التصنيفات » مقالات سياسية

العلاقات المصرية- الإسرائيلية في ظلّ الحَرب على غزة

العلاقات المصرية- الإسرائيلية في ظلّ الحَرب على غزة

 تقدير موقف

بقلم: وليد حباس
المركز الفلسطيني للدراسات الإسرائيليّة 
شهدت العلاقات بين "إسرائيل" ومصر خلال الحرب الإباديّة على غزة تحوّلات ملحوظة؛ ووَصَفَت بعض التقارير الإسرائيلية هذا التحوّل بأنه انتقال من حالة "السلام البارد" إلى حالة "التهديد الكامن". وعلى الرّغم من أن القراءات الإسرائيلية في العام 2025 لمُستقبل اتفاقيّة السلام مع مصر لا تُشير إلى انهيار معاهدة السلام (على الأقل في المدى القريب)، فإنها ترى أن هناك  مؤشّرات على "تآكل" الأسس التي بُنيَت عليها، بسبب تطوّرات: 1) أمنيّة مُرتَبطة بتعاظم التواجد العسكري المصري في سيناء، و2) سياسيّة متعلّقة بملف تهجير سكّان غزة، وسيطرة "إسرائيل" على معبر رفح، والمصير السياسي لقطاع غزة، و3) اقتصاديّة تخصّ الاعتماد المُتَزايد لمصر على الغاز الإسرائيلي. 
تَستَعرض ورَقة تقدير الموقف الحاليّة هذه التحوّلات التي طرَأت خلال الحرب، وتُقَدّم قراءة للكيفيّة التي تُقَيّم بها "إسرائيل" تداعيات هذه التحوّلات ومَساراتها المُحتمَلة في المستقبل. 
تنقسم الورقة إلى ثلاثة أقسام: يُقَدّم القسم الأوّل خلفيّة عامّة عن العلاقة المصرية-الإسرائيلية منذ اتفاقيّة كامب ديفيد العام 1979، مع التركيز على نموذج "السلام البارد" الذي يَجمع تعاونًا أمنيًا واقتصاديًا رسميًا، مع غياب تَقَبّل شعبي مصري للعلاقة مع "إسرائيل". ويستَعرض تطوّر التواجد العسكري المصري في سيناء حتى أكتوبر 2023، ودور مصر في إدارة معبَر رفح، وفي الوساطة في الحروب الإسرائيلية السابقة على غزة .(2005–2022) 
يُرَكّز القسم الثاني على الملفّات الخلافيّة التي برزَت منذ 7 أكتوبر، وتحديدًا بعد إعادة احتلال رفح (صيف 2024)، وعلى رأسها قضية تهجير سكّان غزة، والسيطرة على معبَر رفح، وتصاعد الحضور العسكري المصري في سيناء بشكل تراه أوساط إسرائيلية بأنه يتجاوز التفاهمات بين البلَدين؛ بالإضافة إلى ملف الغاز والطاقة.
أما القسم الثالث، فيَعرِض أبرز التوصيات الإسرائيلية بشأن مستقبل العلاقة مع مصر، انطلاقًا من قراءة تُشَخّص الوضع الراهن كتَوَتّر بين حرص "إسرائيل" على الحفاظ على اتفاقيّة السلام من جهة، والحاجة إلى التعامل مع واقع  ميداني مُتَدهور قد يُهَدّد تلك الاتفاقيّات وأطُر التعاون من جهة أخرى.
1. إسرائيل ومصر بعد توقيع اتفاقيّة السلام (1978)
كانت مصر أوّل دولة عربية تُوَقّع اتفاقيّة سلام مع "إسرائيل" من خلال اتفاقيّة كامب ديفيد (17 أيلول 1978). ووصِفَت العلاقات التي أقيمت في أعقاب هذه الاتفاقيّة بالـ "السلام البارد"[1]  الذي أصبح لاحقًا يُمَيّز علاقة "إسرائيل" مع كلّ من مصر والأردن (مُقارَنةً مع السلام "الدافئ" الذي يُشير إلى الاتفاقيّات الإبراهيمية). 
