التصنيفات » قراءة في كتاب

جدَل تفسيرات الحروب.. استجابات غريزيّة أم خيارات بشريّة؟

جدَل تفسيرات الحروب.. استجابات غريزيّة أم خيارات بشريّة؟


ريتشارد أوفري

17 يونيو، 2025

عرض: منى أسامة

بالرغم من مبادرات إرساء السلام وتعزيز سُبُل التعاون في العالم منذ فجر التاريخ؛ فإن الحروب والصراعات ظلّت جزءاً لا يتجزّأ من التجربة البشرية؛ وهو ما يعكس رغبة الإنسان في السيطرة، والحصول على المَوارد، وتحقيق الهيمنة على الآخرين، في عالم مليء بالأحداث والاستقطاب والتحدّيات الكبرى. وفي هذا السياق، يُعَدّ استمرار الحروب عبر الزمن ظاهرة مُعَقّدة تحتاج إلى إعادة نظر؛ حيث لا تقتصر على مجرّد تحليل حَدَثٍ ما باعتباره شرارة القتال؛ بل من الضروري بحث العوامل المُتشابكة؛ من العوامل الاجتماعية، والاقتصادية، والسياسية، والنفسية، وتفاعلها، لتُصبِح الصورة كاملة. 

وفي هذا الإطار، يُقَدّم المؤرّخ البريطاني ريتشارد أوفري، في كتابه Why War?))، تحليلاً شاملاً للأسباب والدوافع الكامنة وراء النزاعات المُسَلّحة، بدءاً باستعراض النظريات السائدة حول أصول العنف المُنَظّم، مروراً بعِلمي الآثار والبيولوجيا ومجالات معرفيّة أخرى، وصولاً إلى مُراجعة الأدبيّات ذات الصلة، من أجل تقديم رؤية أكثر عمقاً وشمولاً، لفَهم الدوافع التي جعلت الحرب ظاهرة مستمرّة عبر العصور؛ إذ يَنفي أوفري فكرة تراجع الحرب لمُجَرّد أنه حتى الآن لم تندلع حرب عالمية ثالثة بعد الحربين العالميتين الأولى والثانية، مُشيراً إلى أن هناك تزايداً ملحوظاً ومستمراً في الحروب الأقلّ نطاقاً، بما في ذلك، حرب أوكرانيا، أو الحروب الداخلية، كالسودان.         

دوافع غريزية كامنة: 

يُشير المؤلّف إلى أنه في عام 1932، كَلّف المعهد الدولي للتعاون الفكري، التابع لعصبة الأمم، عالم الفيزياء ألبرت أينشتاين، باختيار موضوع وشخص يُعاونه، فاختار رائد عِلم النفس سيغموند فرويد، وموضوع الأسباب المؤدّية للحرب وكيفيّة إيجاد وسيلة لإنقاذ البشرية من خَطَر هذه الحرب. ونشَر كُتَيّباً في العام التالي بعنوان "لماذا الحرب؟"؛ ونقَل استنتاج فرويد بأن العنف سِمَة مُمَيّزة للمملكة الحيوانية بأكملها، بما في ذلك البشر؛ حيث تنبع رغبتهم في القتال والتدمير من "غريزة الموت" الموجودة في كلّ كائن حي؛ وهو ما يجعل الخلاص من الحروب مُستحيلاً لدى فرويد. وقد أيّدت الحرب العالمية الثانية 1939-1945 هذا الافتراض، بحسب المؤلّف. 

وعلى الجانب الآخر رأى أينشتاين أن الاعتقاد في الطبيعة العنيفة للبشر سيجعل من الحرب أمراً حتمياً لا يُمكن تَجَنّبه؛ ولذلك لا بدّ من افتراض أن الحرب نتيجة خيار سياسي أو تطوّر اجتماعي، حتى يُمكن إيجاد حلول للقضاء عليها.

