التصنيفات » دراسات

القدس وموارد الإجماع الصهيوني-اليهودي في الصحافة الإسرائيلية.

عباس إسماعيل، خبير في الشؤون الإسرائيلية

مقدمة:
تكتسب مقاربة موضوع القدس من زاوية كيفية تعاطي وسائل الإعلام الإسرائيلي معه، أهمية بالغة نظرا لأهمية الدور الذي تلعبه هذه الوسائل في بلورة الرأي العام الإسرائيلي من جهة، وأهمية القدس من حيث مكانتها ورمزيتها الدينية والسياسية من جهة  ثانية. بيد أنه وعلى الرغم من حساسية هذا الموضوع وأهميته، كان لافتا غياب وقلة الأبحاث أو الدراسات أو التقارير، العربية وغير العربية، التي تتناول موضوع القدس في وسائل الإعلام الإسرائيلي، وهو أمر يُسجل سلبا في سجل كافة العاملين في الشؤون الإعلامية والسياسية والدينية، وفي المقابل يُسجل إيجابا في سجل القيمين على مؤسسة القدس، الذين يُعتبر مجرد التفاتهم واهتمامهم بهذا الشأن خطوة محمودة قد تكون باكورة العمل في هذا المجال، ولبنة يمكن التأسيس عليها في أعمال لاحقة. وبما أن العمل البحثي هو بشكل عام ثمرة جهد تراكمي، فيمكن اعتبار هذه المساهمة المتواضعة جزء من هذا الجهد التراكمي، لا تروي بالطبع ظمأ المتعطشين نظرا لكون هذا الأمر يحتاج إلى عملية رصد ومقارنة وتحليل على امتداد فترة زمنية طويلة، وهو أمر متعذر حصوله بسبب عدم توافر جهود سابقة يمكن الاستعانة بها، وضيق الوقت الفاصل بين تكليفي بهذا العمل وبين تأمينه. وعليه، سأحاول مقاربة هذا الموضوع من خلال تسليط الضوء على وسائل الإعلام الإسرائيلي لجهة خصائصها ودورها وطريقة تعاطيها مع المواضيع التي تُعتبر من موارد الإجماع الصهيوني-اليهودي، ومن عناصر الصراع العربي_الإسرائيلي- وهما عنصران يتوفران في موضوع القدس بامتياز- وإسقاط مفاعيل هذه المقاربة على موضوع القدس.
عند الحديث عن حضور القدس في وسائل الإعلام الإسرائيلي، يستحيل تناول هذا الموضوع في سياق منفصل عن حركة مجموعة من المحاور أهمها : طبيعة وسائل الإعلام الإسرائيلي والدور المناط بها، العوامل المؤثرة على وسائل الإعلام هذه وضوابطها ومدى ارتباطها بالمؤسسة الحاكمة، مكانة الإعلام الإسرائيلي من الصراع العربي- الإسرائيلي ومن موارد الإجماع الصهيوني-اليهودي، وغيرها من المسائل ذات الصلة. وعليه، فإن الإضاءة على سياق حركة هذه المحاور يساهم في إعطاء صورة واضحة وجلية تسمح بمقاربة موضوعية قدر الإمكان، هو ما سنتوخاه من خلال التركيز على مصادر مهنية عبرية يكون أصحابها من الإسرائيليين بالدرجة الأولى.
هذه الورقة ستتضمن شقين، الأول نظري يسلط الضوء على وسائل الإعلام الإسرائيلية الصحف. والشق الثاني عملي يتضمن عينة من اقتباسات وشهادات وتقارير ودراسات واحصاءات اُجريت حول أداء الصحف الإسرائيلية وطريقة تعاطيها مع المواجهة القائمة بين الفلسطينيين وبين إسرائيل، لا سيما أحداث الانتفاضة المباركة.
أولا: الصحف الإسرائيلية:
يتجاذب المهتمين بالمشهد الإعلامي الإسرائيلي مفهومان أساسيان. المفهوم الأول يرى في الإعلام الإسرائيلي مؤسسة دعائية، لا تختلف عن معظم المؤسسات الإسرائيلية الأخرى في كونها أداة لخدمة المشروع الصهيوني بكل تجلياته.
أما المفهوم الثاني، فيرى الإعلام الإسرائيلي إعلاما حرا، محايدا، جريئا، ويستوفي كل المعايير الإعلامية المهنية التي يُفترض أن يتحلى بها الإعلام في الأنظمة والمجتمعات الديمقراطية.
في ضوء ذلك، يطرح السؤال نفسه، أي المفهومين أقرب إلى الحقيقة والواقع بالنسبة للصحف الإسرائيلية؟ الإجابة على السؤال يمكن تحديدها من خلال تحديد طبيعة الدور الذي تلعبه الصحف الإسرائيلية. فمن المعروف أنه من صميم دور ومهمة الصحف في المجتمعات الديمقراطية منح منصة للتعبير عن الآراء والمواقف المختلفة، نشر المعلومات الموثوقة والصحيحة، وكشف عيوب واخفاقات السلطة. فحرية التعبير وحق الجمهور في المعرفة، إلى جانب مركزية قيمة انتقاد السلطة، هي من خصائص ومزايا النظام الديمقراطي. وعليه، فإن الصحف التي لا تستند إلى هذه المبادئ لا يمكن أن تُسمى صحافة حرة. على هذا الأساس يمكن القول إن الإعلام الإسرائيلي يقترب من المفهوم الأول بنسبة كبيرة في كل ما يتعلق بالصراع العربي-الإسرائيلي وبموارد الإجماع الصهيوني- اليهودي، بينما نراه يقترب من المفهوم الثاني في كل ما يتعلق بالمشهد الإسرائيلي الداخلي بكل تجلياته الحزبية-السياسية، الاجتماعية والاقتصادية وغيرها من المجالات.