يتميّز السلام البارد بأربعة عناصر:[2]
• انحصار العلاقات مع "إسرائيل" بالمستوى الرسمي، بما يشمل العلاقات السياسية، والأمنية والاقتصادية، دون تقارب شعبي أو قبول جماهيري؛
• وجود جماعات واسعة مُناهِضة لاتفاقيّات السلام داخل الدولة، مثل النقابات المهنيّة، والمُثَقّفين، والأحزاب الإسلامية واليسارية، بحيث أن "ثقل الشارع" المُناهِض لإسرائيل (واتفاقيّات السلام معها) لا يزال حاضِرًا في حسابات كلٍ من مصر والأردن، خصوصًا أثناء الحروب؛
• غياب قنوات التأثير التي تقودها مصر والأردن تجاه مُواطنيها لتطبيع الاتفاق في الحيّز العام، مثل التبادل الثقافي؛[3]
• استمرار الخلافات حول القضية الفلسطينية في ظلّ تمسّك دول "السلام البارد" بحلّ الدولتين وانسحاب "إسرائيل" من الأرض المحتلّة العام 1967. لكن مصر (وكذلك الأردن) انتقلَت من دور اللاعب الفاعل (عَداوة رسمية وحروب مع "إسرائيل") إلى دور الداعم الدبلوماسي للفلسطينيين؛ أي: العمل في المَحافل الدولية، لعب دور الوساطة، الإقرار بأن منظّمة التحرير هي صاحبة الشأن في حلّ الصراع. 
نَصّت اتفاقيّة السلام بين مصر و"إسرائيل" على انسحاب "إسرائيل" الكامل من شبه جزيرة سيناء، بما في ذلك تفكيك جميع المستوطنات الإسرائيلية المُقامة فيها؛ وهو ما حصل تدريجيًا، إلى أن اكتمَل العام 1982.[4]  وقد كانت هناك 14 مستوطنة إسرائيلية في سيناء، أبرزها المستوطنة-المدنية "ياميت" (التي تمّ التخطيط لها لتكون مدينة ريفيرا)، والتي ضمّت في 1981-1982 نحو 600 منزل فقط.
كما تضمّن الاتفاق خطوات رمزيّة، تمثّلت في إقامة نُصُب تذكارية داخل "إسرائيل" للجنود المصريين الذين سقَطوا في حرب 1948[5] ، أحدها أقيم قرب أسدود، والآخر قرب متسودات يوآف، مُقابِل التزام مصري بالحفاظ على نُصُب إسرائيلية في سيناء تُكَرّم جنودها الذين سقطوا هناك. مَثّلت هذه الخطوات مُحاوَلة لتكريس اتفاق بدا للبلَدين قويًا ومستقرًا، لكنّه ظلّ هشًا على المستوى الشعبي المصري. 
قضايا جيو-استراتيجيّة وسياسية محورية
هناك مسألتان تقَعان في صلب العلاقة بين البلدين  منذ توقيع اتفاق السلام، وتنطَويان على أبعاد استراتيجيّة تؤثّر باستمرار على ديناميّات العلاقات بين البلَدين، وهما: 1) الانتشار العسكري المصري في سيناء و2) ملف غزة، بما يشمل إدارة معبَر رفح وملف الوساطة.
1.1  الانتشار العسكري المصري في سيناء
قُسّمَت سيناء بموجب الاتفاقيّة، إلى ثلاث مناطق أمنيّة رئيسة (إضافة إلى جَيْب جغرافي رابع داخل حدود "إسرائيل") بهدف ضبط التوازن العسكري:
• المنطقة Aخُصّصت لانتشار فرقة مُشاة ميكانيكيّة مصرية يصل قوامها إلى 22,000 جندي.
• المنطقة Bسُمِح فيها لمصر بنشر أربع كتائب من قوّات أمن الحدود  لدعم الشرطة المدنيّة.
• المنطقة Cخُصّصَت لقوّات حفظ السلام الدولية (القوّة مُتَعَدّدة الجنسيات والمُراقِبين) والشرطة المدنية المصرية فقط، دون السماح بوجود عسكري مصري أو إسرائيلي.
• المنطقة Dالواقعة في الجانب الإسرائيلي، سُمِح فيها لإسرائيل بنشر أربع كتائب مُشاة فقط.
بعد إتمام الانسحاب الإسرائيلي في 1982، استمرّت "إسرائيل" في احتلال منطقة طابا الصغيرة الواقعة على خليج العقَبة، بزَعم أنها ضمن حدودها الدولية. وفي العام 1986، تمّ تحويل النزاع إلى لجنة تحكيم دولية، التي أصدَرت حُكمها لصالح مصر في أيلول من العام نفسه. وُقّعَ الاتفاق النهائي في شباط 1989، حيث أُعيدَت السيادة المصرية على منطقة طابا، مع الاتفاق على تعويضات ماليّة للمُمتَلكات الإسرائيلية و"تسهيل" الدخول والوصول للإسرائيليين بعد الانسحاب منها.
سادَت سيناء حالة من الهدوء النسبي بعد اتفاقيات السلام. لكن منذ أواخر التسعينيّات، تَحَوّلت سيناء إلى مركز للتهريب Smuggling Hub[6] ؛ وكانت غزة إحدى الجهات التي استفادت (على طريقتها) من هذه الظاهرة لتهريب السلاح والوقود والأموال. بَيْد أن ظاهرة التهريب أخذَت تتطوّر بشكل لافت بعد الانسحاب الإسرائيلي من غزة العام 2005 (انظر/ي أدناه). كما شهدت سيناء عدّة هجمات مُسَلّحة، أبرزها تفجيرات 2004 و2005 في طابا وشرم الشيخ ودهب؛ ورَدّت عليها الدولة المصرية بقوّات شرطة وشبه عسكرية، دون أن يكون هناك تغيّرات ملموسة على جوهر اتفاقيّة السلام مع "إسرائيل" وبنودها المتعلّقة بالتواجد العسكري المصري في سيناء.
