قراءة في كتاب
محور المقاومة
نحو شَرق أوسَط مُستقل
-تأليف: تيم أندرسون.
-نشر: دار المَحَجّة البيضاء.
-الطبعة الأولى: 2020.
كشف العدوان الإسرائيلي- الأمريكي الأخير على إيران مدى أهميّة موقع هذا البلد الاستراتيجي وأدواره المؤثّرة في إسقاط وإفشال المشاريع الأمريكية- الإسرائيلية التآمرية لإنشاء شرق أوسط جديد، يكون خاضعاً بالمُطلق للولايات المتحدة وربيبتها الإرهابية، "إسرائيل"؛ في حين سَعت الجمهورية الإسلامية الإيرانية - وتَسعى - في إطار محور المقاومة، لإنشاء شرق أوسط مُستقل عن الهَيمنة الأمريكية - الصهيونية تماماً.
مؤلّف هذا الكتاب هو من الباحثين الأجانب القلائل الذين أقَرّوا ورَوّجوا لمُصطلَح أو مفهوم محور المقاومة في غرب آسيا على الصعيد الدولي، وخاصة في أوساط النّخب الأجنبيّة المُسَيّسة، خلال السنوات الأخيرة.
بداية، يَلفت المؤلّف (الأسترالي الجنسيّة) ضمن شَرحه لرؤيته حول محور المقاومة و"الشرق الأوسط الجديد"، أنه في سلسلة حروب القرن الحادي والعشرين في غرب آسيا، والتي شَنّتها واشنطن باسم "الشرق الأوسط الكبير"، كانت اليَد العليا هي لقوى المقاومة في المنطقة. وكما كان الحال مع جميع المُناورات التي سَبقتها، كانت الخطّة تقوم على إخضاع المنطقة بأكملها - هذه المرّة باسم "الحُريّة" التي تقودها واشنطن - لتأمين امتياز الوصول والسيطرة على مَوارد المنطقة الهائلة، ومن ثمّ إمْلاء شروط وصول اللاعبين الآخرين لتلك المَوارد. وتحت ذرائع مختلفة، تمّ غزو أفغانستان والعراق وتدمير ليبيا، حيث استفادت واشنطن من الدول العميلة لها لتقسيم وإضعاف الدول والشعوب المُستقلّة.
ومع ذلك، فإنّ محاولات "إسرائيل" لنَزع سلاح المقاومة اللبنانية قد باءت بالفشل؛ وبالنتيجة، أُخْمِد أوار الحروب التي شُنّت بالوكالة بدعمٍ من السعوديين والقَطَريين، في كلٍ من سوريا والعراق، وأثْبَت الحراك الشعبي في اليمن أنه لا يمكن هزيمته، فيما ظَلّت الجمهورية الإسلامية الإيرانية، التي تُشَكّل الشغل الشاغل للإمبريالية، قَويّة.
وفي السياق، يرى المؤلّف أن كتابه يُكْمِل الكتاب الصادر عنه عام 2016 (الحرب القَذِرة على سوريا)، حيث يبحث في نهاية الحرب على سوريا، ويُناقِش المُقَوّمات الأوسع للصراع الإقليمي. وكما كان الحال مع الكتاب المذكور، يَتطرّق هذا الكتاب إلى القصص المُلَفّقة التي تمّ اختلاقها لتأجيج الحروب المُتَعدّدة الوجوه والترويج للأكاذيب حول المقاومة؛ كما يُحاول دراسة بعض التاريخ التمهيدي عن الصراع. ويَلْفت إلى أنّ كتابه لم يُكتَب لأولئك المُلْتَزمين بالقصص الغربية المُخْتَلَقَة، بقَدْر ما هو مُوَجّه لتلك الشعوب الشريفة المُحِبّة للاطّلاع، التي تتعامل مع تلك الأساطير...
ويَحْدو المؤلّف الأمَل في أن يكون كتابه مُساهَمة ضمن مجموعة أوسع من دراسة الأحداث التاريخية والسرديّات المُستقلّة حول حروب القرن الحادي والعشرين التي تقودها الولايات المتحدة ضدّ شعوب الشرق الأوسط أو غرب آسيا. إنّ الكثير من تلك الدراسات التاريخية ضروري، في ضوء الدعاية الإعلامية التي تُرافِق كلّ صراع دموي؛ حيث إنّ عقْدين من العدوان الاستعماري الجديد ضدّ العرب والمسلمين في المنطقة أزْهَقا حَيَوات أكثر من مليوني شخص، وتَسَبّبا في تدمير الكثير من البنى الاجتماعية الأساسية؛ إذ إنّ المُعْتَدين لا يَرْتَدعون، وليس هناك من نهاية في الأفق.