لمحة تاريخية:
يعود تاريخ الصحف في دولة الاحتلال الإسرائيلي إلى الفترة التي سبقت قيام هذه الدولة، فخلال فترة الانتداب البريطاني لأرض فلسطين، ظهرت عدة صحف عبرية وصل عددها إلى 13 صحيفة يومية، توزعت بين حزبية وخاصة، منها من توقف عن الصدور ومنها ما يزال يصدر حتى يومنا هذا. وفيما احتلت الصحف الحزبية مكانة أساسية في النشاط الإعلامي في فترة ما قبل قيام الدولة، والأيام الأولى لقيامها، كانت الصحف الخاصة تواجه صعوبات عديدة، أبرزها صعوبات اقتصادية. وفي خمسينيات القرن الماضي، كان هناك ثمانية صحف من مجموع أحد عشرة صحيفة عبرية يومية ناطقة باسم الأحزاب، وتخضع لتأثيرها المباشر، الأمر الذي ساعد كل حزب على نشر أفكاره وتجنيد الأصوات له خلال الانتخابات. وتجدر الإشارة هنا إلى أن تجند الصحف للصراعات الحزبية لم يأت على حساب تجندها لصالح الصراع القومي، ودفع المصالح القومية اليهودية  وفق رؤية قادة الحركة الصهيونية، وهذا ما كان يحصل غالبا على حساب الحقيقة وحق الجمهور في المعرفة.  والمثال الواضح لنمط عمل الصحف والصحفيين وتجندهم القومي هو لجنة محرري الصحف اليومية في إسرائيل التي ما زالت تعمل حتى أيامنا هذه، والتي كانت مهمتها الأساسية ضمان عدم اطلاع الشعب على المعلومات الحساسة التي تصل إلى الصحافيين.
أولا : خصائص الصحافة العبرية الراهنة:
مرت الصحف الإسرائيلية بتحولات عميقة متأثرة بعوامل رئيسية مثل الخصخصة واللبرلة اللذين تعرض لهما المجتمع الإسرائيلي، إضافة إلى تطورات الصراع العربي الإسرائيلي، والتغييرات التي شهدتها الخارطة الحزبية-السياسية في إسرائيل، فضلا عن المتغيرات الاجتماعية والإيديولوجية والسياسية التي شهدها المجتمع الإسرائيلي في العقود الأخيرة. ومن أهم الخصائص التي تتميز بها الصحف الإسرائيلية الراهنة:
1-   أفول الصحافة الحزبية العلمانية.
2-   صعود الصحافة الخاصة والتجارية.
3-   مركزية الملكية في سوق الصحافة وتصاعد التنافس بينها.
4-   تغييرات في مفهوم الصحافة المجندة أو الملتزمة.
5-   نمو الصحف المحلية.
ثانيا: موارد الإجماع القومي اليهودي التي تحكم أداء الصحف:
ثمة مجموعة من القضايا تشكل موردا للإجماع القومي الصهيوني- اليهودي، بحيث تقوم الصحف الإسرائيلية من تلقاء نفسها غالبا، في أخذها في عين الاعتبار والتجند لخدمتها عند أدائها لنشاطها الإعلامي. وأهمها:
1-الحفاظ على يهودية الدولة.
2- استمرار الهجرة.
3- معارضة حق العودة للاجئين الفلسطينيين.
4- أولوية الأمن.
6-   مكانة القدس.
7-    التمسك بالرموز والشعارات الدينية اليهودية.
ثالثا: انتشار الصحف الإسرائيلية :
يعتبر الجمهور الإسرائيلي جمهور قارئ ومستهلك للإعلام المكتوب، فنسبة توزّع الصحف على عدد سكان الدولة هي نسبة عالية جداً، على الرغم من أن الصحف التي تحوز على النسبة الأعلى للتوزيع في الكيان الإسرائيلي لا تتجاوز ثلاث صحف إضافة إلى صحيفة جيروزاليم بوست الناطقة باللغة الإنكليزية، وهذه الصحف هي: يديعوت أحرونوت، معاريف وهآرتس. وفي ما يلي عرض لواقع هذه الصحف في إسرائيل.
يديعوت أحرونوت: وهي الصحيفة الأكثر انتشاراً، إذ توزّع ما يقارب 350.000 نسخة في اليوم العادي، بينما يرتفع العدد ليصل إلى 600.000 نسخة يوم الجمعة (عطلة نهاية الأسبوع هي السبت).
معاريف: توزع الصحيفة حوالي 150.000 نسخة في اليوم العادي، فيما توزع 250.000 نسخة في نهاية الأسبوع...
هآرتس: الصحيفة الأقل انتشاراً ما بين الصحف الثلاث الكبرى، حيث توزع 50.000 نسخة في الأيام العادية و60.000 نسخة في نهاية الأسبوع، لكن تأثيرها هو أكبر بكثير من العدد الكلي للنسخ الموزعة، إذ تعتبر صحيفة النخبة والطبقة المتوسطة فصعوداً.