مع سقوط نظام مبارك، في 2011، حصَل ما يُشبه  فراغ أمني في سيناء، والتي نشطت فيها بشكل مُتصاعد الجماعات المسلّحة، مثل جماعة التوحيد والجهاد (ذات الأيديولوجية المُقَرّبة من القاعدة) وجماعة أنصار بيت المقدس (المُقَرّبة من داعش). وعليه، قامت مصر بإدخال 800 جندي مصري إضافي إلى سيناء؛ وهو ما لم تستطع "إسرائيل" مُعارَضته، بل وافقت عليه؛ ممّا دفَع العديد من المُحَلّلين الإسرائيليين إلى الادّعاء بأن المُلحَق العسكري لاتفاقيات كامب ديفيد لم يعد يحكم التواجد العسكري المصري في سيناء.[7]  ومع ذلك، فإن الفترة التي أعقبَت سقوط نظام مبارك شهِدت أحداثًا مُتَسارعة لا بدّ من سَردِها:
• شهِدت العلاقات المصرية-الإسرائيلية فترة توتّر قصيرة أعقبت ثورة 2011 في مصر، والتي أثارت مخاوف إسرائيلية بشأن مستقبل مُعاهَدة السلام. ورغم تأكيد الجيش المصري التزامه بالمُعاهَدات، تراجعت العلاقات إلى أدنى مُستوياتها منذ 1979، مع تصاعد التهديدات الأمنيّة في سيناء وتصاعد الاحتجاجات الشعبية ضدّ "إسرائيل". في هذا السياق، اقتُحِم مَقَرّ السفارة الإسرائيلية في القاهرة، وأُجلِي السفير وطاقمه. كما فتَحت مصر معبَر رفح جزئيًا، ما اعتبَرته "إسرائيل" تقويضًا للحصار على غزة. 
• مع تَوَلّي عبد الفتّاح السيسي الحُكم في 2014، تطوّرت العلاقات بشكل كبير، مع تعاون عسكري وثيق في مُحارَبة الإرهاب. لكن في هذه الفترة، بدأت مصر خطّة شاملة لإعادة بناء الجيش وتوسيع انتشاره في كلّ الحدود، وبشكل خاص في سيناء. نَفّذت القاهرة استثمارات ضخمة في البنية التحتيّة في سيناء (تجاوزت 600 مليار جنيه مصري)، في إطار رؤية "الجمهورية الجديدة" لتعزيز التنمية والأمن في المنطقة.
• في العام 2015 أقيمت آليّة "نشاطات مُتّفَق عليها" بين "إسرائيل" ومصر، حيث بات التنسيق بينهما يُدار عبر لجنة عسكرية مُشتركة، وبإشراف القوّة مُتَعَدّدة الجنسيات(MFO)  المُنتَشرة في سيناء.[8]
حسب التفاهمات المصرية-الإسرائيلية، فإن أهداف الوجود العسكري المصري هي مُحارَبة الإرهاب، والسيطرة على الحدود مع غزة ومنع تهريب السلاح، وحماية مشاريع التنمية الاستراتيجيّة الجديدة، مثل قناة السويس الجديدة والمناطق الاقتصادية المُجاورة. ومع أن هذا التمدّد العسكري المصري في سيناء جاء ضمن تفاهمات مع الجانب الإسرائيلي، إلّا أن بعض المسؤولين في "إسرائيل" يَرون أن البنية التحتيّة العسكرية التي تَبنيها مصر في سيناء (مطار، قواعد، مراكز لوجستيّة) قد تُستَخدم لأغراض هجومية مُستقبلًا، رغم الخطاب الرسمي المصري المُلتَزم بالسلام. بعد سيطرة "إسرائيل" على معبَر رفح منتصف 2024، بدأت مصر تُرَكّز قوّاتها العسكرية في سيناء بشكل مُتزايد، ممّا أثار قلَق "إسرائيل"، كما هو مُفَصّل في القسم الثاني من هذه الورقة. 
