كما تدخل الحرب التركية الجارية على الأكراد، عسكرياً وسياسياً وثقافياً، كما حملات "التطهير" الشاملة التي طالت عشرات الآلاف داخل المؤسسة العسكرية وباقي المؤسسات، خاصة بعد فشل محاولة الانقلاب في شهر تموز الماضي لإسقاط حكم أردوغان وحزب العدالة، في إطار التمهيد لإجراء استفتاء مضمون على النظام الرئاسي في أجواء "مناسبة" لأردوغان وحزبه "الإسلامي العثماني"!
أما على المستوى الخارجي، فإن سياسة (صفر مشاكل) التي أطلقها داوود أوغلو، وزير خارجية أردوغان السابق، أدّت إلى تزايد أعداء النظام التركي، الذي حاول في البداية الإيحاء بأنه سيبتعد عن المغامرات الخارجية وسيبعد الجيش عن السياسة والحروب. لكن المشهد التركي اليوم مختلف، حيث يخوض الجيش التركي حرباً قاسية ضدّ الأكراد، داخل وخارج تركيا، وضدّ "الإرهاب" إلى حدٍ ما (داعش)، في سياق استراتيجية واضحة لحزب العدالة ترتكز على إحياء "العثمنة" داخلياً وإقليمياً، والابتعاد "المدروس" عن أوروبا، مع إحياء الإرث التاريخي العثماني (الأطماع) في شمال العراق وشمال سورية (الموصل ـ كركوك ـ حلب..)؛ وكلّ ذلك في سياق محاولة معلنة لتزعّم تركيا لما يمكن أن يُسمّى (الشرق العثماني) من جديد!
وتدخل المطالبة التركية بإعادة النظر في اتفاقية لوزان (1923) مع اليونان ومع سورية والعراق لتصبّ في الإطار المذكور (التوسع العثماني).
وما الترويج المكثّف خلال الفترة الماضية لوجود مؤامرة دولية (أميركية أو إقليمية) على النظام التركي، سوى محاولة لتكتيل الشعب التركي خلف أردوغان وطروحاته القومية والدينية المتشدّدة، بالرغم من مساعيه المتجدّدة لتحسين علاقات بلاده مع روسيا وإيران و"إسرائيل"، لحسابات اقتصادية وتجارية بالدرجة الأولى...
أما حرب أردوغان على الأكراد في سورية والعراق، فهي تهدف إلى منع تقطيع الفضاء العربي ـ التركي الحيوي جداً لتركيا، الآن كما في الماضي والمستقبل (نظرية الكوريدور).
عن آليات تحقيق الأهداف التركية في المنطقة، تحدث د. نور الدين عن تغيير ملموس فيها، لجهة التعامل بين دولة ومجموعات مسلّحة غير نظامية (كما يحصل لجهة دعم تركيا للجماعات الإرهابية في شمال سورية أو لجماعات البرزاني في شمال العراق)، في سابقة لم تعرفها تركيا من قبل (سقوط آلية التعامل بين دولة ودولة)؛ وصولاً إلى التدخل العسكري التركي المباشر في البلدين المذكورين، ومن دون تحديد أهداف واضحة أو فترة زمنية للوجود التركي العسكري الكبير فيهما (مثال بعشيقة في العراق وجرابلس في سورية). ولا ننسى هنا استمرار الأتراك في شراء النفط من جماعة البرزاني الكردية في العراق، كما فعلوا مع تنظيم داعش الإرهابي، ولسنوات خلت.
وفي الخلاصة، لفت المحاضِر إلى أن تركيا تعيش اليوم في دائرة من الأعداء المحيطين بها، رغم محاولاتها تقليص عدد هؤلاء الأعداء او تحييدهم (مصر ـ السعودية ـ روسيا ـ إيران..). فالأتراك يريدون حصّة سياسية واقتصادية وأمنية لهم في سورية، كما في العراق، ولو تحت ادعاءات تاريخية واهية، أو دوافع مذهبية ضيّقة لا تخفي المصالح الفئوية التي تحرّك قادة تركيا في المرحلة الراهنة أو ما قبلها.
وعليه، فبرأي د. نور الدين، لا توجد استدارة تركية حقيقية في المنطقة، بعد المصالحة مع روسيا بوتين، والتي تمّت لأهداف اقتصادية وسياسية (خط السيل الغازي) وليس لأهداف سياسية مباشرة. فالدور التركي السلبي ما زال قائماً في سورية والعراق، مع كبح جماحه باتجاه حلب أو مدينة الباب، ضمن توافق تركي ـ روسي ـ إيراني حصل قبيل التدخل العسكري التركي الأخير في الشمال السوري، لضرب "داعش" والمجموعات السورية الكردية فحسب، مع غضّ نظر تركي عمّا يجري في حلب.
أما عن العلاقة مع حلف شمال الأطلسي، فأكد المحاضِر أنها استراتيجية وبنيوية، ولا يمكن للنظام التركي أن يقطع هذه العلاقة؛ بل هو يريد من خلال مواقفه المتشدّدة من الولايات المتحدة وأوروبا مؤخراً (بعد محاولة الانقلاب الفاشلة) تحسين مواقعه السياسية والأمنية في هذا الحلف فقط.
ورداً على أسئلة بعض المشاركين في الندوة، أوضح المحاضِر أن العلاقات الجيّدة في الظاهر بين تركيا وإيران تحديداً لا تخفي العداوة السياسية والمذهبية بين النظامين اللذين يحرصان بشدّة على هذه العلاقات، لحسابات توازن القوى وتأمين المصالح فحسب، مع توافق ضمني (تاريخي) على عدم تدخل كلّ بلد في سياسات البلد الآخر الإقليمية والدولية مهما حصل من تطورات.
من هنا كان الدعم الإيراني القوي لأردوغان قبيل وبعد محاولة الانقلاب الفاشلة ضدّه، كما الدعم الروسي له، مقابل تورّط للأميركيين والسعوديين فيه، كما استنتج أردوغان، والذي سعى لضرب جماعة فتح الله غولن بكلّ شدة ومحاولة اعتقاله ومحاكمته في تركيا، لصلات غولن المعروفة بالأميركيين والإسرائيليين بالخصوص.
وأشار د. نور الدين إلى خطورة سياسة أردوغان المتشدّدة، قومياً ودينياً، على تركيا ودول الجوار، مقابل مهادنة واضحة مع "إسرائيل" تحوّلت إلى علاقات جيّدة في الآونة الأخيرة، مع إعلان اتفاق المصالحة بين الطرفين حول قضية سفينة الحريّة وحصار قطاع غزة!
وختم المحاضِر بالقول إن ابتعاد النظام التركي عن أوروبا، واستحكام قبضة هذا النظام على مفاصل الدولة وضدّ الأقليات العرقية في البلاد (الأكراد ـ العلويون...)، وبروز النزعة العثمانية التوسعية مجدّداً تجاه دول الجوار، سيؤدّي إلى اضطرابات أشدّ خطورة في الداخل التركي وتناقص في المناعة الداخلية للدولة، برغم استمرار الغطاء الأطلسي القوي لهذا النظام، الذي يسعى لتحقيق أهداف أكبر من إمكاناته، ويلعب على التناقضات الدولية والإقليمية لحفظ مواقعه داخل وخارج الساحة الشرق أوسطية وتعزيزها، من خلال تعزيز الجيش التركي لقواعده أو مواقعه في سورية والعراق، وصولاً إلى بعض دول البلقان!