جروزاليم بوست: صحيفة ناطقة باللغة الإنجليزية، وهي عنصر مكمل للمشهد الصحفي الإسرائيلي، توزع يومياً ما يقارب الـ15.000 نسخة فيما يصل عدد النسخ الموزعة في نهاية الأسبوع إلى 40.000، وتعرض الصحيفة وجهات نظر قومية يمينية عادة، وتأثير الصحيفة بشكل أساسي - كونها تصدر باللغة الإنكليزية - على السلك الدبلوماسي العامل في إسرائيل، والمراسلين الأجانب واليهود خارج إسرائيل.
إضافة إلى هذه الصحف يوجد أيضاً صحف أخرى محدودة الانتشار ومنها:
يوم ليوم، يتدنئمان، هاموديع وهاتسوفيه، وهي صحف الأحزاب الدينية المتعددة، ونسبة انتشارها قليل جداً إذ لا توزع مجتمعة بضعة آلاف نسخة يومياً، وتعتبر هذه الصحف لسان حال القيادات السياسية والدينية لهذه الأحزاب.
الأرقام الواردة هنا، والتي تصل إلى ما يقرب من المليون نسخة موزعة من قبل الصحافة العبرية في يوم الجمعة، لا تكفي على أهميتها لتكوين صورة كاملة لمكانة الصحافة ودورها لدى الجمهور الإسرائيلي، إذ يتوجب قراءة وفهم هذه الأرقام على ضوء توزيعها واستهلاكها نسبة للشريحة التي تخاطبها، ولتوضيح ذلك يتوجب مقاربة الموضوع حسابياً، فحسب المعطيات الرسمية المنشورة في الكيان الإسرائيلي، فان التعداد السكاني الكلي في الكيان يصل إلى 6.750.000 نسمة، من بينهم 1.300.000 من فلسطينيي العام 1948، و 700.000 يهودي حريدي -لا يقرأون أساساً الصحف العلمانية لدوافع دينية- إضافة إلى ما يقرب من 500.000 من دول الاتحاد السوفياتي السابق -من مجمل عدد مهاجري الموجة الأخيرة للهجرة- يعرفون قليلاً من العبرية قراءة أو لا يعرفونها إطلاقاً..، مما يجعل الشرائح المستهدفة والمستهلكة للصحافة الإسرائيلية العبرية تنحصر بتعداد سكاني لا يزيد عن 4.500.000 نسمة، ومع الأخذ بعين الاعتبار أن متوسط أفراد العائلة في الكيان هي 2.9 بالمائة، فإن النتيجة تفيد أن كل بيت تقريباً -يهودي علماني عامة- يتم مخاطبته والتأثير فيه من قبل الصحافة المكتوبة، وفي ذلك دليل على أهمية ودور الصحافة في توجيه وصناعة الرأي العام فيه.
رابعا: الرقابة على وسائل الإعلام
تخضع وسائل الإعلام والإعلاميين في إسرائيل إلى مستويات عدة من الرقابة تتراوح بين الطوعي وبين الإكراهي، بين القانوني بين العرفي، بحيث يمكن القول أن تفعيل أنواع الرقابة هذه يجعل من الإعلام الإسرائيلي أسير قيود لا يمكن العثور على مثيل لها إلا في الأنظمة الشمولية والاستبدادية.
1- المستوى القانوني للرقابة
تعود جذور الرقابة على الإعلام إلى القوانين الاستعمارية الصادرة عن سلطة الانتداب البريطاني لفلسطين، وتحديداً أمر الصحافة للعام 1933، وأنظمة الدفاع لحالات الطوارئ وتعديلاته في العام 1945، وهي أنظمة شديدة القمعية والتشدد. وقد تبنت إسرائيل هذه القوانين واستخدمتها لمدة تناهز الـ 56 عاماً، بل أنها أضافت إليها صلاحيات أُعطيت لوزارة الداخلية تُمكِّنها من إغلاق الصحف بشكل استنسابي.
من الناحية القانونية السارية المفعول - القرارات البريطانية سابقاً-، تنص بشكل أساسي على:
- وجوب استصدار تصريح خاص من وزير الداخلية قبل إصدار أية مطبوعة - صحف، مجلات، كتب..- وذلك تحت طائلة المصادرة أو الإغلاق أو حتى عقوبات جزائية أخرى على أنواعها.
- صلاحية وزارة الداخلية في الإشراف على الإعلام، بحيث أن للوزارة صلاحية إغلاق الصحف إذا ما نُشر فيها مواد من شأنها أن تُعرِّض السلامة العامة للخطر.
ويشار هنا إلى وجوب تقديم كل مادة مطبوعة للحصول على موافقة مسبقة من الرقابة قبل النشر، إذ تنص المادة 87 من أنظمة الدفاع لحالات الطوارئ 1945، على أن للرقيب أن يمنع بأمر بشكل عام أو خاص، نشر مادة من شأن نشرها أن تضر -حسب رأيه- بأمن إسرائيل أو السلامة العامة أو النظام العام.. أما المادة التي تليها 88 فتنص على: أن من حق الرقيب أن يُحظِر بأمر، استيراد أو تصدير، للطباعة أو للنشر، أية منشورات من شأن استيرادها أو تصديرها، طبعها أو نشرها، كان أو قد يكون فيه ضرر بأمن إسرائيل أو السلامة العامة أو النظام العام.
