التصنيفات » مقالات سياسية

إعلان نيويورك: استعادة مسار الدولة الفلسطينية أم تسويق للوهم؟

إعلان نيويورك: استعادة مسار الدولة الفلسطينية أم تسويق للوهم؟

بقلم: أ. د. محسن محمد صالح، مدير عام مركز الزيتونة للدراسات والاستشارات.

المصدر: الجزيرة نت

إعلان نيويورك حول التسوية السلمية لقضية فلسطين وتنفيذ حلّ الدولتين، بقَدر ما حاوَل استعادة الزخم العالمي لحلّ الدولتين ووقف الحرب على قطاع غزة، بقَدر ما أثار شكوكاً حول إمكانية التنفيذ العملي على الأرض، وتَجاوز العقبات التي عطّلته على مدار 32 عاماً من اتفاق أوسلو.

وبقَدر ما حاوَل تحشيد أكبر تأييد دولي للمشروع، بقَدر ما قَدّم تنازلات، لا يراها معظم الفلسطينيين مُبَرّرة، بحقّ المقاومة ودورها في الشراكة الفاعلة في صناعة القرار الفلسطيني دون قوالب أو إملاءات خارجية.

المؤتمر الدولي، على مستوى الأمم المتحدة، الذي انعقَد في الفترة 28-30 يوليو/ تموز 2025، وتشكّلت ثمانية فرق عمل لتنضيج الأفكار ومشاريع القرارات المتعلقة بحلّ الدولتين، سياسياً واقتصادياً وأمنياً ومالياً، أصدِر إعلان نيويورك بمُشارَكة 17 دولة، بالإضافة إلى الاتحاد الأوروبي وجامعة الدول العربية.

وعلى هامش المؤتمر، صدَر إعلان عن وزير الخارجية الفرنسي حول اعتزام 15 دولة أوروبية الاعتراف بدولة فلسطين، وتوجيه نداء لمن لم يفعل بالانضمام إلى الاعتراف. ومن بين هذه الدول 9 دول لم تعترف بعد، غير أنها عَبّرت عن استعدادها أو اهتمامها بالاعتراف.

مؤشّرات إيجابيّة

حمَل الإعلان عدداً من المؤشّرات الإيجابية، أبرزها:
.1  تحشيد مسار دولي قوي للدفع باتجاه حلّ الدولتين، وإقامة دولة فلسطينية مستقلّة على أساس خطوط الهدنة قبل حرب يونيو/ حزيران 1967. وبغضّ النظر عن موقف كاتب هذه السطور من حلّ الدولتين، فإن هذا التحشيد الدولي قد يُسهم في تصعيد الضغوط على الاحتلال الإسرائيلي الذي تَجاوز هذا الحل، وانشغل عملياً بشطب الملف الفلسطيني وبفَرض خطّة "الحسم" بضمّ ما تبقّى من فلسطين المحتلة وتهويدها؛ وأخَذ يتبنّى فكرة "السلام مُقابِل السلام" أو "السلام بالقوّة"!

.2  انضمام كتلة وازنة من الدول الأوروبية والحلفاء التقليديين الداعمين للاحتلال الإسرائيلي، لأوّل مرّة للاعتراف بدولة فلسطين وإنفاذ حلّ الدولتين، بما في ذلك فرنسا، وبريطانيا، وألمانيا، وكندا، وأستراليا…؛ وهو ما يَفرض مزيداً من العزلة الدولية والضغوط على الكيان الإسرائيلي.

.3  رفض العدوان الإسرائيلي على غزة، وإدانة اعتدائه على المدنيين، والمُطالَبة بوقف الحرب، وإدخال المساعدات، ورفض التهجير القسري، ورفع التجويع، والمُطالَبة بإعادة الإعمار واستئناف تقديم الخدمات كالكهرباء والماء والوقود، والتأكيد على دور الأونروا؛ وهو ما يعني إفشال جزء كبير من المُخَطّط الإسرائيلي في القطاع.

4. إبداء نوع من الجديّة في إنفاذ حلّ الدولتين، من خلال تشكيل لجان عمل تُعالج التفصيلات السياسية والاقتصادية والأمنية والمالية، ومن خلال السعي لوضع جدول زمني محدّد، وصولًا لاتفاق نهائي إسرائيلي -فلسطيني.

.5 عدم المساس بوضع القدس، وتأكيد الوصاية الهاشميّة، والتأكيد على أن غزة جزء من الدولة الفلسطينية، وتعزيز الاقتصاد الفلسطيني، ومُطالَبة الاحتلال الإسرائيلي بالإفراج عن عائدات الضرائب.

المُلاحَظة الأساسية على هذه المؤشّرات الإيجابية أنها لم تحمل جديداً في الموقف الذي تُعَبّر عنه معظم دول العالم تجاه قضية فلسطين منذ عشرات السنوات؛ وهي لَخّصت بشكل عام مئات القرارات التي صدَرت عن الأمم المتحدة بأغلبيّة ساحقة على مدار الـ 55 سنة الماضية؛ وإن كانت حاوَلت استرداد روح المُبادَرة في وجه الأمر الواقع الذي يفرضه الإسرائيليون.