في كتابه، يُشير المؤلّف إلى ثلاثة افتراضات رئيسة تكمن وراء المسارات التاريخية المُحَدّدة للصراع في المنطقة:
-أوّلًا: هناك حربٌ واحدة-استعمارية أساساً- في الشرق الأوسط أو منطقة غرب آسيا. إذ تُغَذّي هذه الحرب الهجينة hybrid)) كلّ صراع على حِدَة، من ليبيا إلى أفغانستان؛ وتَتّصف بعدد من الخصائص: الهَجَمات الدعائيّة التي تُرَوّج للدور البطولي للتحالف الذي تقوده الولايات المتحدة، الذي يُقَدّم فكرة "التحرّر" ويُرَوّج لها على نحوٍ غير مناسب، حيث يُقْصَد به التحرّر من طابور طويل من "المُسْتَبدّين الهَمَجيّين" المُفترَضين. وهناك الحروب الاقتصادية، من خلال العقوبات والحصار، والحروب بالوكالة على أيدي الإرهابيّين، ومن ثمّ الغزوات المباشرة واستتباعها بالاحتلال العسكري والقمع، من خلال الأنظمة في الدول العميلة. لقد أطلَقت كونداليزا رايس على هذا المشروع، في عام 2006، اسم الشرق الأوسط الكبير. وفي عام 2009، أعلن (الرئيس الأميركي باراك) أوباما أن مشروع الشرق الأوسط الكبير ينطوي على بداية جديدة مع الإسلام. ولقد شَهِد ذلك انتقالًا من الغَزَوات المباشرة إلى زيادة في استخدام الجيوش من الجماعات الإسلاموية الطائفية التي تعتمد نموذج الإسلام السعودي.
ومع ذلك، إنّ تلك الجيوش بقَدْر ما كانت ميليشيات مُرتزقة بقَدْر ما كانت مجموعات طائفية مُتعصّبة دينياً. لقد كانت استراتيجية هذه الحرب تقوم على تدمير الدول المُستقلّة في المنطقة، وإخضاع الشعوب المُستقلّة والسيطرة على كامل المنطقة. ووفقاً لهذا المنطق، يتوجّب الإبقاء على قوى المقاومة مُشَرْذَمة...
-ثانياً: وفي حين يَتَوجّب دراسة الذرائع الغريبة لكلّ حرب، باستخدام الدليل المستقل، لكن لا يُمكن فَهْم تلك الذرائع تماماً بشكلٍ منفصل. فكلّ عدوان يُشكّل جزءاً من استراتيجيّة أكبر. إنّ الحروب المنفصلة يُمكن رؤيتها بشكل واضح فيما يتّصل بالمخطّط الإقليمي؛ وفي الواقع، أيضاً فيما يتّصل بالطموحات العالمية للراعي.
وبالمِثل، فإن المقاومة في دول مُحَدّدة يمكن دراستها، ويتوجّب دراستها. إلّا أنّ اندماجها مع المقاومة الإقليمية يبقى أمراً حاسماً في نجاحها؛ إذ ليس بمقدور أيّ دولة بمفردها أن تصمد في وجه هذه المذبحة...
ثالثاً: إنّ مقاومة السيطرة الأجنبيّة في كلّ بلد، وفي الإقليم، هي الحصيلة التاريخية لقوىً مُحَدّدة؛ إذ تَتّصف المقاومة بطابع مُشترك، وإنْ لم تكن سِماتها مثاليّة. فهي تَسترشد بمبادىء ثقافية ودينية، وظروف تاريخية وبُنى اجتماعية مختلفة. إلّا أنّ الدفاع المُشترك يتّسم بتقرير المصير المُشترك والحفاظ على بُنى اجتماعية قابلة للمساءلة تخدم مصالح اجتماعية أوسع. وفي كلّ ظرف، فإن التدخّل الإمبريالي مُدَمّر لتلك المساءلة وتلك المصالح. ولذلك، ففي منطقة غرب آسيا، تضم المقاومة قوىً علمانيّة تعدديّة، ومُسلمين من الشيعة والسنّة، ومَسيحيين، ودروز، واشتراكيين، وتقاليد علمانية، وقومية، وعربية.