2- الرقابة بالتراضي
في الواقع، فإنه على الرغم من الصلاحيات الواسعة الممنوحة للسلطات وفق القانون لممارسة الرقابة على وسائل الإعلام، إلا أن هذه السلطات كانت تتصرف على أساس تجنب اللجوء إلى هذه الصلاحيات تقديرا منها للتداعيات السلبية التي قد تنجم عن هذا الاستخدام.  وكانت تستعيض  عن الرقابة المحدَّدة في القانون، بالتوافق الذي بُلور قبل قيام الدولة بين الهاغاناه وصحافة الاستيطان اليهودي في فلسطين، والذي أعيدت صياغته بشكل اتفاق في العام 1949 بين الأركان العامة للجيش الإسرائيلي ولجنة محرري الصحف اليومية، وهو الاتفاق الذي تم تعديله في العام 1966 والعام 1989. ويتضمن هذا الاتفاق ثلاثة عشر بنداً أساسياً أهمها:
- التعاون التام ما بين أجهزة الجيش والصحف لمنع تسرُّب مواد أمنية من شأنها أن تفيد العدو أو أن تضر بحماية الدولة.
- عدم تطبيق الرقابة على القضايا السياسية، ويتم تحديد المواد التي تستدعي الرقابة المسبقة قبل النشر.
- تشكيل لجنة تتكوَّن من ممثل للجيش وممثل للصحافة وموظف رسمي تعينه الحكومة للإشراف على شؤون الرقابة كمرجع استئنافي لقرارات الرقيب العسكري.
- تختص اللجنة باقتراح العقوبات وبالتحكيم الملزم في الخلافات بين الصحف والرقيب العسكري خلال 24 ساعة.
- تشمل صلاحيات اللجنة كافة الصحف والمطبوعات الإعلامية ووسائل الإعلام المسموعة والمرئية والمراسلين الأجانب في إسرائيل.
- تتخلى الصحف بموجب الاتفاق عن اللجوء إلى القضاء العدلي بينما لا تطبق عليها القوانين الإسرائيلية .
3- الرقابة الذاتية للجنة المحررين
الرقابة الذاتية للجنة المحررين هي جهاز رقابة من نوع آخر، مصدره ليس القانون الإسرائيلي والاتفاقات المعقودة بين المؤسسة العسكرية الإسرائيلية والصحافة، بل مصدره الصحافة الإسرائيلية نفسها، المتمثلة بلجنة المحررين، التي تمثل رؤساء تحرير الصحافة المكتوبة في الكيان، وهي رقابة طوعية عن رضا، تتيح منع نشر معلومات ليس للرقابة العسكرية القدرة على منعها بحسب القانون والاتفاقات. وهي نشأت جراء عرف تمثل في خطوة بادر إليها  أول رئيس وزراء لحكومة الاحتلال، دافيد بن غوريون، عندما استدعى  لجنة المحررين وكشف أمامهم معلومات سرية، وأخذ منهم وعداً بعدم نشر هذه المعلومات، وقد تبنى هذا الأسلوب تقريباً كل رؤساء الحكومات الإسرائيلية لاحقاً، الأمر الذي كرس هذه الرقابة بشكل كبير جداً وما زال.
تكمن أهمية الرقابة الذاتية في أنها تعفي المؤسسة الحاكمة من تعليل المنع والمس بحرية المعلومات غير الأمنية في حال تعذر تفعيل الرقابة العسكرية. والذريعة المساقة لتبرير هكذا نوع من الرقابة التي تتجند فيها الصحافة لمراقبة نفسها، هي رغبة المحررين في المساهمة في الدفاع عن المصالح الرسمية الحيوية للدولة بحسب ما يتم توصيفها على لسان الوزراء أو الضباط رفيعي المستوى الذين يلتقونهم.
4- مواضيع الرقابة وآلية تفعيلها
بحسب الاتفاق المكتوب وتعديلاته، إضافة إلى الاتفاقات الضمنية، يتوجب على الإعلاميين، تحت طائلة الملاحقة اللاحقة للنشر، أن يعرضوا على الرقيب العسكري بشكل مسبق كل مادة إعلامية تُصنَّف بأنها أمنية أو أنها تتضمَّن معلومات ذات قيمة عسكرية قد تفيد العدو أو تضر بأمن الدولة. وتحقيقاً لذلك، تقوم الرقابة بإبلاغ الصحف والناشرين والإذاعات ومحطات البث التلفزيونية بلائحة المواد التي يتوجب تقديمها للرقيب سلفاً قبل النشر، وكل من يصله التبليغ يتحمل المسؤولية أمام الرقابة.  وللرقيب العسكري الحقّ بأن يلغي مقالاً، كلياً أو جزئياً، إذا ما رأى فيه ضرراً أمنياً محتملاً.
المواد المطلوب عرضها سلفاً على الرقيب العسكري تتسع وتضيق من حيث الكمية باختلاف الظرف الأمني والسياسي، فبينما كانت هذه المواد تبلغ قبل قيام دولة الاحتلال فترة الاستيطان 16 مادة، وصلت في العام 1966 إلى 68 مادة، بينما وصلت في العام 1993 إلى 10 مواد، ومعظمها يدخل في الإطار العام لمفهوم أمن الدولة الذي يستوعب تفريعات متعددة قد لا تحصى بحسب ما يرتأيه الرقيب العسكري ويرتأيه الاتجاه العام لدى السياسيين في الحكم، خاصة وان للحكومة القدرة على إدراج موضوع محدد أو أنواع جديدة تراها حيوية لأمن الدولة يتوجب عرضها على الرقابة المسبقة.