1.2  ملف غزة، معبَر رفح، والوساطة المصرية
نصّت اتفاقيّة كامب ديفيد المصرية-الإسرائيلية على مُلحَق يدعو إلى إقامة حكم ذاتي للفلسطينيين في الضفة الغربية وقطاع غزة، يبدأ فَور انتخاب مجلس تمثيلي فلسطيني، ويستمر مدّة خمس سنوات، يتم خلالها التفاوض على اتفاق نهائي بشأن الوضع الدائم.[9]  إلّا أن هذا البند من اتفاقيّة كامب ديفيد لم يُنَفّذ قط؛ إذ انسحبت مصر من المفاوضات المرتبطة به عقب الاجتياح الإسرائيلي للبنان العام 1982؛ وظلّ هذا المشروع مُجَرّد نص مؤجّل ضمن الاتفاقيّة إلى أن أُعيد إحياؤه، بصيغة أخرى، وبدون دور مصري، بتوقيع اتفاق أوسلو العام 1993.
أما مدينة رفح، فقد واجهت تحدّيًا خاصًا. فبعد أن توسّعت المدينة خلال فترة غياب الحدود الفعلية (1948–1982)، أعيد ترسيم خط الحدود بعد انسحاب "إسرائيل" من سيناء (1982)، حيث أنشأت "إسرائيل" محور صلاح الدين (أو ما بات يُعرَف بالعبريّة باسم "محور فيلاديلفي")[10] ، الذي شَقّ المدينة إلى قسمين: رفح المصريّة ورفح الغزيّة. وُضع بدايةً سياج بسيط في مُنتصَف أحد الشوارع، ثم تطوّر الوضع في فترة الانتفاضة الأولى ونشاطات التهريب.
وفي العام 2005، انسحبت "إسرائيل" بالكامل من قطاع غزة ضمن خطّة "فك الارتباط"، وأزالت الإدارة العسكرية واستبدَلتها بمكتب ارتباط  مقرّه في حاجز آيرز، بحيث أن الاحتلال استمرّ بشكله الحِصاري (ما بات يُعرَف بـ "الاحتلال بالريموت/التحكّم عن بُعد"). وفي 15 تشرين الثاني 2005، وَقّعت السلطة الفلسطينية و"إسرائيل"، وتحت رعاية الخارجية الأميركية، مُمَثليّة السياسة الخارجية في الاتحاد الأوروبي، والرباعيّة الدوليّة، الاتفاق المعروف باسم "اتفاق الحركة والوصول"، للاتفاق حول آليّات عمل معبَر رفح.[11]
رغم أن مصر لم تكن طرَفًا في الاتفاق، فإنها وافقَت بموجبه على تشغيل الجانب المصري من المعبَر، من خلال التنسيق مع السلطة الفلسطينية.[12]  في هذه الفترة، وُقّع اتفاق خاص مع مصر، نصّ على نشر 750 شرطيًا مصريًا على محور صلاح الدين لمَنع تهريب السلاح والمَطلوبين. 
تفاقَم التهريب من سيناء إلى غزة بشكل ملحوظ بعد الانسحاب الإسرائيلي من غزة العام 2005، وتصاعَد مع سيطرة "حماس" العام 2007، حيث ارتفعَت الكميّات المُهَرّبَة إلى مئات الأطنان؛ وحسب تقارير أجنبيّة، شملت متفجّرات وأسلحة أخرى. يشمل التهريب قذائف وصواريخ ومواد متفجّرة، حيث تمرّ الأسلحة عبر مسارات بريّة من اليمن والسودان إلى سيناء، ثم إلى غزة عبر أنفاق. في حين أن "إسرائيل" اعتبَرت التهريب فشلًا أمنياً مصريًا، شخّصت مراكز أبحاث أجنبية أن "الفشل" المصري ناجم عن ضعف التنسيق الأمني مع "إسرائيل"، وسياسات الحصار المفروضة على القطاع.[13]
في 2007، غادر المُراقبون الأوروبيون معبَر رفح بعد سيطرة حركة حماس على قطاع غزة بالكامل، ما أدّى إلى إغلاقه من قِبَل المصريين. في كانون الثاني 2008، فَجّرت حماس الجدار الحدودي مع مصر، وتدفّق مئات الآلاف من الغزّيين إلى رفح المصرية، ما أثار مخاوف إسرائيلية بشأن تهريب أسلحة ومسلّحين. في 2009، بدأت مصر بناء جدار فولاذي تحت الأرض، بطول 10 كلم وعمق 35 مترًا، لمنع حَفر الأنفاق التهريبية من غزة إلى رفح المصرية. في كلّ جولة من جولات القتال التي شنّتها "إسرائيل" على غزة (2012-2023)، استمرّت "إسرائيل" في استهداف أنفاق التهريب، دون أن تتمكّن من إنهاء الظاهرة، إلى أن سيطَرت على الحدود الغزية-المصرية مُجَدّدًا، وبشكل كامل، في أيار 2024. 
تُشَكّل مسألة السيطرة على الحدود الغزيّة-المصريّة (أو محور صلاح الدين) أحد أهم نقاط التوتّر بين مصر و"إسرائيل"، بعد إتمام احتلال رفح في 2024 وسيطرة "إسرائيل" على الجانب الفلسطيني من معبَر رفح. 
