أن تخضع إلى تطوير مهم، كي يتم ضمان نشوء قيادة إسرائيلية يكون في وسعها أن تواجه التحديات الصعبة الماثلة أمامها".

بطبيعة الحال، في وسعنا أن نورد أمثلة كثيرة أخرى تدعم التقويمات والأحكام السالفة، في معظمها، بقدر ما إنها تتقاطع مع منطلقها الرئيس، وهو تلمّس الطريق أو الوجهة التي تتيح إمكان تحرير السياسة الإسرائيلية الرسمية من أزماتها المستعصية.

وليس من الصعب الخروج باستنتاج عام مفاده أن تفكير هذه النخب جميعًا يتميّز بقاسم مشترك واضح جدًا، هو إدراج غاية الحفاظ على شرعية الدولة اليهودية فوق أي اعتبار سياسي وأخلاقي آخر، ولذا فإن أصحابه يخلطون عمدًا بين السبب والنتيجة، وبكلمات أخرى ينظرون إلى الاحتلال باعتباره سببًا يؤدي إلى تفريخ الأزمات، لا باعتباره نتيجة للسياسة التي سبقته، واستمرت بعده أيضًا.

وفي هذه النقطة المهمة بالذات، فإن المقاربات السالفة تفارق، من حيث الجوهر، اجتهادات إسرائيلية أخرى تغلب على مقارباتها السمة النقدية، ولا تلهيها النتائج عن الإشارة إلى السبب.


في نقد أداء القيادة
الإسرائيلية عمومًا

عند هذا الحدّ لا بُدّ من التذكير بأن تشخيص انعدام الرؤية السياسية البعيدة المدى لدى القيادة الإسرائيلية كان محورًا مركزيًا في الرؤى، التي ميّزت النخب الأكاديمية الإسرائيلية النقدية، في أعقاب تطورات سنة 2000. وكان في طليعة الذين طرحوا هذا التشخيص البروفسور زئيف شطيرنهيل، المؤرخ الإسرائيلي اليساري والحاصل أيضًا على "جائزة إسرائيل"، والذي تعرّض في 25 أيلول 2008 إلى محاولة اغتيال على خلفية الأفكار السياسية التي يتبناها. فقد رأى، في سياق مقال له ظهر إلى جانب مقالات لآخرين غيره في كتاب بعنوان "الوضع الآن" صدر سنة 2003، أن جذور ذلك تعود إلى أداء القيادة الإسرائيلية على وجه العموم. ووفقًا لما كتبه فإن القيادة الصهيونية التي تولت عملية إقامة دولة إسرائيل في سنة 1948 لم تفلح في أن تتفوّق على نفسها، فتبادر إلى تأسيس مجتمع سياسي ذي أجندة ليبرالية عامة، وبذا فقد ظلت القيم القومية اليهودية في مرتبة متقدمة، من ناحية الأفضلية، على القيم العالمية، وخصوصًا قيم حقوق الإنسان. وبسبب انقياد تلك القيادة وراء القيم القومية اليهودية أصبحت فاقدة القدرة على اعتبار سنة 1949 (التي وُقعت خلالها اتفاقيات الهدنة مع الدول العربية المجاورة) بمثابة نهاية ما يسميه "مرحلة الاحتلال"، أو مرحلة التوسّع الإقليمي.

بناء على ذلك، كما يؤكد شطيرنهيل، فإن "الحروب التي خاضتها إسرائيل حتى الآن لم تكن ناجمـة عن الرفض العربي المستمر للاعتراف بشرعية الحركة القومية اليهودية فحسب، وإنما أيضًا عن عدم توفر القدرة والرغبة في إسرائيل في تحديد الوجهة التي يتعين المضي فيها قدمًا". ولذا، فإن "الانتصار الإسرائيلي في حرب 1967 اعتبر استمرارًا للانتصار في حرب الاستقلال" (حرب 1948).

بعد هذا ينتقل شطيرنهيل كي يعيد إلى الأذهان أنه طبقًا للمفهوم الصهيوني التقليدي، فإن حدود الدولة الإسرائيلية هي نتاج الظروف المتغيرة، التي تخضع بدورها إلى ميزان القوى والقوة العسكرية. علاوة على ذلك فإنه في سنة 1948 لم يتم حسم سؤال أساسي كان لا بُدّ من حسمه، مرة واحدة وأخيرة، وهو: هل يعني إقامة الدولة في جزء من "أرض إسرائيل" (فلسطين) وضع حدّ نهائي لعملية احتلال البلد؟. كذلك لم يتم الهجس بجواب عن سؤال آخر كان مطروحًا بحدّة في ذلك الوقت، وفحواه: هل ستستند إسرائيل إلى تفوقها العسكري والتكنولوجي من أجل السعي إلى السلام، على أساس الإنجازات (العسكرية) التي تمّ تحقيقها، أم أنها ستبقى راغبة، كلما سنحت الفرصة للتوصل إلى سلام، في مواصلة عملية الاحتلال، أو التوسع الإقليمي؟.