يرفض ريتشارد أوفري بشكل قاطع رؤية فرويد التي تعتبر العنف صفة فطريّة للبشر؛ إذ يرى أن نشوء الحرب يرتبط بتفاعل مُعَقّد بين عوامل طبيعية واجتماعية واقتصادية وغيرها. كما يرفض أيضاً نظرية "السلميّة البدائيّة" التي طرَحها الأنثروبولوجي برونيسلاف مالينوفسكي في عام 1940، والتي تَدّعي أن الشعوب القديمة كانت نادراً ما تلجَأ إلى العنف المُميت، وتُفَضّل استخدام أساليب المواجهة غير المُميتة.

 وعلى خلاف ذلك، يُشير أوفري إلى أدلّة أثَريّة تُظهر انتشار العنف المُميت على نطاق حربيّ في العصر الحجَري الحديث؛ أي قبل ظهور أوّل مدينة. فعلى سبيل المثال، فَسّر عالم الأنثروبولوجيا كيث أوتيربين عظاماً مُتَحَجّرة لأشباه البشر تعود إلى 800 ألف عام، ووُجِدت في كهف بالقرب من بورغوس في شمال إسبانيا، على أنها أقدم دليل على الصراع المُسَلّح. وفي هذا السياق، يستشهد أوفري بمقولة عالم الأنثروبولوجيا بيير كلاستر: "المجتمع البدائي.. هو مجتمع حرب".

العنف في عِلم الأحياء: 

يُشير أوفري إلى ملاحظات عالِم الأحياء تشارلز داروين وأتباعه بشأن التداعيات الحربيّة الحتميّة؛ إذ يرى أن داروين نفسه لم يكن مُهتَماً بالتداعيات الجدليّة لكتاب "أصل الإنسان"، مُكتَفياً بالإشارة إلى أن القبائل قد تُباد على يد أخرى. لكن الداروينيين العسكريين الذين أصبحوا جماعةً صاخبةً في أواخر العصر الفيكتوري (الذي استمرّ حتى عام 1945) رأوا ميزةً كبيرةً في التسريع غير الطبيعي للانتقاء الطبيعي في الحرب. ومن الغريب أن هذه الفكرة نجَت حتى من الحرب العالمية الأولى، حيث كان غير المؤهّلين بدنياً، ممّن لا يُمكن إرسالهم للقتال، هم الأكثر تأهيلاً للبقاء على قَيْد الحياة.

وفي سياق عِلم الأحياء، يُشير أوفري إلى الدراسات التي أُجريت على الحيوانات البريّة بعد الحرب العالمية الثانية، والتي حَظِيت باهتمام واسع؛ نَظَراً لأنها كشفت عن مستويات مُرتفعة من العنف بين كائنات تنتمي لنفس النوع البيولوجي، على خلاف النماذج الداروينية البدائيّة التي تفترض ضمنياً حدوث العنف والنزاعات بين الأنواع البيولوجية المختلفة. ومع ذلك، توقّفت محاولات تطبيق نتائج تلك الدراسات على السلوك البشري بشكل حاد، بسبب ما يُعرَف بالصوابيّة السياسية؛ وهو وصفٌ يُستَخدَم بالأساس للإشارة إلى الإجراءات الهادفة إلى تجنّب الإساءة أو الحرمان ضدّ أفراد أو مجموعات معيّنة في المجتمع. 

فعلى سبيل المثال، لم يتمكّن عالِم الأحياء الأمريكي إدوارد ويلسون، في عام 1978، من تطبيق أدلّته الحَشَريّة حول سمات البقاء الموروثة على البشر؛ نتيجة مُعارضة جهات، مثل "اللجنة الدولية لمُناهضة العنصرية". ومع ذلك، فازَ كتاب ويلسون، تحت عنوان "عن الطبيعة البشرية"، بجائزة بوليتزر في العام التالي؛ والجدير بالذكر أن الكتاب يفترض في جوهره الطبيعة العدوانيّة للبشر.

