دراسة إسرائيليّة جديدة: التكنولوجيا، بما في ذلك الذكاء الاصطناعي، لا تُلغي العنصر البشري في الحرب بل تُعيد تشكيله
دراسة إسرائيليّة جديدة: التكنولوجيا، بما في ذلك الذكاء الاصطناعي، لا تُلغي العنصر البشري في الحرب بل تُعيد تشكيله
08 ديسمبر 2025
• عبد القادر بدوي
المركز الفلسطيني للدراسات الإسرائيليّة
في أعقاب هجوم "طوفان الأقصى" في 7 تشرين الأوّل/ أكتوبر 2023 وبدء حرب الإبادة على غزة، والحرب الإقليميّة التي شنّتها إسرائيل على لبنان وإيران وسورية واليمن وكامل الأرض الفلسطينية، وجدَت المؤسّسة الأمنية- العسكرية في إسرائيل نفسها أمام أزمة كبيرة تَجاوزت الإخفاق الاستخباري - الأمني، ووصلَت إلى طرح أسئلة جديّة حول الأُسس المفاهيميّة التي قامت عليها العقيدة العسكرية خلال العقد الأخير، والتي كان أبرز تجلّياتها الفجوة البنيويّة بين حجم الاستثمار الإسرائيلي في التكنولوجيا العسكرية المتقدّمة، وأوّلها الذكاء الاصطناعي، وأنظمة الاستشعار ونُظُم الاستشعار والرّقابة... إلخ، وبين القدرة الفعليّة على منع اختراق واسع النطاق أو احتوائه في حال وقوعه. وقد ظلّ هذا النقاش مفتوحاً بلا إجابة حاسمة على مَدار عامَيْن من الإبادة، وهو ما حَوّل القطاع وجنوب لبنان وإيران، وكذلك الضفة الغربية، إلى مُختبرات تجارب لتطوير وتكييف التقنيّات العسكريّة والأمنيّة- الرقميّة.
وعلى مَدار أشهر الإبادة، ظلّ السؤال المطروح على جدول نقاش بعض النّخب الأمنيّة ومراكز البحث والتفكير ذات الصلة بشأن الاعتماد على التكنولوجيا والتقنيّات الرقميّة، أم العودة للعنصر البشري بشكل صِرف، قائماً؛ وقد نشَرنا في مُلحَق "المشهد الإسرائيلي" قراءات في عدّة دراسات حول هذا النقاش الذي ظلّ قائماً بلا إجابة حاسمة.
في هذه المُساهَمة، نستَكمل هذه القراءات باستعراض أبرز ما تضمّنته دراسة بعنوان: "مَكانة الجندي المُقاتِل في عصر الذكاء الاصطناعي"، أعَدّتها ستاف ليفتون مؤخّراً، تُناقِش فيها موقع العنصر البشري في منظومة قتاليّة باتت تعتمد بشكل مُتَزايِد على الأتمَتة والخوارزميّات، كجزء من مُراجَعة أعمق للعقيدة العسكريّة - الأمنيّة الإسرائيليّة في ظلّ انعدام القدرة على "الحسم"، على الرّغم من قناعة إسرائيلية بالتفوّق التقني؛ وهو ما يُثير خشية من حدوده بالنسبة للكاتبة، خاصّة في ظلّ حروب غير مُتَماثِلَة، وفي ظلّ ظروف معقّدة وغير مألوفة.
هذه الدراسة تُسَلّط الضوء على نقاط مهمّة لفهم التحوّلات في تفكير الجيش الإسرائيلي وموقعه داخل تحوّلات الحرب المعاصرة، فهي لا تُقَدّم رواية انتصاريّة حول التكنولوجيا والخوارزميّات، ولا تختزل التغيير في البعد التقني، بل تطرح أسئلة بنيويّة حول التنظيم العسكري، والقيادة، والأخلاق، ودور العنصر البشري في عصر الأتمَتة. جديرٌ بالذكر هنا أن المصطلحات والأفكار الواردة في هذه المساهمة لا تُعَبّر عن كاتب المُساهَمة أو وجهة نظَر مركز مدار، وإنما مصدرها الدراسة نفسها.
تُناقِش الدراسة التحوّلات العميقة التي يمرّ بها الجيش الإسرائيلي في ظلّ التغيّر المُتَسارِع في طبيعة الحروب المُعاصِرة، حيث يشكّل كلٌ من الذكاء الاصطناعي، والأتمَتة، والطائرات المُسَيّرة، وأنظمة الاستشعار الشبكيّة، عناصر حاسمة في إعادة صياغة مفاهيم: الحرب، القتال، دور الجندي المُقاتِل، وبنية القوّة العسكرية، التي لا يَتعامل معها باعتبارها مسألة تقنيّة بحتة، بل يَضعها في إطار أوسع يربط التكنولوجيا بالقرار البشري، والتنظيم العسكري، والقيادة، والأبعاد الأخلاقية والسياسية للحرب.