وقد سبَق للمنظومة الدولية الداعمة لمسار التسوية أن شكّلت مجموعات عمل، سياسية واقتصادية وأمنية، ومتعلّقة باللاجئين، بعد اتفاق أوسلو، ولكنها لم تؤدِ إلى نتيجة. كما سبق تبنّي "خريطة طريق" لإنشاء دولة فلسطينية سنة 2003 خلال سنتين، وانتهت بالفشل بالرغم من الرعاية الأميركية للخطّة.

ولعلّ عدداً من الدول الصديقة لـ "إسرائيل" أرادت أن تُنقِذ" إسرائيل" من نفسها، بعد أن رأت أن السلوك والمُمارسات المُتعجرفة المُتطرّفة لحكومة الكيان ستتسبّب بإشعال عناصر الغضب والتفجير في المنطقة، وبالتالي ستَرتدّ خطراً وجودياً على بقاء الكيان نفسه.

هل هو مسار مُصَمّم للفشل؟

يوفّر لنا إعلان نيويورك مرّة أخرى "سيّارة من دون عجَلات"؛ ويتجنّب التعامل المُباشر مع جوهر المشكلة الذي عطّل اتفاقات أوسلو ومسار التسوية.

فبعد 32 عاماً ثمّة إجماع بين دول العالم أن الاحتلال الإسرائيلي عطّل الاتفاقات، وتعامل مع مسار التسوية كغطاء لمزيد من التهويد والاستيطان وفرض الحقائق على الأرض، وجعل حلّ الدولتين مستحيلاً. كما جعَل الكيان نفسه "دولة فوق القانون"، مُستَفيدًا من الغطاء الأميركي.

وإعلان نيويورك هذا لا يُوَفّر أي آليات جادّة ولا أيّ ضمانات لفرض إرادة المجتمع الدولي وقراراته (التي زادت عن 950 قراراً) على الكيان الإسرائيلي.

وتندرج كلّ الطلبَات المتعلّقة بالجانب الإسرائيلي في إطار الرغائب والدعوات والتمنّيات. وليس ثمّة عقوبات ولا تلويح بعقوبات رادعة لإجباره على الانصياع.

ولذلك سيَكون إعلان نيويورك إعادة تسويق لمسار أوسلو العقيم، وإعادة إنتاج للفشل. وهذا سيُوَفّر المزيد من الوقت للاحتلال لمُتابعة برامج التهويد، بينما سيتم مُتابعة الجانب الفلسطيني وفق آليات عمل دقيقة ومُحَدّدة تصب في الجيب الإسرائيلي، وتُتابع الدور الوظيفي لسلطة رام الله  في خدمة الاحتلال.

إدانة "حماس" ونزع سلاح المقاومة

لأوّل مرّة تدين دول عربية وإسلامية، في وثيقة رسمية، عملية طوفان الأقصى في 7 أكتوبر/ تشرين الأوّل، وتتّهمها باستهداف المدنيين، مُستَجيبة للرواية الإسرائيلية التي نفَتها حماس؛ بينما ترى الأغلبية الفلسطينية والعربية والإسلامية العملية في ذاتها عملًا مشروعاً، ومُنجَزاً غير مسبوق. وهذا يُعَدّ تطوّراً خطيراً، إذ رفضت هذه الدول قبل ذلك أي إدانة دولية لهذه العملية.

أما الجانب الأخطَر في الموضوع، فهو مُطالَبة "حماس" بنزع أسلحتها وتسليمها للسلطة الفلسطينية؛ وهو في جوهره تحقيق لهدف إسرائيلي من الحرب على غزة. وهو إجراء يتم من طرَف واحد، ويوفّر عملياً الحريّة الكاملة للاحتلال الإسرائيلي في الاستمرار والاستقرار، ومُتابَعة برامج التهويد والاستيطان دونما مُقاومة؛ وبالتالي، مُتابَعة شطب الملف الفلسطيني، كما يحدث في القدس والضفة الغربية، وفي بيئة عربية ودولية تعترف بأنها عاجزة تماماً عن إلزام الاحتلال الإسرائيلي بشيء.

وهكذا، فبدَلاً من مُساعدة الطرَف الفلسطيني على حماية نفسه كضحيّة تحت الاحتلال، يتم مُكافَأة المُعتَدي المُحتَلّ الذي ارتكب آلاف المجازر، وتسهيل مهمّته!! بينما لا توجد أي بنود حول نزع أسلحة الاحتلال الإسرائيلي أو فَرض حَظر دولي عليه.