وتَعترض جين غودال، العالِمة المتخصّصة في السلوك والأنثروبولوجيا، على التوقّعات المُتفائلة التي تفترض سلوكاً غير عدواني بين الرئيسيات (رتبة داخل الثدييات مثل القرود). فقد كشفت أبحاثها عن أن الشمبانزي يتمتّع بهويّات جنسيّة مُحَدّدة وصفات بشرية أخرى، من بينها قدرة واضحة على مُمارسة العنف المُخَطّط له؛ حيث لاحظت استراتيجيّات كمائن خفيّة يُنَفّذها الشمبانزي لقَتل أقرانه. وقد قوبلت هذه النتيجة برفض شديد، بالرغم من رصد سلوكيّات مُماثلة بين بعض الصيّادين وجامعي الثمار، من البشَر النّاجين في جزر أندامان وأعالي الأمازون؛ فضلاً عن الأدلّة الأثريّة التي تدعم تلك المُلاحظات.

ممّا سبق، يتّضح أن المنظور البيولوجي الذي يُقَدّمه أوفري يؤكّد أن العنف البشري متأصّل، تماماً كما هو الحال لدى جميع الرئيسيّات. ومع ذلك، يُشير أوفري إلى أن البشر، بفضل أدمغتهم الأكثر تطوّراً، يمتلكون خيارات أوسع من مجرّد القتال أو الفرار؛ ممّا يتيح لهم إمكانية التكيّف واتخاذ قرارات أكثر تعقيداً، تَتجاوز الاستجابات الغريزيّة للعنف. 

ويرى المؤلّف أن الأسلحة تحتل جزءاً كبيراً من المُكتشفات الأثريّة عبر التاريخ، سواء أكانت الأسلحة اليدويّة أم المَقذوفات، كالرّماح، والأقواس والسهام، والتي بدأت عادةً بأسلحة خشبيّة، ثم أسلحة نحاسيّة، ثم برونزيّة، وصولاً إلى الأسلحة الحديديّة. وبناءً على تطوّر صناعة الأسلحة تاريخياً، تمّ اكتشاف نخب المُحاربين القدامى، لا سيما إذا ما دُفِنوا إلى جوار أسلحتهم. وبمجرّد اكتشافهم، ظهَر سبب آخر مُحتمَل للحرب، كإلقاء اللوم على من يُقاتلونهم، أو على الأقل، على من يَقودهم. 

عوامل مُحَفّزة: 

إلى جانب تفسير النظريات لدوافع الحرب وطبيعة النفس البشرية، استعرَض المؤلّف أدبيّات ذات صلة؛ واستخلص عوامل أخرى مُحَفّزة للحرب، يمكن تلخيصها على النحو التالي: 

- الصراع على الموارد الاقتصادية: يُعَدّ الصراع على الموارد أحد أبرز الدوافع التي شكّلت الحروب بين البشر عبر التاريخ. في هذا الإطار، يَستشهد أوفري بحرب تشاكو (1932-1935) بين بوليفيا وباراغواي، والتي اندلعَت بسبب اعتقاد خاطئ بوجود احتياطيّات نفطيّة غنيّة في المنطقة المتنازع عليها.

- صراعات ذات دوافع دينيّة: يشير أوفري إلى أن العديد من الحروب اندلعَت بدافع ديني، حتى وإن تداخلت معها دوافع ماديّة. ومن أبرز الأمثلة على ذلك، الحروب الصليبية، التي كانت تحمل طابعاً دينياً، لكنها ترافقت مع مصالح ماديّة وسياسيّة؛ وكذلك طقوس تقديم القَرابين البشريّة عند الأزتيك (مجموعات عِرقيّة كانت تسكن وسط المكسيك)، حيث كان المُحاربون يتناولون أجساد الضحايا بعد تقديمها كقرابين. أما فيما يتعلق بالإسلام، فيُشير أوفري إلى أن القتال كان جزءاً من تشريعاته منذ البداية، مُستَعرضاً تاريخ أفكار "إحياء الجهاد"، بدءاً من سيّد قطب وجماعة الإخوان المسلمين في خمسينيّات القرن الماضي، وصولاً إلى عبدالله عزّام، الذي اعتبر الجهاد الفردي مَشروعاً في جميع أنحاء العالم الإسلامي. كما يُسَلّط الضوء على الجماعات "التكفيريّة"، مثل داعش، التي ركّزت بشكل خاص على مُهاجمة المسلمين؛ بسبب ما تعتبره تقصيراً في الالتزام بتعاليم الإسلام.