بالعطف على ما يقوله شطيرنهيل، نلاحظ أن طابع المجتمع الذي ينبغي التطلع إلى بنائه في إسرائيل هو أيضًا مثار جدل يستقطب اهتمام النخب الأكاديمية الإسرائيلية النقدية. وبغية توضيح بعض جوانب هذا الجدل، الآخذة في التبلور أكثر فأكثر في الآونة الأخيرة، سنتوقف في الحلقتين المقبلتين عند ما يقوله آخرون سواه بين صفوف النخب الأكاديمية الإسرائيلية النقدية في هذا الشأن.



3 - إمّا حل الدولتيـن وإمّا تكريس
الاحتلال ونظام الأبرتهايد...

(*) لدى متابعة ما تفكر به النخب الإسرائيلية المختلفة في الآونة الأخيرة، وهو ما بدأنا به في الحلقتين السابقتين، لا بُدّ من ملاحظة أن طابع المجتمع الذي ينبغي التطلع إلى بنائه في إسرائيل هو أيضًا مثار جدل يستقطب اهتمام النخب الأكاديمية الإسرائيلية، وخاصة النخب النقدية.

وبغية توضيح جوانب معينة لهذا الجدل، الآخذة في التبلور أكثر فأكثر في الفترة الأخيرة، نتوقف عند ما يقوله بعض هؤلاء.

نبدأ بالبروفسور نمرود ألوني، وهو نجل الوزيرة الإسرائيلية اليسارية السابقة شولاميت ألوني، ويعمل محاضرا كبيرًا في الفلسفة التربوية في كلية إعداد المعلمين "سمينار الكيبوتسات" في تل أبيب، ورئيسا لـ "معهد الفكر التربوي" ولـ "كتدرائية اليونيسكو للتربية الإنسانية"، كما أنه يشغل منصبي رئيس "مؤتمر تل أبيب للتربية المتقدمة" ومدير قسم آداب المهنة التربوية في "مركز آداب المهنة في القدس"، وقد وضع بضعة كتب ومؤلفات حول التعليم الإنساني والحواري، وعمل في السنوات الأخيرة أيضا في حقل الإرشاد التربوي في المدارس التجريبية وغيرها.

يؤكد ألوني، في دراسة جديدة اطلعنا أخيرًا على ملخص لها، أن إسرائيل تقف الآن أمام مفترق طرق حاسم: إما أن تكون عنصرية أو متعددة الثقافات. ويتجلى هذا المفترق، على صعيد السياسة الداخلية، في نظرة أو موقف الأكثرية اليهودية تجاه الأقلية العربية، أمّا على الصعيد السياسي العام، فإنه يتجلى في الموقف إزاء مسألة دولتين لشعبين، إسرائيل وفلسطين.

وفي رأيه فإن أحد المحكات لمعرفة "من نحن، أي هوية نريدها لأنفسنا، وما الذي يتطلب تقديم كشف حساب حوله؟"، يتمثل في التمييز بين العنصرية والتعددية الثقافية. إن العنصرية، في رأيه، هي موقف يخلع على مجموعة سكانية محدّدة - على أساس العرق، الجنس، الدين، القومية أو الطائفة- صفات الدونية، التخلف أو ميول سيئة ومعيبة. والعنصرية كموقف تنبثق عنها في الغالب أيضاً العنصرية كسياسة: معاملة تقوم على التمييز، الفصل، القمع، الإذلال، أو المس المنهجي بالحقوق وبالفرص في توافر حياة إنسانية كاملة وكريمة. كما أن موقف أو مفهوم التعددية الثقافية يعترف أيضاً بالاختلاف والتمايز الكبير القائم بين سمات ومصالح المجموعات الثقافية، لكنه، وخلافاً للعنصرية، يلتزم بمنح سائر المجموعات الثقافية مساواة في الحقوق والفرص، ومن ضمن ذلك تنمية التقاليد والهويات الخاصة لكل مجموعة، طالما جرى الحفاظ على القواعد الأساس للنزاهة الديمقراطية والتعددية الثقافية.