إخراج "حماس" من المشهد السياسي وتعميق الانقسام

يُقَدّم إعلان نيويورك رؤية تُسهم في تأزيم الوضع الداخلي الفلسطيني بدَلاً من تعزيزه. فهي تشترط لإجراء الانتخابات الفلسطينية في الضفة والقطاع أن يشترك فيها فقط الفلسطينيون المُلتزمون بمسار أوسلو وبالالتزامات التي التزَمت بها قيادة منظمة التحرير.

وهذا يعني عملياً إخراج "حماس" والجهاد الإسلامي وقوى المقاومة الرافضة لاتفاقات أوسلو من العملية الانتخابية، وصياغة "شرعية فلسطينية مُصطَنعة"؛ في الوقت الذي تُشير فيه كلّ استطلاعات الرأي أن قوى المقاومة تتفوّق شعبياً على القوى المؤيّدة لمسار التسوية. ثم إن كلّ الاتفاقات الفلسطينية طوال العشرين سنة الماضية تؤكّد على الشراكة الكاملة لكلّ القوى الفلسطينية في انتخابات السلطة والمجلس الوطني الفلسطيني وإعادة بناء منظمة التحرير.

ويأتي هذا الطرح مُتَوافقاً مع الاشتراطات الإسرائيلية الأميركية  والرباعية الدولية التي أثبَتت فشلها؛ كما يأتي مُتَوافقاً مع أطروحات محمود عباس وقيادة "فتح"، التي تعرف عجزها عن أيّ مُنافَسة انتخابية ديمقراطية شفّافة مع "حماس" وقوى المقاومة.

ويضع أحد البنود مزيداً من الملح على الجرح، فيتحدّث عن اعتماد تدابير مُحَدّدة ضدّ الكيانات والأفراد الذين يعملون ضدّ مبدأ التسوية السلمية لقضية فلسطين.

وبالطّبع، فلن تُتّخَذ هذه الإجراءات ضدّ الأحزاب الإسرائيلية الحاكمة، التي عملت طوال العقود الماضية على إفشال هذا المسار وإسقاطه، وإنما سيتم مُلاحقَة قوى المقاومة الفلسطينية التي تُمارس حقّها الطبيعي والشرعي في المقاومة وتحرير أرضها من الاحتلال الإسرائيلي!

دولة فلسطينية منزوعة السلاح

يُقَدّم إعلان نيويورك تنازلاً خطيراً في بنية الدولة الفلسطينية المستقلّة، ويتحدّث عن دولة بلا جيش أو مَنزوعة السلاح. وبدَل أن يُوَفّر الضمانات لهذه الدولة، لحماية نفسها من الاحتلال والعدوان والاستعمار الإسرائيلي؛ فإنه يُقَدّم الضمانات والطمأنات للقوّة المحتلّة المُستَعمِرة، التي تُمارِس المجازر ومُصادَرة الأرض والمقدّسات بشكل منهجي؛ ويُوَفّر لها أدوات الإغراء لمُتابعة تغوّلها وفَرض هَيمنتها وإعادة الاحتلال متى أرادت، ووفق أيّ تفسيرات مصلحة تَرتئِيها.

إدماج الكيان الإسرائيلي في المنطقة

يسعى إعلان نيويورك لمُكافأة الاحتلال الإسرائيلي من خلال برنامج تطبيعي يؤدّي لـ "إدماجه" في المنطقة. ويتجاوز الحديث عن مُحاسَبة الاحتلال على جرائمه، وعن عدوانه المُستَمر على لبنان وسوريا، وعدوانه على إيران، ومُحاوَلة فَرض هَيمنته الأمنية على المنطقة.

وأخيراً، فعلى المجتمع الدولي أن يكفّ عن سياسة طمأنة المُجرِم المُحتَل وتقديم الحوافز له، ومُعاقبَة الضحيّة ومُطالبَتها بالمزيد من التنازلات والضمانات.

كما أن عليه أن يكفّ عن فَرض رؤيته الفوقيّة وإرادته لمُواصفات الشرعية والقيادة الفلسطينية؛ فالشعب الفلسطيني لديه النضج الكافي لاختيار قيادته بنفسه وصناعة قراره.

وإذا كان المجتمع الدولي جاداً في دعم إنشاء الدولة الفلسطينية على الأرض المحتلّة سنة 1967، فجوهر جُهده يجب أن يتوجّه لإجبار الاحتلال على الانسحاب، وليس لإخضاع الشعب الفلسطيني المظلوم لمَعايير الاحتلال؛ ولا بمُكافأة الاحتلال بمزيد من التطبيع وتوفير عناصر الاستقرار والازدهار له، حتى قبل أن يقوم بانسحابه.

ويظلّ إعلان نيويورك ضمن مشاريع كثيرة تتهرّب من التعامل مع جوهر المشكلة، وهو إيجاد آليات قادرة على إلزام الاحتلال بالانسحاب وإنفاذ القرارات الدولية… وبالتالي سيُعيد إنتاج الوهم والفشل.

2025-08-20 12:02:59 | 33 قراءة

مركز باحث للدراسات الفلسطينية والاستراتيجية