تنطلق ليفتون من فرضيّة أساسيّة مفادها أن حروب العقدين المقبلين لن تُخاض بالطريقة نفسها التي كانت عليها الحروب في العقود السابقة، لا من حيث الفضاءات التي ستجري فيها، ولا من حيث الأدوات المُستَخدَمة، ولا حتى من حيث تعريف من "يُقاتِل"؛ فالحرب في العام 2025، كما تُقَدّمها في الدراسة، لم تَعُد مُقتصرة على ساحات جغرافية واضحة أو جبهات تقليدية، بل باتت تُدار ضمن منظومات معقّدة تشمل الفضاءين الرقمي/ السيبراني والفضائي، وحرب المعلومات، إلى جانب البرّ والجو والبحر.
التحوّل المفاهيمي في طبيعة الحرب
تَستَعرِض الدراسة الحروب الجارية اليوم بوصفها مؤشّراً على ذروة تاريخيّة في عدد النزاعات، وتُرَكّز بشكلٍ خاص على التحوّل النوعي في كيفيّة إدارتها؛ فالتوسّع في استخدام الأنظمة غير المأهولة والذكاء الاصطناعي يؤدّي إلى إبعاد البشر تدريجياً عن ساحات المواجهة المباشرة، سواءً من حيث التنفيذ أو اتخاذ القرار التكتيكي؛ وهو ما يفرض على الجيوش، ومنها الجيش الإسرائيلي الذي تُرَكّز عليه هنا، إعادة التفكير في كيفيّة الحفاظ على "الحُكم البشري" داخل منظومات قتاليّة تعتمد بشكل مُتزايد على الخوارزميّات. من ناحية أخرى، تُبرز الدراسة توتّراً نظرياً وعملياً بين مطلب الكفاءة العسكرية العالية، التي تُوَفّرها الأتمَتة، وبين مخاوف فقدان السيطرة البشرية على مسار القتال، خاصّة في سياقات تتّسم بالغموض، الفوضى، والحرب غير المُتكافئة. ومن هنا، فإن التحوّل الجاري ليس مجرّد تحديث في الوسائل، بل مساس بجوهر مفهوم "الانتصار" ومن يملكه، وكيف يتحقّق.
الجيش الإسرائيلي ومراجعة البنية القتاليّة
تُقَدّم الدراسة الجيش الإسرائيلي كنموذج متقدّم في تبنّي التكنولوجيا العسكرية، لكنه في الوقت ذاته كنموذج يُواجِه تحدّيات ناتجة عن هذا التبنّي نفسه، حيث تربط مباشرة بين التحوّلات التكنولوجيّة وبين عمليّة "مُراجَعة ذاتيّة" داخل المؤسسة العسكرية الإسرائيلية، حيث يُعادُ طرح أسئلة تتعلّق ببنية الجيش، وحجمه، وأدوار وحداته، وجدوى التشكيلات العسكرية التقليدية.
في هذا السياق، تَستَحضِر ليفتون خطّة "تنوفا" العسكرية التي قادها رئيس أركان الجيش السابق أفيف كوخافي، بوصفها نقطة مفصليّة في هذا التحوّل، والتي تقوم على فكّ الارتباط التدريجي عن الجيوش البريّة الكبيرة، وتعزيز نموذج "الجيش الصغير والذكي"، القادر على المُناوَرة السريعة، العمل الشبَكي، وتنفيذ ضرَبات دقيقة استناداً إلى دمج الاستخبارات والقدرات الجويّة والرقميّة معاً.
القتال متعدّد المجالات كوحدة تحليل مركزيّة
يُشَكّل مفهوم القتال متعدّد المجالات (Multi-Domain Operations) العمود الفقري التحليلي للمقال، حيث تَعرض الدراسة هذا المفهوم بوصفه تطوّراً حديثاً لفكرة قديمة تقوم على التنسيق بين أذرع الجيش المختلفة. لكنها توضِح أن الجديد هنا هو التوسّع في المجالات ليشمل السايبر والفضاء وحرب المعلومات، إلى جانب المجالات العسكرية الكلاسيكية. وتُناقِش الدراسة كيفيّة سعي الجيش الإسرائيلي إلى تجسيد هذا المفهوم عملياً عبر "الوحدة متعدّدة الأبعاد" (وحدة الأشباح)، التي صُمّمت لتكون وحدة مَرِنَة، مُدمَجة، ذات قدرات مُتَنوّعة، تعمل في بيئات قتالية معقّدة؛ وهي الوحدة التي تتعامل معها الدراسة على أنها لا تُمَثّل نجاحاً محسوماً كما يتم التعاطي معها من قِبَل المؤسّسة، بل تُسَلّط الضوء على الجدَل الدائر حول مستقبلها، وإمكانيّة تفكيكها؛ وهو ما يعكس بشكل ضمني حدود تطبيق العقيدة متعدّدة المجالات على مستوى الوحدات الصغيرة.