وبالتزامن مع انسحاب "إسرائيل" من غزة (2005)، ومن ثمّ سيطرة حماس على معبَر رفح (2007)، بدأت مصر تلعب دور الوسيط بين "إسرائيل" وفصائل المقاومة في غزة، وتحوّلت إلى الجهة الإقليمية الأساسية التي تتوسّط في كلّ جولة تصعيد أو تهدئة بين الطرَفيْن.
الوساطة تعني تولّي مصر نقل الرسائل، واقتراح اتفاقات وقف إطلاق نار، وتنسيق المُبادَرات الإنسانية والأمنيّة بين "إسرائيل" من جهة، وفصائل المقاومة (خصوصًا حماس والجهاد الإسلامي) من جهة أخرى. ويتم ذلك غالبًا بعيدًا عن الأضواء، عبر جهاز المُخابرات العامة المصرية.[14]
تُمَثّل الوساطة المصرية بالنسبة لمصر ورَقة نفوذ إقليمية، تسمح لها بلعب دور "فاعل إقليمي محوري"، وتُعَزّز علاقاتها مع الولايات المتحدة وأوروبا كـ "ضامن للتهدئة"، وتحمي أمنها القومي، خصوصًا في سيناء، عبر ضبط حدود غزة ومنع تسلّل السلاح أو المُسَلّحين. لكن مصر لم تكن الوسيط الوحيد؛ فمنذ زيارة أمير قَطَر، الشيخ حمد بن خليفة آل ثاني، إلى غزة العام 2012، أصبح دور قَطَر طرَفًا رئيسيًا في جهود الوساطة إلى جانب مصر، ممّا دفَع معهد الأمن القومي الإسرائيلي إلى الترحيب بهذا التوليفة التي تجمع بين "العصا المصريّة" (مُحاربَة الأنفاق والضغط على حماس) و"الجَزْرة القَطَريّة" (المال القَطَري لحماس)، ممّا يُبقي القطاع هادئًا وقابلًا للإدارة.[15]  مع ذلك، أشارَت العديد من التقارير إلى أن هناك وجهًا آخر لما يُمكن أن يجمع بين الثلاثي: مصر-قَطَر-إسرائيل في علاقتهم مع غزة. فقد أشارَت تقارير إسرائيلية إلى أن مصر تُتابع بدقّة فضيحة "قطرغيت" في إسرائيل (QatarGate)،[16]  والتي تكشف عن شُبُهات بتَوَرّط مُقَرّبين من نتنياهو في علاقات ماليّة غير قانونية مع قَطَر لتحسين صورتها كوسيط في مفاوضات الأسرى، وتشويه دور مصر. تمّ تنفيذ الحملة عبر شركة ضغط أميركية ورجل أعمال إسرائيلي في الخليج. حسب هذه التقارير، فإن التورّط القَطَري المُحتَمل في التأثير الإعلامي بهدف إبراز نفسها كوسيط "أفضل" من الوسيط المصري، يُشير إلى أن بروز الدور القَطَري في ملف الوساطة خلال الحرب الحالية لم يكن مُنَسّقًا تمامًا (نظريّة العصا والجَزْرَة)، وإنما جزء من المُنافَسة الإقليمية بين قَطَر ومصر. مع ذلك، أشارت التقارير الإسرائيلية التي تتبنّى هذا الفهم إلى أن القاهرة التزمت الصمت إزاء فضيحة قَطَرغيت، مُرَكّزة على أمنها القومي وتعزيز قوّتها العسكرية في سيناء، مُتَجَنّبَة مُواجَهة مُباشِرة مع قَطَر أو إسرائيل.[17]
 
2. مصر و"إسرائيل" في ظلّ الحرب الإباديّة على غزة: من السلام البارد إلى الحرب الباردة؟
بعد هجوم 7 أكتوبر وبداية حرب الإبادة على غزّة في 2023، تَبَنّت مصر موقفًا صارمًا ضدّ التصعيد الإسرائيلي. وتزايدت التقارير الإسرائيلية والمصرية والدولية بأن العلاقات الإسرائيلية-المصرية تمر بتوتّرات غير مسبوقة منذ توقيع اتفاقية السلام بين البلدين في 1978. من الصعب معرفة مدى انعكاس هذه التوتّرات الآن على التعاون الأمني والاقتصادي الرسمي في ظلّ عدم توفّر معلومات عنها؛ إلّا أنها أيضاً قد لا تكون عابرة هامشيّة، للأسباب التالية:
2.1  ملف تهجير سكّان غزة
مع عودة دونالد ترامب إلى البيت الأبيض، شهِد مطلع العام 2025 ضغوطًا إسرائيلية وأميركية على القاهرة لقبول تهجير الفلسطينيين من غزة إلى سيناء. في هذا السياق، بدَت العملية العسكرية "مركَبات جدعون" بعد انتهاء اتفاق تبادل الأسرى (كانون الثاني-آذار 2025)، وكأنها مُصَمّمة لفرض واقع طارد تهجيري جديد بالقوّة، مُستَغِلّةً الفوضى الميدانية.