- صراعات ذات دوافع توسعيّة: يرى أوفري أن الطموحات التوسعيّة كانت دافعاً أساسياً للحروب عبر التاريخ، مُشيراً إلى شخصيات تاريخية مثل الإسكندر الأكبر، ونابليون بونابرت، وأدولف هتلر؛ إضافة إلى الحروب التوسعيّة التي خاضتها الجمهورية الرومانية. ويعتقد أوفري أن التبريرات التي قَدّمها هؤلاء القادة لحروبهم لم تَتوافق مع احتياجات دولهم بشكل دقيق؛ فمَثَلاً، بعدما هَزم الإسكندر الأكبر الإمبراطورية الفارسية التي كانت تُهَدّد اليونان، لم يكن هناك مُبَرّر لمُواصلة التوسّع إلى مناطق مثل هرات في أفغانستان. وبالمثل، استخدم نابليون ذريعة جيواقتصادية لمُهاجمة قيصر روسيا ألكسندر الأوّل عام 1812، مُدّعياً أن روسيا أعادت فتح موانئها أمام التجارة البريطانية. أما هتلر، فعلى الرغم من تبريره لغزو الاتحاد السوفييتي عام 1941 بالحاجة إلى المَوارد؛ فإن ألمانيا كانت تتلَقّى الموارد السوفييتية بسهولة دون الحاجة إلى الحرب. وقد تَسَبّب هذا الطموح التوسّعي المُبالَغ فيه في التدهور والهزيمة لكلّ هؤلاء القادة.

- صراعات ذات دوافع أمنيّة: يُعَدّ هذا الدافع، وفقاً لأوفري، المُحَرّك الأساسي وراء العديد من الصراعات، حيث تسعى الدول والجماعات إلى حماية نفسها من التهديدات المُحتمَلة. ويرى أن الأمن كان دائماً محوراً رئيسياً في الاستراتيجيات الدبلوماسية والمُقاربات الأكاديمية، التي تهدف إلى تَجنّب الحروب عبر مُعالجة أسباب انعدام الاستقرار وإيجاد حلول وقائيّة.

ختاماً، يستعرض ريتشارد أوفري في كتابه العوامل الكامنة وراء اندلاع الحروب، مُحَلّلاً النظريات البيولوجية والأنثروبولوجية والتاريخية التي تناولت العنف البشري. ويرفض فرضيّة أن العنف صفة فطريّة، مؤكّداً أن الحروب تنشأ نتيجة تفاعل مُعَقّد بين العوامل الطبيعية والاجتماعية والاقتصادية. ويرى أن دوافع الحرب غالباً ما تتمثّل في الصراع على الموارد، أو المُعتقدات الدينية، أو الطموحات التوسعيّة، أو الهواجس الأمنيّة التي تدفع الدول والجماعات إلى الصراع لحماية مصالحها. 

ويؤكّد أيضاً أهميّة مُعالجة أسباب عدم الاستقرار كوسيلة لمنع الحروب، مُشيراً إلى أن البشر، رغم نزعتهم للعنف، يمتلكون القدرة على تبنّي حلول سلميّة بفضل عقولهم المُتَطوّرة. وفي النهاية، يَخلص أوفري إلى أنه لا توجد نظرية واحدة تُفَسّر الحرب؛ بل إن الافتراض الوحيد المؤكّد هو أن البشريّة لن تشهد عالَماً خالياً من الحروب في المستقبل القريب.

 

المصدر:

Richard Overy. Why War? (W. W. Norton & Company, 2024).

 

2025-06-18 13:27:38 | 53 قراءة

مركز باحث للدراسات الفلسطينية والاستراتيجية