وتعتبر إسرائيل، في عرفه، دولة متعددة الثقافات. وإن أحد أهم عناصر الاختلاف لدى مواطني إسرائيل يقوم على أساس قومي، بين الأكثرية اليهودية والأقلية العربية. وهناك عناصر اختلاف أخرى قائمة داخل المجموعة القومية اليهودية ذاتها، مثلاً بين الطوائف المختلفة، وبين العلمانيين والمتدينين أو المتدينين المتزمتين (الحريديم). كذلك أيضاً داخل الجمهور العربي، بين المسلمين والمسيحيين والدروز والشركس. ومن بين سائر المجالات والاختلافات البين ثقافية في إسرائيل، نجد أن الاختلاف القومي هو الذي يشكل فقط التحدي الذي يتطلب من المجتمع الإسرائيلي الحسم والاختيار بين العنصرية والتعددية الثقافية. في باقي الحالات كافتها يقضي الإجماع في المجتمع الإسرائيلي بأن التمايز البين ثقافي يجب أن لا يشكل عائقًا أمام معاملة متساوية للجميع، أما في المجال بين اليهود والعرب فنجد أن الموقف العنصري الذي يطعن في طبيعة وولاء العرب في إسرائيل، بل ويدعو إلى وجوب العمل على تقليص الحقوق والفرص المكفولة لهم كمواطنين، يكتسب شرعية أكثر فأكثر. إن الإدعاء المعلن ضد هؤلاء العرب يصر على أنهم جمهور معاد وغير موال لدولة إسرائيل، هذا بطبيعة الحال من وجهة نظر الأكثرية اليهودية التي تشخص مصلحتها مع مصلحة الدولة ("الدولة أنا"). وهذا الفهم له ما يبرره ما دام بقي مرتكزًا إلى تفسير معين لإسرائيل كدولة يهودية وديمقراطية، وهو التفسير الذي يعطي مكوّن "اليهودية" وزنا أكبر من مكوّن الـ "ديمقراطية". لكن في المقابل، إذا أعطي وزن متساو لمكونّي اليهودية والديمقراطية، فإن دولة إسرائيل ستغدو عندئذٍ وطنا قوميا للشعب اليهودي وفي الوقت ذاته أيضا دولة جميع مواطنيها. ووفقا لهذا التفسير فإن الحق الزائد الوحيد للجمهور اليهودي يتمثل في "قانون العودة" المكفول بصورة أوتوماتيكية لليهود فقط، وذلك "لاعتبارات العدالة التاريخية والتفضيل التصحيحي"... وبحسب هذا التفسير أيضاً فإن دولة إسرائيل هي بيت ووطن مواطنيها العرب، بدرجة لا تقل عن مواطنيها اليهود. فضلا عن ذلك فإنه لا يمكن لأي ذي بصيرة واستقامة أخلاقية أن يفكر أو أن يتصور بأن الأقلية العربية في إسرائيل تستطيع التماثل مع فكرة الدولة اليهودية والديمقراطية. فأبناء هذه الأقلية لا يستطيعون أن ينشدوا بتأثر وحماسة النشيد الوطني الإسرائيلي، لسبب بسيط وهو أن (نشيد) "هتكفا" (الأمل) هو ليس أملهم على الإطلاق. والأنكى من ذلك هو ما يظهره بعض اليهود ممن هاجروا حديثا إلى البلد، من صفاقة وتبجح وفظاظة حين يشككون بوقاحة في مواطنة مواليد وسكان البلد العرب الأصليين، وفوق ذلك يطالبونهم بصك ولاء لفكرة الدولة اليهودية. بعبارة أخرى، طبيعي تمامًا أن يرغب المواطنون العرب في رؤية إسرائيل دولة متعددة الثقافات لجميع مواطنيها، كما من المنطقي والمنصف تمامًا أن يرغبوا في أن يكون لروايتهم الثقافية أيضاً تعبير مركزي ومحترم في المجتمع الإسرائيلي.
وكما في أي مجتمع ديمقراطي ومتعدد الثقافات، فإن المعيار الوحيد للولاء المدني هو المحافظة على القانون والتمسك بقواعد النزاهة الديمقراطية والتعددية الثقافية، والامتناع من القيام بأعمال عنف كوسيلة لدفع وتحقيق أهداف سياسية.

وهو يضيف: إن الذين يرون أنفسهم صهيونيين ويتماهون مع الموقف الذي طرحته أعلاه بشأن حق اليهود في وطن قومي في إطار دولة ذات سيادة، لا مفر من اعتبارهم عنصريين إذا كانوا ينكرون ما يطالبون به لأنفسهم على الشعب الآخر الذي يعيش معهم وإلى جانبهم- الشعب الفلسطيني. فإذا ما قبلنا بالحقائق المتمثلة في أن يكون وجود العرب الفلسطينيين مواطني إسرائيل في منزلة أقلية قومية وثقافية، من جهة، وأن هناك من جهة أخرى بضعة ملايين من الفلسطينيين الذي يعيشون في الضفة الغربية وقطاع غزة والشتات يطالبون بحق تقرير المصير في إطار دولة ذات سيادة، فإن الإمكانيات المتاحة أمامنا تنحصر عندئذٍ في إمكانيتين لا ثالثة لهما: إما تطبيق حل "دولتين لشعبين"، إسرائيل وفلسطين، وإما تكريس الاحتلال ومن خلال ذلك تكريس مكانة الفلسطينيين في واقع من القمع والتمييز في إطار نظام فصل عنصري - أبرتهايد.