ترفض مصر بحسم التهجير، ليس فقط لأسباب قومية عربية، بل أيضًا نتيجة حسابات تتعلّق بالأمن القومي المصري.[18]  إنّ فتح المجال أمام موجات لجوء واسعة من غزة تجاه مصر، قد يعني أيضاً انتقال المُقاتِلين أو الناشطين الفلسطينيين إلى سيناء؛ وقد يؤدّي الأمر من مَنظور مصري إلى اندماج الفصائل الفلسطينية المسلّحة مع خلايا التمرّد المحلّي في سيناء، وتَشَكّل جيوب مُقاومة يصعب ضبطها، ما يُعَرّض الأراضي المصرية لخطَر الضربات الإسرائيلية تحت ذريعة "مُطارَدة المُسَلّحين". ويُخشى من أن تتطوّر الأمور إلى تكرار تجربة "أيلول الأسود" في الأردن العام 1970، مع ما يَعنيه ذلك من صدامات دمويّة بين دولة عربية ومقاومة فلسطينية. 
في هذا السياق، عَبّرت مصر عن استيائها المُتَكَرّر من سيطرة "إسرائيل" على الجانب الفلسطيني من معبَر رفح، الذي تعتبره القاهرة ركيزة لدورها الإقليمي، وعلاقتها مع الفلسطينيين، ويتعلّق بأمنها القومي (المُرتَبط بتحديد كميّة ونوعيّة التواجد العسكري الإسرائيلي على الحدود المصرية).[19]  ورَدّت بإنشاء جدران إسمنتيّة وحواجز مُدَعّمة، في خطوة يُفهَم منها أنها تهدف إلى ردع أيّ نزوح جماعي مُحتمَل.
وَوِفقَ مُجمَل القراءات الإسرائيلية الحالية، فإن العلاقات بين القاهرة وتل أبيب، ورغم ما تتّسم به من تنسيق أمني وتعاون اقتصادي في مجالات محدّدة، تفتقر إلى قناة حوار استراتيجي مُستَقِر، تُعنى بإدارة الملفّات الخلافيّة الكبرى، وعلى رأسها ملف معبَر رفح  وسيناريو التهجير الجماعي. هذا الغياب يُوصَف في القراءات الإسرائيلية بأنه "إهمال استراتيجي”[20]  ، يُضعِف إمكانيّات الطرفيْن على ضبط التوتّرات ويزيد من هشاشة المنظومة الأمنية والسياسية في لحظة إقليمية شديدة السيولة والتقلّب.
2.2 قلَق إسرائيلي من تزايد الوجود العسكري المصري في سيناء
يُثير تزايد التواجد العسكري المصري في سيناء قلَقًا مُتَزايدًا في الأوساط الأمنية والعسكرية الإسرائيلية. فَوِفقًا لاتفاقيّة كامب ديفيد (انظر/ي القسم السابق من هذه الورَقة)، يُسمَح لمصر بنشر فرقة ميكانيكيّة ولواء دبّابات فقط في المنطقة (ما يُعادِل 47 كتيبة و300 دبّابة). لكن المُعطَيات الحالية تُظهِر أن الجيش المصري نشَر ما يُقارِب 180 كتيبة، أي نحو أربعة أضعاف الحدّ المسموح به. كما أن الانتشار لم يتوقّف عند المسافة المُحَدّدة من قناة السويس (60 كم)، بل امتدّ حتى العريش ورفح على الحدود مع غزة.[21]