وبما يتّسق مع المُتغيّرات الحاصلة في المنطقة، وخصوصاً بعد معركة "طوفان الأقصى" والحرب الإسرائيليّة الوحشيّة التي تَلَتْها، والتداعيات الماثلة والمُرتقَبة لها، نعرض لأبرز الأفكار التي أورَدها المؤلّف حول قضية فلسطين والمقاومة، والتي تصبّ في السياق التحريري والتغييري الذي تحدّث عنه في كتابه:
-حول مستقبل فلسطين، يقول المؤلّف إنه يجب تفكيك دولة الفصل العنصري في "إسرائيل". وتُعَدّ جنوب أفريقيا أفضل مثال من التاريخ الحديث على كيفيّة القيام بذلك. سَتَقْبَل فلسطين الديمقراطية جميع سكّانها كأناسٍ مُتَساوين. لقد فشلت تجربة دولة يهوديّة عنصريّة بكلّ شيء؛ وتبقى فقط كَوَكيلٍ غير شرعيٍ للقَمْع وتَأجيج الصراع في المنطقة بأَسْرها على نَحْوٍ متزايد. وفي الواقع، إنها تَتَلَقّى الدعم من القوى الأجنبيّة الكبرى. ولهذا السبب بالتحديد: يتمّ تقسيم سكّان المنطقة وإبقائهم عُرْضَة للهيمنة الخارجية.
وبعد تَفنيده لنقاط القوّة والتحدّيات أمام هذا المشروع لحلّ القضية الفلسطينية، يَستنتج المؤلّف أنّ مستقبل فلسطين مُلَبّد بغيوم الانقسامات، والألَم، والتضحية، والخوف، من الأعداء الرهيبين. لكنّه أبعد ما يكون عن اليأس، إذ كانت هناك مَكاسب حقيقية في السنوات الأخيرة. لقد فَرَضَت المقاومة قيوداً على توسّع المشروع الاستعماري، في الشمال وفي الجنوب، حيث إن محاولات تحطيم وتقسيم "محور المقاومة" تَبوء بالفشل. لقد تَمَثّل الضعف الأساس في فلسطين في الانقسام بين الفصائل الفلسطينية وبعض الانقسام مع الحلفاء الإقليميين، بينما تظلّ القوّة الرئيسة هي المقاومة المُستمرّة لشعبٍ شجاعٍ ومُقاومٍ رغم تعرّضه للهجوم.
-في السياق، يتحدّث المؤلّف عن حزب الله اللبناني، الذي يمكن أن يبدو لغزاً. إذ رغم أُسُسِه، كمجموعة دينية شيعية، إلّا أنّه طَوّر نفوذاً أوسع نطاقاً في لبنان، حيث اندمج داخل الهياكل الوطنية وشكّل تحالفات عابرة للطوائف. إن أُسُسَه الدينية وعلاقته الوثيقة بإيران تستقطب انتقادات ساذجة "بالطائفية" للمُسلمين الشيعة. إلّا أنّ هذا الانتقاد يَتجاهل ائتلافه مع المسيحيين التقدّميين ودَعْمه الوثيق للمقاومة الفلسطينية ذات الغالبيّة السنيّة. وفي حين وَصَفَتْه بعض الحكومات الغربية بأنه "إرهابي" -خاصة بسبب معارضته لإسرائيل- فقد أثْبَت حزب الله أنّه قوّة رئيسة ضدّ مجموعات القاعدة المَدعومة من الغرب، التي ابتُلِيت بها المنطقة بأسْرها. لقد خسر حزب الله أكثر من ألفي جندي مُتَطَوّع، مُدافِعاً عن لبنان وسوريا العلمانيّة.