وهذا لا يعني برأيه أن إسرائيل ملزمة بانسحاب فوري من مناطق الضفة الغربية من دون اتفاقات أو تسويات تضمن السلام والأمن، لكن مجمل النشاطات التي تكرس واقع السيطرة العسكرية الإسرائيلية، وفي صلبها تعزيز وتوسيع الاستيطان اليهودي في الضفة الغربية، ليس لها من وصف سوى رفض خيار دولتين لشعبين. من هنا فإن النظرة إلى الفلسطينيين كأناس دونيين ومتخلفين لا يستحقون التمتع بحقوق إنسانية كاملة كباقي الشعوب، تعني موقفا عنصريا.


إسرائيل نظام
أبرتهايد

لئن كان ألوني يتحدث بصيغة من شأنها أن تحيل إلى الاحتمالات في المستقبل المنظور أو ربما البعيد، فإن أكاديميًا إسرائيليًا نقديًا آخر، هو الدكتور نيف غوردون، رئيس قسم العلوم السياسية في جامعة بن غوريون في بئر السبع، يؤكد في مقال نشره في صحيفة "لوس أنجلوس تايمز" الأميركية، في شهر آب الماضي، ودعا فيه إلى مقاطعة إسرائيل اقتصاديا، احتجاجا على استمرار الاحتلال والاستيطان، وعلى رفض حكومة إسرائيل تجميد الاستيطان، أنه يجب انتهاج إستراتيجيات نضالية غير عنيفة من أجل إنهاء الاحتلال للأراضي الفلسطينية، واصفا النظام في إسرائيل بأنه نظام أبرتهايد، أو فصل عنصري، لأسباب كثيرة ليس أقلها خضوع الإسرائيليين إلى منظومة قوانين معينة، وخضوع الفلسطينيين إلى منظومة قوانين أخرى ومختلفة.

وفي دراسة أخرى نُشرت قبلاً في مجلة علم الاجتماع الإسرائيلي وظهرت ترجمتها العربية في العدد 35 من مجلة "قضايا إسرائيلية" الفصلية الصادرة حديثًا عن المركز الفلسطيني للدراسات الإسرائيلية- مدار في رام الله، يشير غوردون إلى أن تفحص تاريخ الاحتلال الإسرائيلي منذ سنة 1967 يكشف عن متغيرات حدثت في وسائل السيطرة التي مارستها إسرائيل في المناطق (المحتلة) على مرّ السنوات. وقد قبعت أسباب مختلفة في أساس هذه المتغيرات، لكن ما يدعيه هو أن الظواهر الجانبية والتناقضات الناجمة عن استخدام وسائل السيطرة المختلفة شكلت قوة مركزية أدت إليها. فمن جهة، استخدمت إسرائيل طائفة متنوعة من الأجهزة والآليات والأساليب بهدف تطبيع الاحتلال وقمع الهوية الوطنية الفلسطينية وتفكيك المجتمع الفلسطيني. ومن جهة أخرى، فإن الكثير من وسائل السيطرة أفرزت ظواهر جانبية وتناقضات ساهمت بالذات في تعزيز الهوية الوطنية والوحدة الفلسطينية. ويستدل من هذا التحليل التاريخي أن وسائل السيطرة ذاتها أدّت دورًا مهما في تشكل وبلورة المقاومة، التي صاغت بدورها سياسة إسرائيل الاحتلالية، والتي انبثقت عنها قراراتها في نقل التأكيد من أحد أنواع القوة إلى نوع آخر. وهذه الظواهر الجانبية والتناقضات أدت في مرحلة معينة إلى تغيير عميق أكثر أفضى إلى استبدال المبدأ الموجه للاحتلال، من مبدأ الاستعمار إلى مبدأ الفصل. ويقصد بـ "مبدأ الاستعمار" ذلك الشكل من السلطة أو الحكم، الذي يحاول المحتل بواسطته إدارة حياة الخاضعين للاحتلال وفي الوقت ذاته استغلال موارد المنطقة المحتلة. فالقوى الاستعمارية لا تحتل عادة الأراضي من أجل السيطرة على المجموعات السكانية المحلية، ولكنها تضطر في النهاية إلى إدارة حياة السكان للتسهيل على نفسها في مهمة استغلال الموارد. وبعد حرب "الأيام الستة" (حرب حزيران 1967) أخذت إسرائيل على عاتقها المسؤولية عن مصير السكان الخاضعين للاحتلال، وشرعت في تفعيل المؤسسات المدنية المركزية التي تدار بواسطتها حياة المجتمعات العصرية. في المقابل بدأت (إسرائيل) باستغلال قوة العمل الرخيصة وبمصادرة الأراضي ومصادرة المياه الفلسطينية التي كانت أهم مصادر الطبيعة في المنطقة. كما أن التناقضات والظواهر الجانبية الناجمة عن وسائل السيطرة أفضت في مرحلة معينة إلى اندلاع الانتفاضة الأولى، والتي أدركت إسرائيل خلالها أن مبدأ الاستعمار لم يعد يصلح للاستخدام كمبدأ مبلور وموجه لسيطرتها في الضفة الغربية وقطاع غزة، فشرعت في البحث عن مبدأ آخر يمكنها من مواصلة الاحتلال. وقد تبين أن التطلع إلى تطبيع الاحتلال وقمع الوطنية الفلسطينية، بمساعدة سلسلة من أجهزة وآليات الضبط المسنودة عند الضرورة بقوة الذراع، ليس واقعيًا. وبعد مرور بضع سنوات تبلورت سياسة واضحة، اعتمد بموجبها مبدأ الفصل. وخلافاً لمبدأ الاستعمار، الذي نوقش بصراحة في أحيان نادرة فقط، فقد نوقش مبدأ الفصل مرارًا وتكرارًا. ولعل العبارة التي تجسد هذا المبدأ الأخير، أكثر من أي شيء آخر هي عبارة "نحن هنا، هم هناك" المنسوبة إلى إيهود باراك، و"نحن" تعني الإسرائيليين (اليهود) بينما تعني "هم" الفلسطينيين، كما سنوضح في الحلقة المقبلة والأخيرة من هذه المتابعة.