الأمثلة الأكثر وضوحاً لما يدخل في تصنيف أمن الدولة هي: ما يتعلق بالموضوع النووي صناعة وتواجداً وكمية.. ما يتعلق بالصفقات العسكرية وتفاصيلها.. ما يتعلق بالصناعات العسكرية ومكوناتها.. الوثائق والمباحثات السرية التي تتعلق بالسياسة الخارجية للدولة.. العمليات السرية التي تقوم بها الأجهزة الأمنية على اختلافها وأسماء المشاركين فيها.. المواقع العسكرية ومعلومات ذات قيمة عسكرية.. كل ما من شأنه تعريض السلامة العامة للخطر.. مداولات وقرارات المجلس الوزاري المصغر للنظر بشؤون أمنية.
ونتيجة لاعتماد بعض الإعلاميين على أساليب تملص من الرقابة، ابتدع الجيش الإسرائيلي أسلوباً جديداً يُمكِّنه من السيطرة على المعلومات الأمنية والعسكرية ومنع ما يراه غير مناسب للنشر، ويقضي الإجراء الجديد غير المنصوص عليه في قانون أو أنظمة، أن يستخدم الناطق العسكري سلطته في إعطاء تراخيص لإعلاميين بوصفهم مراسلين عسكريين، بحيث يمنع أو يعرقل عمل المراسل إذا لم يمتثل لقراراته.
القسم الثاني : نماذج وعينات من أداء الصحف الإسرائيلية
يهدف هذا القسم إلى تقديم أدلة حسية وملموسة عن طبيعة الأداء  الإعلامي في إسرائيل استنادا إلى أدلة وشواهد واقتباسات وتقارير تعود إلى مصادر عبرية وإلى كتاب أو مؤسسات أو صحفيين إسرائيليين.
الصحفيون الإسرائيليون يشوهون الحقائق
نشرت مجلة العين السابعة ( المتخصصة في متابعة شؤون إعلامية إسرائيلية) تحقيقا موسعا حول نظرة الصحفيين الإسرائيلية إلى مهنتهم وصحفهم. خلص هذا التقرير- الذي نورد هنا موجزا مقتضبا جدا عنه- إلى أن معظم الصحفيين الإسرائيليين يعتقدون أن وسائل الإعلام الإسرائيلية تشوه الحقائق، وتخضع لاعتبارات تجارية وتقوم بعمليات مساومة غير نزيهة. 
الناطق باسم الجيش الإسرائيلي يكذب
في تحقيق لها تحت عنوان مصداقية الناطق باسم الجيش الإسرائيلي، تطرقت الصحفية الإسرائيلية في صحيفة هآرتس ( ملحق هآرتس، 24-1-2003) ، سارة لايبوفيتش دار، إلى إسلوب الكذب الذي يمارسه الناطق باسم الجيش الإسرائيلي عند تقديمه رواية هذا الجيش للأحداث التي تقع، مستشهدة بشهادة العديد من الإعلاميين ممن هم على تماس مع الناطق باسم الجيش، وتقول ساره إن المرة تلو الأخرى، يقوم الناطق العسكري بإصدار بيانات ضبابية، غير دقيقة، وأحيانا تكون كاذبة تماما، ويغطي على فشل الجيش، وينقل إلى وسائل الإعلام روايات متضاربة وينفي وقوع صدامات عنيفة. وقد نقلت عن مراسل صحيفة صاندي تايمز البريطانية في إسرائيل، عوزي محنايمي، "إن مصداقية الناطق العسكري تساوي الصفر، بل انخفضت أكثر مما كانت عليه في السابق، ففي الماضي، أيضاً، لم تكن عالية. لا يمكنني أن أعرف ما إذا كان ما يُقدِّمونه لي هو حقيقة أم كذب".
أما المحلِّل العسكري  سابقا في صوت إسرائيل وفي التلفزيون -القناة الأولى- رون بن يشاي، فيقول "إن مصداقية بيانات الناطق العسكري محدّودة الضمان، لكن ذلك ليس بسبب كون الناطق العسكري كاذباً، بل لأنه يعتمد على التقارير الميدانية غير الموثوقة".
ويقول النائب والوزير السابق يوسي ساريد، عندما كان عضوا في لجنة الخارجية والأمن، والذي دخل في مواجهة مع الناطق العسكري في أعقاب التضليل: "أرغب جداً في تصديق الناطق العسكري، لكن ما يؤسف له هو أن مصداقية الناطق العسكري انحطّت في السنة الأخيرة، إلى حد أنني عندما اسمع بيانه اليوم، أقول لنفسي هذا صحيح أم غير صحيح ؟ عندما تتوفر معلومات أخرى، أو عندما لا يتساوق الأمر والمنطق السليم، أنا لا أُصدِّقه. لقد سخِرنا في الماضي من التقارير المصريّة، لكننا أصبحنا اليوم نُقدِّم مثل تلك التقارير".
 صحافة تحت التأثير
الباحث في الشؤون الإعلامية، دانئيل أور، أعد كتابا حول الدور الذي لعبته الصحف الإسرائيلية وأدائها خلال انتفاضة الأقصى، لا سيما الأسابيع الأولى منها. ولهذه الغاية قام بعملية بحث وتقص ومقارنة وتتبع، للتسليط الضوء على دور الصحف الإسرائيلية وتجندها لصالح سياسة المؤسسة الحاكمة. وقد حفل الكتاب بالكثير من الحقائق المروعة التي لا مجال لذكرها الآن، وسنكتفي بذكر أهم الاستنتاجات التي توصل اليها أور في كتابه.