رغم أن هذا التوسّع العسكري لم يبدأ في أعقاب حرب غزة الأخيرة، كما ذكرنا أعلاه، فإنه بدأ خلال الحرب الحالية يُثير القلَق الإسرائيلي بسبب حجمه ونوعيّته. وبحسب تقديرات إسرائيلية، وصَل عدد الجنود المصريين في سيناء اليوم بين 45,000 و66,000، وهو رقم غير مسبوق منذ توقيع اتفاقيّة السلام.[22]  لكن الأمر لم يتوقّف عند الأعداد. فحسب "إسرائيل"، أنشأت مصر بنية تحتيّة عسكرية متطوّرة في سيناء دون "تنسيق مُسبَق"، بما يشمل: قاعدة جويّة جديدة مُزَوّدة بمدرج لطائرات  F-16، مستودعات ذخيرة محصّنة، مركز عمليات تحت الأرض بعمق 27 مترًا، وقاعدة بحريّة متقدّمة شرق بورسعيد.[23]  ورغم نفي مسؤولين مصريين للطابع التصعيدي لهذه التحرّكات واعتبارها "روتينيّة ومُنَسّقة”[24] ، فإن أصواتًا إسرائيلية، مثل الجنرال المُتقاعد يتسحاق بريك، اعتبرَت أن مصر تتنصّل ميدانيًا، "وبالعقل"، من التزاماتها في اتفاق السلام، وإن لم تُلغِ الاتفاق رسميًا.[25]
هذا التوجّه المصري لا يُمكِن فصله عن التحوّلات في ميزان التسليح الإقليمي. فمنذ عقود، حرصت الولايات المتحدة على الحفاظ على التفوّق العسكري الإسرائيلي و"منَعت" مصر من اقتناء أسلحة نوعيّة، مثل طائرات سوخوي-35 أو منظومة S-400  الروسية.[26]
غير أن القاهرة، في عهد الرئيس عبد الفتّاح السيسي، تنوّعت في مصادر تسليحها، فاشترَت غوّاصات ألمانية، وطائرات ميغ ومروحيّات كا-52 من روسيا، ومعدّات دفاعية من فرنسا والصين. هذا التسلّح يختلف في طبيعته عن أسلحة "مُكافَحة الإرهاب"؛ بل ويُشير إلى التحضّر لمُواجَهات تقليدية مع جيوش نظامية، ما عَزّز القناعة لدى "إسرائيل" بأن مصر تُعيد هَيكَلة قدراتها لسيناريوهات إقليمية مُحتَملة.[27]
2.3  تنامي خطاب التحريض على مصر
في ظلّ التوتّر المُتَصاعد بين مصر و"إسرائيل"، تُوَجّه الأخيرة اتّهامات مُباشرة للقاهرة بخرق اتفاقية كامب ديفيد، من خلال إرسال قوّات إضافيّة إلى سيناء وبناء مُنشآت عسكرية استراتيجية. هذه الاتّهامات عَبّر عنها عدد من المسؤولين الإسرائيليين، بينهم رئيس الأركان الأسبق هرتسي هاليفي، الذي صَرّح عقب انتهاء ولايته: "لا نرى مصر تهديدًا مُباشرًا؛ لكن الأمور قد تنقلب فجأة. هناك جيش مصري ضخم، مُزَوّد بطائرات وغوّاصات وصواريخ، ودبّابات ومُشاة مُقاتِلين".[28]  أما السفير الإسرائيلي في واشنطن، يحيئيل لايتر، فوصَف الإجراءات المصرية بأنها "انتهاك خطير"، بينما دعا داني دانون إلى مُراقَبة المشروع العسكري المصري، مُتسائلًا: "لا توجد تهديدات حقيقية لمصر، فلماذا هذا التسليح الضخم؟".
بالتوازي، تُحاوِل "إسرائيل" تحميل مصر "مسؤوليّة ضمنيّة" عن تعاظم قدرات "حماس" العسكرية، خصوصًا بعد انسحابها من غزة العام 2005، وتُحَمّل القاهرة مسؤولية أمن محور صلاح الدين. رغم أن مصر نفّذت بين 2011 و2020 إجراءات صارمة – مثل إقامة منطقة عازلة بعَرض 7 كيلومترات، وبناء جدار إسمنتي بعمق 16 قَدَمًا، وإغراق نحو 1500 نفق – إلّا أن تقارير إسرائيلية تتّهم جهاز المخابرات المصري بالتغاضي عن عمليات تهريب تقودها شبكات على رأسها إبراهيم العرجاني، والتي يُزعَم أنها وفّرت دعمًا لوجستيًا لحماس، ساهم في هجوم 7 أكتوبر 2023.