4- التركيز على احتلال 1967
ليس وصفة مضمونة للتسوية


(*) إذا كان المبدأ الأول (الاستعمار)، الذي اتبعته إسرائيل إزاء المناطق المحتلة منذ 1967، كما أشير في الحلقة السابقة، يمثل مبدأ الاحتلال، فإن المبدأ الثاني (الفصل) يقترح، كما يزعم، حلاً للاحتلال، وفقًا لما يقوله الدكتور نيف غوردون، رئيس قسم العلوم السياسية في جامعة بن غوريون في بئر السبع. بعبارة أخرى، فإن صيغة "نحن هنا، هم هناك" (التي قالها إيهود باراك) لا تعني انسحاب القوات الإسرائيلية من المناطق المحتلة (مع أن الأمر فُهم على هذا النحو لدى الجمهور الإسرائيلي في معظمه)، وإنما هي تؤدي إلى طمس حقيقة أن إسرائيل أعادت انتشار قواتها في المناطق (المحتلة) بهدف مواصلة السيطرة على مواردها. وإن قراءة متأنية لاتفاقيات أوسلو، والتي كانت نتاجًا مباشرًا للانتفاضة الأولى، وكذلك التغييرات التي طرأت على الظروف الاقتصادية والسياسية في الساحة الدولية، تثبت أن الحديث يدور على إعادة تنظيم للقوة لا على سحبها. من هنا يجب فهم هذه الاتفاقيات باعتبارها استمرارًا للاحتلال بوسائل أخرى، أو كما قال الباحث الإسرائيلي ميرون بنفينستي قبل سنوات طويلة: "أوسلو هي نوع من الاحتلال، بواسطة التحكم عن بعد". بناء على ذلك فإن مغزى مبدأ الفصل هو ليس إنهاء السيطرة، وإنما استبدالها من طريقة تقوم على إدارة حياة السكان الخاضعين للاحتلال إلى طريقة لا تهتم بحياة السكان الفلسطينيين مطلقًا. ولعل أحد التجليات المهمة لهذا التغيير يمكن ملاحظته في عمل "مكتب الإحصاء المركزي" الإسرائيلي، الذي توقف عن متابعة ورصد التطورات المتعلقة بالسكان الفلسطينيين في المناطق المحتلة. وثمة تعبير آخر يمكن إيجاده في موقف إسرائيل إزاء القانون. ففي الوقت الذي سيطرت فيه إسرائيل، لغاية أيلول 2000، على السكان الخاضعين للاحتلال بواسطة تطبيق عدة منظومات قانونية - والتي شملت في الحقيقة قوانين تعسفية أجازت اعتقال واحتجاز آلاف الأسرى والمعتقلين السياسيين إضافة إلى تنفيذ عمليات طرد وهدم منازل وتعذيب وفرض إغلاقات طويلة وأشكال أخرى من العقوبات الجماعية- فإن إحدى السمات البارزة للانتفاضة الثانية ولمبدأ الفصل، تتمثل في التعليق الواسع للقانون، الذي تحول إلى قاعدة. وأحد الأمثلة على هذا التعليق، هو الحجم الواسع لعمليات الإعدام من دون محاكمة. وتدل حقيقة أن أي جندي إسرائيلي لم يحاكم بسبب عمليات القتل هذه وتحولها إلى جزء من سياسة علنية، على أن جزءًا من السكان الخاضعين للاحتلال تحول إلى أناس يمكن قتلهم من دون أن يعتبر الأمر جريمة. بالإضافة إلى ذلك، فإن جسد الفلسطيني لم يعد، في ظل مبدأ الفصل، يعتبر موضوعًا يجب التدخل فيه أو العمل على صوغه وتشكيله. وعليه فإن استخدام إسرائيل اليوم لعنف أكثر فتكًا، ليس ناتجًا عن تكتيك محلي يتبع بغرض تحقيق أهداف معينة، من قبيل قمع الانتفاضة الثانية. كذلك لا يمكن تفسير عنف إسرائيل وبطشها كردة فعل على مقاومة أكثر عنفًا. إن التغيير في توليفة أو هيكلية وسائل العنف يعكس الانتقال أو التحول من مبدأ الاستعمار إلى مبدأ الفصل، وهذا التحول هو نتيجة مباشرة للظواهر الجانبية والتناقضات الناجمة عن وسائل السيطرة التي طبقتها إسرائيل في المناطق (الفلسطينية المحتلة).