بحسب أور فإنه طيلة الأسابيع الثلاثة الأولى، الحاسمة للانتفاضة، قدمت الصحف لقرائها صورة عالم إخبارية أحادية البعد، جزئية، مراقبة، وأحياناً متحمسة، وفي كل الأحوال غير متوازنة أصلاً – صورة عالم تماشت مع الأهداف الإعلامية لرئيس الحكومة آنذاك – ايهود باراك-، ولكنها كانت على تناقض فظ ليس فقط مع الحقائق مثلما هي، بل أيضاً مع التقارير الوقائعية التي أرسلها المراسلون الميدانيون لتلك الصحف نفسها الى هيئات التحرير.
هذه حقيقة، بحسب أور، أكثر أهمية ورمزية لأنها تثبت بأن صورة العالم المنعكسة من صفحات الأخبار الأولى للصحف ليست نتيجة لكشف جزئي لحقائق مثلما نشأت على الأرض – إنما هي نتيجة لسياسة تحرير : فالصحف أزاحت بشكل منهجي عناصر ومكونات واقع معينة، وأبرزت أخرى، ويضيف أور أن صورة الصحف الإسرائيلية، هي صورة (صحافة تحت التأثير) صحافة تعمل تحت تأثير الخوف، تأثير الغضب وتأثير الكراهية، وتأثير الجهل وقبل كل شيء تحت تأثير منظومة الترويج المكثف الذي مارسه طيلة الشهر كله، وأيضاً بعد ذلك، رئيس الحكومة ايهود باراك ورجالات المؤسسة الأمنية. فتحت التأثير المتداخل لكل هذه العناصر، قدمت الصحافة الإسرائيلية لقرائها، بحسب أور، صورة إخبارية أحادية البعد، مشوهة، مضللة لمسار الأحداث – صورة مع أنها تماشت مع الأهداف الدعائية لباراك وعادت وغذت مشاعر الضغط الجماعية لجمهور القراء– إلا أنها، عكست وجه الأمور في الواقع فقط بطريقة ركيكة جداً وواهنة. "ووفقاً لهذه الصورة فقد سار باراك باتجاه الفلسطينيين أبعد مما سار أي زعيم إسرائيلي من قبله، بينما رد عرفات على يدنا الممدودة للسلام بالحجارة والطلقات من بنادق شرطته – البنادق التي أعطيناه إياها في إطار اتفاقات أوسلو-. لقد تصرف الفلسطينيون تجاهنا بعنف دون كوابح، عنف حيواني وحشي، رهيب، غير قابل للتقدير، بينما نحن تصرفنا تجاه هذا الوصف الفلسطيني بضبط للنفس، وبلطف، وثمة من يقول بلطف زائد عن اللزوم، وهم هاجموا بوحشية ورددنا نحن باعتدال. هم عربدوا - ونحن ضبطنا النفس. وفقاً لهذه الصورة، فإن الشبان الفلسطينيين الذين قتلوا خلال تلك الأيام البغيضة من شهر تشرين تم إرسالهم إلى حتفهم من قبل أهاليهم – مثلهم مثل الضحايا التي قدمها الشعب الفلسطيني على مذبح العنف الإجرامي الذي يشل كل عاطفة بشرية لمحبة الأم والأب ومع أهل كهؤلاء الذين يرسلون أولادهم الى حتفهم فمن غير الممكن فعل سلام، ووفقاً لهذه الصورة، لم يكن هناك شيء في أفعال إسرائيل ساهم ولو قليلاً في التدهور العنيف . لا الإدارة المتعجرفة، المرتبكة لايهود باراك، ولا محاولته المتعالية بأن يفرض على الفلسطينيين اتفاقاً لإنهاء النزاع دون مفاوضات حقيقية، ولا تحالف الصداقة الذي نسج على رؤوس الأشهاد بين باراك وبين شارون الذي صعد إلى الحرم، ولا الاستخدام غير المعقول للقوة من قوات الأمن، والإطلاق الكثيف للطلقات المعدنية المغطاة بالمطاط، نار حية، صواريخ وقذائف قتلت – خلال تشرين أول فقط – أكثر من 130 فلسطينياً و 13 عربياً إسرائيلياً"
ويقول أور بأن إسرائيل أدارت ولا زالت تدير حرباً دعائية ضد الفلسطينيين – حرباً ترويجية لعبت فيها الصحافة الإسرائيلية دوراً رئيسياً فيها بين قرائها .
 التغطية الاعلامية الإسرائيلية للقتلى الفلسطينيين
أظهر تقرير أجراه مركز حماية الديمقراطية في دولة الاحتلال " كيشف" ونشر نتائجه في شهر آذار 2006، والذي غطى جميع أعداد الصحف الكبرى، ونشرات الأخبار المركزية في القنوات التلفزيونية الثلاث خلال شهر كانون الأول من العام 2005، أنماطا إشكالية في تغطية الأخبار، تمثلت في أن وسائل الإعلام الإسرائيلية تولي أهمية قليلة للأحداث التي يُقتل فيها فلسطينيون بنيران الجيش الإسرائيلي، وأن كثيراً من هذه الوسائل الإعلامية لا تشير إلى الخبر مطلقا. كما أظهر التقرير أيضا أن رواية الجيش الإسرائيلي للأحداث تشكل الأساس الحصري لمعظم التقارير، وأنه لا يوجد تقريبا أي نقاش نقدي لهذه الأحداث التي تؤدي إلى مقتل الفلسطينيين. وفي تقرير آخر للمركز نفسه نُشر في آذار 2005، تساءل معدو التقرير: "دم من يساوي أكثر- دم المواطنين الفلسطينيين أم دم الكلب اليهودي". هذا السؤال على فظاعته، يعكس حقيقة مروعة. ففي الوقائع، أشار معدو التقرير إلى أنه خلال شهر شباط 2005، قُتل ستة مدنيين فلسطينيين على يد قوات الأمن الإسرائيلية، من بينهم طفلين قاصرين، وأُصيب العشرات. لكن أي من الأحداث التي قُتل فيها المدنيون الفلسطينيون لم يحظ بتغطية خبرية واسعة ومنفعلة كتلك التي رافقت مقتل الكلب " أركوس" الذي قُتل أثناء ملاحقة أحد المطلوبين الفلسطينيين. ويضيف معدو التقرير أن قراء الصحف الإسرائيلية علموا بالمس بالفلسطينيين عند قراءتهم الصفحات الداخلية للصحف أو على هامش النشرات الاخبارية. ويخلص معدو التقرير إلى أن صورة الوضع التي تُستخرج من هذا الواقع هي أن دم الكلب اليهودي أغلى من دم الفلسطينيين بالنسبة لقسم من وسائل الإعلام الرئيسية في إسرائيل.