وفي هذا السياق، تتطرّق الدراسة إلى إشكاليّات تنظيميّة وقياديّة تعترض هذا النموذج، أبرزها عبء القيادة، وتعقيد التنسيق، والاعتماد المُفرط على الاتصال المستمر والبنى الرقميّة، ما يجعل هذه الوحدات عُرضَة للفشل في بيئات تشويش أو انقطاع تكنولوجي متوقّع.
الذكاء الاصطناعي بين التمكين والحدود
تُخَصّص الدراسة حيّزاً مهماً لمُناقَشَة دور الذكاء الاصطناعي الحالي والمستقبلي، ليس فقط كأداة مُساعِدة، بل كبنية تشغيليّة أساسيّة لتمكين القتال متعدّد المجالات. ومن خلال مثال شركة XTEND ، تستعرض كيف أصبح الذكاء الاصطناعي عنصراً مركزياً في تشغيل الطائرات المُسَيّرَة، وإدارة الطيران، واكتشاف الأهداف، وتقليل المَخاطِر على الجنود. في المقابل، تتبنّى الدراسة مُقارَبة نقديّة حذِرة، إذ تُبَيّن أن نجاح هذه الأنظمة لا يعني الاكتفاء بها، خاصّة في ظروف الحرب الفعليّة. على سبيل المثال، تجربة حرب الإبادة على غزة، كما تَعرضها الدراسة، كشفت عن نقاط ضعف جوهريّة في الأنظمة القائمة على الذكاء الاصطناعي، خصوصاً في ظلّ التشويش الإلكتروني وتزييف إشارات GPS . وفي هذه الحالات، استعاد "العنصر البشري" مركزيّته، سواءً من حيث التكيّف أو الارتجال أو اتّخاذ القرار.
من ناحية أخرى، تُشير الدراسة إلى نقطة إشكاليّة أخلاقيّة مركزيّة في هذا المجال، تتعلّق باستخدام الذكاء الاصطناعي في العمليّات القاتلة. فحتى مع التقدّم التقني، تؤكّد الدراسة ضرورة الإبقاء على الإنسان ضمن دائرة اتخاذ القرار النهائي، ما يعكس إدراكاً للمخاطر القانونية والأخلاقية والسياسية المُرتَبطة بتفويض القتل لخوارزميّات فقط بعيداً عن العنصر البشري.
إعادة تعريف العنصر البشري
على خِلاف الطرح الشائع الذي يربط الأتمَتة بتقليص القوى البشرية، تقدّم الدراسة قراءة مُغايِرة، وذلك بالاستناد إلى تحليلات باحثين في هذا المجال. فالتاريخ، بحسب هذا المنظور، يُظهِر أن التكنولوجيا لا تُلغي العنصر البشري، بل تُعيد تشكيله. كما غيّرت الدبّابات والطائرات طبيعة الجيوش من دون أن تُنهي الحاجة إلى الجنود، يفعل الذكاء الاصطناعي الشيء نفسه اليوم، وهو طرح مُغايِر للطروحات الشائعة. وفي سبيل ذلك، تسعى الدراسة لنقل النقاش من سؤال "كم عدد الجنود؟" إلى سؤال "ما نوع المهارات المطلوبة؟"، حيث يُصبح تشغيل الأنظمة، وصيانتها، وبرمجتها، جزءاً أساسياً من العمل العسكري. وبذلك، يتحوّل الجندي من "مُقاتِل تقليدي" إلى مُشَغّل أنظمة معقّدة، يعمل ضمن بيئة تعتمد على المعرفة التقنيّة بقدر اعتمادها على الانضباط العسكري.
الحرب فعل بشري في نهاية المطاف
تختم الدراسة بنقطة نظريّة بالِغة الأهميّة، مفادها أن التطوّر التكنولوجي، مهما بلَغ، لا ينزع عن الحرب جوهرها الإنساني/ البشري. فالحرب، كما تُشَدّد الدراسة، تبقى فعلاً سياسياً وأخلاقياً يقوم على استخدام العنف لتحقيق أهداف سياسية مع استعداد لتحمّل الكلفة البشرية؛ وبذلك، لن يؤدّي الاستهداف من خلال الآلات وحدها إلى حسم الصراع، لأن القرار السياسي، والإرادة البشرية، والقدرة على التضحية، تظلّ عناصر بشريّة في جوهرها. بهذا المعنى، تُقَدّم الدراسة قراءة مُرَكّبة للتحوّل العسكري المُعاصِر: لا احتفاء غير مشروط بالتكنولوجيا، ولا رفض تقليدياً لها، بل محاولة لفهم حدودها، وإمكاناتها، وتأثيرها على بنية الجيوش الحديثة، مع إبقاء الإنسان في مركز هذه المُعادَلة.