ويرى أكاديمي إسرائيلي نقدي ثالث، هو البروفسور أورن يفتاحئيل، أستاذ الجغرافيا السياسية في جامعة بن غوريون في بئر السبع، أن أفضل توصيف للحالة السياسية الراهنة السائدة في الرقعة الجغرافية المسماة إسرائيل/ فلسطين، أي ما بين نهر الأردن والبحر المتوسط، هو "الأبرتهايد الزاحف". ويؤكد هذا الباحث، في مقالة كتبها خصيصًا للعدد 35 من مجلة "قضايا إسرائيلية" المذكورة في السطور السابقة، أنه خلال السنوات الخمس عشرة الماضية، حدث تغير ملموس في الخطاب الذي يتبناه قادة إسرائيل، سواء إزاء إدارة الصراع الصهيوني- الفلسطيني أو إزاء حلّه. وقد جاء ذلك بعد عقود تميزت بالرفض المتعنت لحقّ الفلسطينيين في تقرير مصيرهم وفي إقامة دولتهم، كما تميزت بدعم التوسع اليهودي في المناطق الفلسطينية المحتلة، والمناطق الفلسطينية داخل إسرائيل. ويبدأ الخطاب الجديد من استعداد (رئيس الحكومة الأسبق) إسحاق رابين الاعتراف بمنظمة التحرير الفلسطينية و"الحقوق السياسية القومية الفلسطينية"، التي تكرّست في اتفاقيات أوسلو، وفي كامب ديفيد باراك، وفي مفاوضات طابا، من أجل دولة فلسطينية، بالإضافة إلى الانسحاب من لبنان. وقد أصبح التغيير أكثر وضوحا عندما حظي بدعم قادة قوميين يمينيين مثل أريئيل شارون وإيهود أولمرت وبنيامين نتنياهو، قاموا ببناء سيرهم السابقة على تشجيع الاستعمار الصهيوني والعدوان العنيف في محاولة لتحقيق ما أسماه عالم الاجتماع الإسرائيلي باروخ كيمرلينغ "الإبادة السياسية" (politicide) للفلسطينيين. أما في السنوات الأخيرة، فقد غيّر هؤلاء القادة لغتهم (وليس بالضرورة أفعالهم دائما). على سبيل المثال، خلال سنوات حكم أولمرت كرئيس للحكومة، 2006 ـ 2009، سعى إلى التفاوض مع السلطة الفلسطينية على حلّ الدولتين، وفي لحظة من صراحة نادرة أعلن: "إن إقامة دولة فلسطينية هي مصلحة إسرائيلية حيوية... والفشل في التوصل إلى حلّ سلمي وإقامة دولة فلسطينية قابلة للحياة قد يجرّ إسرائيل إلى صراع أبرتهايد على طريقة جنوب أفريقيا... مثل هذا السيناريو، سوف يعني أن دولة إسرائيل قد انتهت".