ويضيف المؤلّف: أبْعَد من ذلك بكثير، فإن قوّات الحشد الشعبي في العراق، والتي قادَت عملية سَحْق العراق لإرهابيي "داعش"، المَدْعومين من السعودية، تأسّست على نموذج حزب الله و(باسيج) إيران (قوّات المُتَطَوّعين). لقد استخدَم الحشد الشعبي، كما هو الحال مع حزب الله، الحماس الديني للدفاع عن دولة "علمانيّة" أو تعدديّة بشكلٍ رئيسٍ والحفاظ عليها. إن إساءة الغرب و"إسرائيل" لحزب الله قد تَسَبّبت ببثّ البلبلة حوله؛ لكنّ مُعظم مَنْ في المنطقة يُقِرّون بأنّه المجموعة التي طَرَدَت "إسرائيل" من لبنان...
-في الإطار عَيْنه، يُحَلّل المؤلّف المواقف الأميركية والإسرائيلية المُعادية للجمهورية الإسلامية الإيرانية، وبالتأكيد ليس بسبب أية تهديدات تقوم بها بحقّ الدول المُسالِمة، ولا بسبب "الإرهاب". هذه كلّها ذرائع زائفة؛ إذ لم تَغْزُ إيران دولة أخرى منذ قرون. وهي تَتَعرّض للهجوم لأنها لا تزال أكبر دولة مُستقلّة في المنطقة، وتتمتّع بالقدرة والإرادة على مقاومة وإحباط القوى الإمبريالية الخارجية، وتنظيم مقاومة إقليمية...
ويتابع المؤلّف: لقد ساعدت إيران فلسطين في مقاومة التطهير العِرْقي، وساعدت المقاومة اللبنانية في طرد الاحتلال الإسرائيلي. وقد دَعَمَت كلًا من العراق وسوريا في انتصاراتهما على الإرهاب الطائفي الذي وَلّدته دول الخليج و"إسرائيل" وحلف الناتو. وتمتلك إيران أكبر شبكة إعلامية متعدّدة اللغات في المنطقة، وقد فَعَلت أكثر ممّا فَعَلَه الآخرون لفَضْح الحرب السعودية المَنْسيّة ضدّ اليمن المستقلّ والثّوري. وقد انخرطت (إيران) مع قوى أَوسع مُعادِية للإمبريالية للمساعدة في بناء أفكار ووسائل إعلام مُكافِحة للهيمنة، وهياكل ماليّة جديدة، وعالَم مُتَعَدّد الأقطاب..
لقد بذل أعداء إيران كلّ ما في وسعهم لتفتيت شعوب المنطقة وتقسيمها. إنّهم لا يريدون هذا التكامل والازدهار المستقل؛ لذلك، فإن قدرة الجمهورية الإسلامية واتّساقها وإرادتها السياسية هو ما يهم؛ ولهذا السبب تقود إيران الشعوب المستقلّة في المنطقة.
أخيراً، يَخْلُص المؤلّف إلى أنّه يَتَعَيّن على بلدان المنطقة، التي تَشَرْذمت بعدما أعاد الاستعمار تشكيلها قبل قرنٍ من الزمان، يَتَعَيّن عليها أن تستعيد التماسك، ولكن ليس بأن تكون مُلْحَقة ببعض الإمبراطوريات الجديدة. فالوحدة الإقليمية ضرورية لإلحاق الهزيمة بطموحات القوى الاستعماريّة والإمبراطورية؛ إذ إنّ الدول الصغيرة، المُقَسّمة والمُنْقَسمة فيما بينها، لا تملك القدرة على المقاومة وحدها..
ومن الواضح أنه يجب على إيران قيادة هذا الاتحاد الإقليمي، وهي تقوده بالفعل، حيث إنها الدولة الوحيدة التي تتمتّع بالقدرة والمبدأ الثابت والإرادة المثبتة للاضطلاع بهذه المهمّة. هذه الأمّة المستقلّة هي الضّامن لقوّات المقاومة في فلسطين ولبنان وسوريا والعراق، وإن لم يَكن بَعْدُ في اليمن..
وبالموازاة، يَجْزم المؤلّف أنّه لا يوجد مكانٌ لنظام الفصل العنصري الصهيوني في مستقبل منطقة مستقلّة. فلا يُمكن لشعوب المنطقة أن تَحْتَمل سبعين سنة أخرى من التطهير العِرقيّ والحرب الاستعمارية؛ لكن لا شيء من هذا يَنْفي مكاناً شرعياً ل "الشعب اليهودي" في فلسطين الديموقراطية.
2025-06-21 15:39:01 | 16 قراءة