 وفي السياق نفسه، أشارت صحيفة يديعوت أحرونوت في الأسابيع الثلاثة الأولى من انتفاضة الأقصى، إلى مقتل خمسة فلسطينيين فقط من أصل 76 قتيلاً فلسطينيا.ً وفي 1/11 2000 نشرت الصحيفة جدول إجمالي لمعطيات الشهر الأول للانتفاضة تحت مانشيت: شهر على الإنتفاضة: الإجمال بالأرقام. والمعطيات التي تظهر في الجدول هي نحو 600 حادثة إطلاق نار، 1397 زجاجة حارقة، 26 عبوة ناسفة، 184 جريحاً إسرائيلياً، 12 قتيلاً إسرائيلياً،  ولكن الـ 130 قتيلاً فلسطينياً وآلاف الجرحى لا تظهر في الجدول، وتحت الجدول تظهر كتابة بأحرف صغيرة : معطيات – قيادة المنطقة الوسطى في الجيش الإسرائيلي.
 صحافة يهودية أم إسرائيلية؟
طُرح هذا السؤال عنوانا للدراسة التي أعدها مركز حماية الديمقراطية في دولة الاحتلال في معرض تتبعه لطريقة تعامل الصحف الإسرائيلية مع المواجهات التي دارت بين فلسطينيي 48 وبين قوات الأمن الإسرائيلية في تشرين الأول 2000 والتي أدت إلى استشهاد 13 فلسطينيا، يُفترض أنهم "مواطنون إسرائيليون". وأهمية هذه الدراسة لا تنبع من كشفها لطريقة تعامل الصحف الإسرائيلية مع هذه الأحداث فحسب، بل من كونها تُظهر أنه الصحف الإسرائيلية لا تلتزم الحياد ليس فقط في الصراع الدائر بين أجهزة الدولة وبين "الأعداء"، بل أنها لا تفعل ذلك حتى عندما يتعلق الأمر بـ "مواطنين في الدولة" خارج الإجماع اليهودي. وخلص التقرير المطول الذي نٌشرت معطياته وخلاصاته في آذار 2001، إلى النتيجة التالية:
أدت وسائل الإعلام العبرية دورها في هذه المواجهة كممثلة للأغلبية اليهودية وليس كممثلة لكل مواطني الدولة، اليهود والعرب على حد سواء. كما ساهمت وسائل الإعلام هذه في تأجيج الغرائز، زيادة مشاعر الخوف والخطر الوجودي على دولة الاحتلال من مواطنيها العرب، ناهيك عن خلق هذا الشعور، وعملت هذه الوسائل أيضا على إلقاء المسؤولية عما حصل على المواطنين العرب حصرا، ويرد واضعو التقرير هذا السلوك والدور الإعلامي للصحف العبرية إلى جملة من الأسباب أهمها: الأكثرية الحاسمة لأصحاب القرار في الصحف العبرية ( مراسلين ومحررين) هم من اليهود، الرأي العام المستهدف من قبل هذه الصحف هو الرأي العام اليهودي. مصدر المعلومات التي تنشرها هذه الصحف تستند إلى المؤسسة الأمنية فقط. ولذلك، تعاملت الصحف العبرية مع "المواطنين العرب" على أنهم " خصم مر" بحسب تعبير واضعو التقرير، الذين أضافوا أن الصحف العبرية يصنعها يهود، وهو موجهة إلى الجمهور اليهودي، وبناء لذلك، تميل لتبني وجهة النظر اليهودية على مستوى التغطية والتحليل، وفي نظر وسائل الإعلام، فإن وجهة النظر الإسرائيلية هي وجهة النظر اليهودية.
 وبحسب التقرير، عملت وسائل الإعلام العبرية في خدمة السلطة وتبنت فرضياتها من دون تشكيك. كما أن أداء الصحف العبرية المعيب ووقوفها إلى جانب المؤسسة الأمنية ضد العرب، ساهم في خلق أجواء يتم فيها التسليم نسبيا بقتل " المواطنين العرب".