وكان هذا الموقف مدعوما من وزيرة خارجيته تسيبي ليفني، التي تقود الآن حزب كديما، أكبر الأحزاب الإسرائيلية، وهو الحزب الذي ركزت حملته بقوة على أفق الدولتين في انتخابات 2009. وفي وقت أقرب عمد رئيس الحكومة الجديد/ القديم بنيامين نتنياهو ـ الذي ظلّ معارضا صلبا لسنوات ـ إلى تغيير الاتجاه، ووافق على إقامة دولة فلسطينية (منزوعة السلاح). وهذا التحول كان جليا بقوة خلال فترة حكم أريئيل شارون، 2001 ـ 2005، وهو "الأب الروحي" للاستيطان اليهودي في الأراضي الفلسطينية، والقائد العسكري العديم الرحمة، المصمم على تدمير القومية والحقوق الفلسطينية. لاحظوا، على سبيل المثال، تصريحيه التاليين:

"في ظل قيادتي لن تكون هناك تنازلات فارغة للفلسطينيين... ومصير نيتساريم وكفار داروم (أكثر المستوطنات انعزالا في قطاع غزة- الباحث) سيكون شبيهًا بمصير تل أبيب" (أريئيل شارون، 11 كانون الأول 2002).
"من المستحيل الإبقاء على ثلاثة ملايين ونصف مليون فلسطيني تحت الاحتلال ـ أجل، إنه احتلال، وهو سيء لإسرائيل... إن السيطرة على ثلاثة ملايين ونصف مليون فلسطيني لا يمكن أن تستمرّ إلى الأبد" (أريئيل شارون، 26 كانون الأول 2003).

إن هذين التصريحين ـ اللذين أطلقا كما هو مبيّن في ظرف فترة زمنية قصيرة مدتها اثنا عشر شهرا ـ يشكلان تماما صدى وجهات نظر متعارضة حول نيات إسرائيل إزاء الأراضي الفلسطينية المحتلة. وفوق ذلك ـ وبعكس معظم القادة الإسرائيليين ـ فإن شارون حوّل نواياه إلى فعل ملموس، بواسطة قيادة انسحاب عسكري من طرف واحد، وبإخلاء خمس وعشرين مستوطنة يهودية في قطاع غزة وشمال الضفة الغربية. وكانت تلك هي المرة الأولى التي أجلت فيها إسرائيل طوعًا مستوطنين من أراض تعتبرها وطن اليهود، وهي، فلسطين/ أرض إسرائيل، بين نهر الأردن والبحر المتوسط.

ويتساءل الباحث: كيف يمكن النظر إلى هذا التحوّل؟ هل هذه التحركات من طرف سلسلة من رؤساء الحكومة اليمينيين، تتجه نحو ممرّ السلام الذي طال انتظاره؟ هل نحن متجهون الآن نحو نهاية الاستعمار الإسرائيلي، كجزء من حلّ الدولتين؟. وسرعان ما يجيب بالسلب، مؤكدًا أن التحول الأخير يعرض ظهور مرحلة جيو- سياسية جديدة، ويبرز غياب أجندة "أرض إسرائيل الكبرى".

كما يؤكد أن هذا التغيير ليس في إمكانه أن يفضي إلى إقامة دولة فلسطينية قابلة للحياة في المدى المنظور، ولا إلى إقامة دولة ديمقراطية واحدة بين نهر الأردن والبحر المتوسط، بل إنه يميل أكثر إلى تعميق عملية مأسسة واقع الأبرتهايد، وإلى جعله شرعيا.

ويختم بالقول إنه ربمـا تقام دولة فلسطينية نتيجة للضغوط الدولية، التي تقودها إدارة باراك أوباما. مع ذلك، فإن مثل هذه الدولة لن تتمتع بالسيادة الكاملة ولا بالتواصل الإقليمي، لأن ما هو مقترح من الدوائر الإسرائيلية والدولية، لا يحلّ الصراع الصهيوني- الفلسطيني، وسيكون جزءا من عملية "فصل عنصرية" معدّلة.

وهو يعتقد أن إقامة دولة فلسطينية قابلة للحياة وكاملة السيادة كتطبيق للقانون الدولي وحقوق الفلسطينيين (من دون التضحية بالحقوق الإسرائيلية المشروعة) يمكنها أن توصل المنطقة إلى الاستقرار. مع ذلك، فإن مسيرة سلمية كهذه تتطلب من الإسرائيليين والفلسطينيين، وخصوصا الإسرائيليين، أن يتعاملوا مع الموضوعات الأساسية التي تشكل لبّ الصراع، مثل تداعيات النكبة، ومحنة اللاجئين، والقدس، والتحكم بالأرض، ومستقبل الفلسطينيين داخل إسرائيل. ولا يبدو أن هناك احتمالات كبيرة لوجود قوة سياسية، بما في ذلك أميركا، الشريك الإمبريالي لإسرائيل، وأوروبا المتردّدة، والدول العربية، تملك سلطة تدفع إسرائيل إلى التعامل مع هذه القضايا، وتوقف الانحدار نحو جغرافيا الأبرتهايد.


التركيز على احتلال 1967
لن يحل المشكلة

لا يجوز أن ننهي هذا العرض من دون التوقف عند الخلاصات المثيرة، التي يتوصل إليها الأكاديمي الإسرائيلي الراديكالي البروفسور يهودا شنهاف، وهو عالم اجتماع وأستاذ جامعي، ورئيس تحرير مجلة "نظرية ونقد" الإسرائيلية الفصلية، التي تحتضن مقالات وأبحاث تيار "المؤرخين الجدد" وتيار "علماء الاجتماع النقديين"، في كتاب جديد له يصدر قريبًا يقدّم فيه تحليلاً لدوافع الخطاب الإسرائيلي بشأن احتلال 1967 وإحالاته، وقد نُشر فصل منه في العدد 34 من مجلة "قضايا إسرائيلية"، الذي اشتمل على محور خاص بعنوان "رؤى إسرائيلية حول مشاريع التسوية السياسية".

وسنكتفي بذكر ما يلي من تلك الخلاصات:

أولاً- إن تركيز الجدل على ما حدث في سنة 1967 يهدف أساسًا إلى صرف الأنظار عما حدث في سنة 1948. وإن العودة إلى مسألة 1948 سوف تطرح على الأجندة حقيقة أن حرب 1948 لم تنته بعد، وكذلك الحقيقة المؤلمة بشأن وجود ملايين اللاجئين الذين ما زالوا ينتظرون البت في مصيرهم ومصير أراضي وممتلكات آبائهم التي سلبتها دولة إسرائيل.

ثانيًا- إن الاقتراح بإرساء أسس لتفكير سياسي يستند إلى نموذج 1948 لا يشكل محاولة للتنكر لحق تقرير المصير لليهود كمجموعة قومية، بل على العكس، فإنه يرى فيه اقتراحا للرجوع إلى زمن تاريخي وفلسفي يمكن الانطلاق منه في سبيل صوغ نظرية سياسية جديدة تهتم بمكانة ومستقبل اليهود في المنطقة. وينبغي لليهود أن يصوغوا نظرية سياسية جديدة تأخذ في الحسبان شعوب المنطقة، وتحدد في الوقت ذاته الحقوق السياسية لليهود، وهو ما كان ينادي به في ثلاثينيات وأربعينيات القرن الماضي مثقفون يهود كثيرون.

ثالثًا- إن صوغ حقوق اليهود هو ضرورة لا مفر منها، ذلك لأن الحقوق المستندة إلى العنف والأبرتهايد لا يمكن أن تبقي مضمونة إلى الأبد. والدرس المستخلص من التاريخ العالمي يبين أن دولة من هذا النوع لا بد أن تُهزم، أو أن تهزم نفسها. وقد تجد إسرائيل نفسها ذات يوم في خضم انقلاب سياسي، مثلما حصل في جنوب أفريقيا أو زيمبابوي، وفي أتون حمام دماء لا يُحتمل. وسيكون من الصعب في ظل عنف من هذا القبيل صوغ خطاب حقوق، وخاصة حقوق اليهود، التي يمكن أن تبدو مع الأسف صورة طبق الأصل عن حقوق الفلسطينيين حاليا، ونحن بالتأكيد لا نرغب في مستقبل كهذا. حتى لو كان الفلسطينيون قد رفضوا قبل سنة 1948 خيارًا مغريا مثل مشروع التقسيم- وهو تصرف لا يوجد إجمـاع بشأنه- فإن هناك اليوم إمكانية متاحة لحوار مثمر بشأن تقسيم جديد للحيز عبر المحافظة على حقوق اليهود. ويعتقد الباحث بأن العودة إلى إجراء نقاش منطقي متزن حول مسألة سنة 1948 ستتيح إلقاء نظرة مقرونة بأفق سياسي بعيد النظر، بما يفضي إلى إفراز تحالفات سياسية جديدة في المنطقة، وبما يهيئ إمكان التفكير بمنأى عن القوالب الجامدة*.(عرب 48)



 

2010-05-29 10:00:20 | 1750 قراءة

التعليقات

الإسم
البريد الإلكتروني
عنوان التعليق
التعليق
رمز التأكيد
مركز باحث للدراسات الفلسطينية والاستراتيجية