خلاصة
يظهر لنا مما أشرنا إليه أن الصحف الإسرائيلية لا تلتزم الحياد ولا الموضوعية في كل ما يتعلق بقضايا الصراع العربي-الإسرائيلي، وبموارد الإجماع اليهودي. فهي من جهة مقيدة في نشاطها بمجموعة من القيود والضوابط القانونية والعقابية التي من شأنها عرقلة وإعاقة أي نشاط إعلامي مهني، حر وموضوعي؛ ومن جهة ثانية، تقيد وتلزم نفسها بمجموعة محددات وضوابط طوعية لها علاقة بالإجماع اليهودي وبالمصالح العليا للدولة اليهودية. وهي كما ظهر لنا، تشوّه الحقائق، وتهمش القضايا التي تمس غير اليهود حتى وإن كانوا مواطنين في الدولة، تعمل في خدمة السلطة ومؤسساتها وتلتزم أجندتها والتسويق لها، وهي تستند في مصادرها على جهات رسمية يُعتبر الكذب خبزها اليومي، كما هو حال الناطق باسم الجيش الإسرائيلي. وهنا لا بد من الإشارة إلى أن الأمثلة التي وردت في هذه الورقة هي غيض من فيض، وهي عينة نموذجية تعكس حقيقة تعاطي الإعلام الإسرائيلي مع القضايا ذات الصلة بالمواجهة مع الفلسطينيين بشكل خاص.
والسؤال الذي يمكن طرحه هنا، أين هو موقع القدس من هذا الإعلام؟ بعد العرض الذي قدمناه، بات من السهل تقديم صورة حقيقية عن تعاطي الإعلام الإسرائيلي مع قضية القدس. وفي هذا المجال، غني عن القول إن القدس تتميز بميزة تجعل منها حاضرة في كل مستوى من المستويات التي لا تتردد الصحف الإسرائيلية في التعامل معه من منطلق أنها طرف ومعنية به وليس من منطلق الحياد والمهنية، ذلك أن القدس تقع في صميم الصراع السياسي والديني والقومي والوجداني والرمزي الدائر بيننا وبين إسرائيل، وهي بهذا المعنى مصداقا أولا ورئيسيا للدور الذي تلعبه الصحف الإسرائيلية والذي تتجند له خدمة لمصالح الدولة اليهودية، والأمن اليهودي، والإجماع اليهودي، الديني والسياسي. وبالتالي، يمكن إسقاط طبيعة الدور الذي لعبته الصحف الإسرائيلية في الأمثلة المشار إليها أعلاه، على قضية القدس وكيفية تعاطي الإعلام الإسرائيلي معها. وهذا ما نلاحظه في العديد من القضايا المحددة في القدس، مثل مسألة الجدار الفاصل، تقسيم المدينة وتهويدها، مصادرة الأراضي، هدم البيوت، عبرنة الأماكن، تقييد حركة المصلين في الحرم القدسي، سوء الخدمات المقدمة إلى المقدسيين، التضييق على المقدسيين وسن القوانين الظالمة الكفيلة بطردهم من المدينة، وغيرها من المسائل الأُخرى التي تبدو مهمشة جدا في وسائل الإعلام الإسرائيلية، عكس ما هو الحال عليه بالنسبة للقضايا ذات الصلة باليهود.
وفي هذا المجال لا يمكن أبدا الفصل بين المكانة التي تحتلها القدس في وجدان ووعي الصحفيين الإسرائيليين وبين كيفية تعاطي هؤلاء مع قضايا القدس. فعلى سبيل المثال الحصر، كتب مراسل صحيفة هآرتس لشؤون القدس، نداف شرغاي، مقالا في ذكرى مرور  39 عاما على احتلال شرقي القدس، جاء فيه أن " حبل خلاص الصهيونية الذي يبحث عنه الجميع مدفون في المكان الذي اشتق منه اسم الحركة اليهودية القومية-صهيون- التي في القدس... فالقدس بمقدساتها كانت على امتداد الأجيال عنصرا مركزيا في بلورة الهوية اليهودية. قداسة المدينة ومكانتها الاعتبارية مدار الحديث في كل عيد وصلاة وطقوس دينية يهودية في كل مكان على المعمورة. كانت القدس خلاصة الذاكرة اليهودية التي ارتكز عليها الحاضر والمستقبل..."إذا كانت هذه هي مكانة القدس في وعي ووجدان مراسل الصحيفة الأكثر "ليبرالية" في إسرائيل، يمكننا عندها أن نتخيل كيف ستكون طبيعة التعاطي الإعلامي الإسرائيلي مع القدس وقضاياها.
المصادر
مصادر عبرية:
-هآرتس.
-معاريف.
- يديعوت أحرونوت.
-هتسوفيه.
- مجلة العين السابعة الصادرة عن المعهد الإسرائيلي للديمقراطية. 
- مجلة كيشر الصادرة عن مركز دراسات الصحافة اليهودية التابع لجامعة تل ابيب.
- مركز حماية الديمقراطية في إسرائيل " كيشف".
- دانئيل أور. صحافة تحت التأثير. تل ابيب 2001.
- الديمقراطية والأمن القومي. بنيامين نويبرغر. الجامعة المفتوحة، القدس 1996.
- موقع وزارة الخارجية على الانترنت
www.mfa.gov.il
- المركز الوطني للاحصاء.
مصادر عربية:
-إسرائيل، دليل عام، أمل جمال، الصحافة والإعلام، مؤسسة الدراسات الفلسطينية 2004.
-يحيى دبوق، الرقابة على الإعلام الإسرائيلي، مجلة شؤون الأوسط.

2010-06-25 09:13:31 | 2065 قراءة

التعليقات

الإسم
البريد الإلكتروني
عنوان التعليق
التعليق
رمز التأكيد
مركز باحث للدراسات الفلسطينية والاستراتيجية