وفي السياق الإعلامي، كشَف معهد السياسة للشعب اليهودي (JPPI) تقريراً اتّهم فيه الخطاب الإعلامي الرسمي المصري بتصعيد لهجة العداء لإسرائيل، إلى درجة أنه وصفَها بالمُشابِهة للخطاب التحريضي ما قبل حرب 1967. وأظهَر تقريره أنه بعد تحليل لـ 4000 مقال في صحيفتي "الأهرام" و"الجمهورية"، بين كانون الثاني 2024 وآذار 2025، فإن 87% من المواد المُرتَبطة بإسرائيل كانت سلبيّة، و30% من المقالات التي تناولت اليهود احتوَت على مضامين "مُعادِية للساميّة".[29]
2.4  ملف الطاقة والغاز
بينما أن اتفاق السلام بين "إسرائيل" ومصر ظلّ مُستَقرًا إلى حدّ كبير خلال العقود الثلاثة الأولى (1979-2010)، إلّا أن اكتشاف حقول الغاز أدخل مُرَكّبًا حيويًا، لا يمكن تجاهله، في العلاقة الجيوسياسية بين البلدين. بدأ ملف الغاز الطبيعي بالتفاعل بشكل واضح  بعد الاكتشافات  الكبرى في شرق المتوسط، وعلى رأسها حقل "تمار" (2009)، و"ليفياتان" (2010)، ثم حقل "ظهر" المصري .(2015) 
من المهم الإشارة إلى أن مصر تستهلك نحو 6.8 مليار قدَم مكعّب من الغاز يوميًا، بينما يبلغ الإنتاج المحلّي حوالي 5 مليارات قدم مكعّب فقط، ممّا يخلق فجوة تحتاج إلى تغطيتها بالاستيراد. في العام 2020، بدأت مصر استيراد الغاز من "إسرائيل" ضمن صفقة قيمتها 15 مليار دولار وُقّعَت في 2018.[30]
اعتمدت مصر على الغاز الإسرائيلي لتغطية جزء كبير من احتياجاتها المحليّة، ولتعزيز صادراتها من الغاز المُسال من خلال مُنشآت إدكو ودمياط. ومع توقيع مُذَكّرة تفاهم ثلاثيّة في 2022 بين مصر و"إسرائيل" والاتحاد الأوروبي، تَعَزّز موقع القاهرة كمركز إقليمي للطاقة. وبحلول العام 2023، ارتفعَت واردات مصر من الغاز الإسرائيلي إلى نحو 8.7 مليار متر مكعّب سنويًا، ما يُعادِل حوالي 17% من استهلاكها.
رغم ذلك، كشفَت الحرب الإسرائيلية على غزة هشاشة هذه المُعادَلة. ففي أكتوبر 2023، أوقفَت "إسرائيل" مؤقّتًا الإنتاج من حقل تمار لأسباب أمنيّة، ما أدّى إلى انخفاض حاد في إمدادات الغاز لمصر وتراجع صادراتها من الغاز المُسال، وخسائر قُدّرَت بأكثر من 8 مليارات دولار. تكرّرت هذه الانقطاعات لاحقًا خلال أعمال صيانة وتصعيدات أمنيّة أخرى، ممّا أثار تساؤلات استراتيجيّة حول اعتماد مصر المُتَزايد على مصدر خارجي غير مُستَقِر، سياسيًا وأمنيًا.
من جهة أخرى، وَفّر الغاز مظلّةً اقتصادية جديدة لاتفاقيّة السلام المصرية-الإسرائيلية، حيث حافظت القاهرة على خطوط التعاون الفنّي رغم التوتّرات السياسية. ومع أن هذا التشابك الاقتصادي أضعَفَ من قدرة مصر على اتخاذ مواقف سياسية أكثر حدّة تجاه "إسرائيل"، فإنه عَزّز منطق السلام القائم على المصالح المشتركة، ورَسّخ دور مُنتدى غاز شرق المتوسّط كمنصّة دائمة للحوار الإقليمي في مجال الطاقة.
جدول (1): آبار الغاز الأهم في شرقي البحر المتوسط (مصر-"إسرائيل"-قبرص)
الدولة اسم الحقل الاحتياط (مليون/متر مكعّب) المجموع
مصر الظهر 850,000 38.4٪
مصر النرجس 99,000
مصر النورس 90,000
مصر بلطيم 28,000
مصر أطول 28,000
مصر أبو قير 3200
إسرائيل تامار 305,821.4 38٪
إسرائيل نوا الشمالية 1,415.8
إسرائيل ماري بي 28,316.8
إسرائيل داليت 19,821.8
إسرائيل ليفياتان 622,969.6
إسرائيل دولفين 2,300.2
إسرائيل كاريش 65,128.6 – 101,940.5
إسرائيل تانين 33,980.2 – 36,811.8
إسرائيل زيوس 13,026.7
إسرائيل هيرميس 15,007.9
إسرائيل كاتلان 67,960.3
إسرائيل أثينا 11,612.9
قبرص 23.6٪
 
3. كيف ترى "إسرائيل" الدور المصري بعد حرب 7 أكتوبر؟
رغم أن اتفاقيّة السلام بين مصر و"إسرائيل" لا تُواجِه خطَر انهيار وفق القراءات الإسرائيلية، على الأقل في المدى المنظور، فإن الحرب أدّت إلى توتّرٍ عالٍ وتراجع ملحوظ في مستوى العلاقات بين القاهرة وتل أبيب، حيث اتخذت مصر خطوات غير مُعلَنة لتخفيض مستوى العلاقات الدبلوماسية، من بينها تأخير الرد على تعيين سفير إسرائيلي جديد، واستدعاء السفير المصري من تل أبيب دون إعلان رسمي بسحبه. كما انضمّت إلى جنوب إفريقيا في القضية المرفوعة ضدّ "إسرائيل" أمام محكمة العدل الدولية. تَعتَبر التقييمات الإسرائيلية هذه الخطوات مجرّد استجابة لضغوط الشارع، بدون أن يكون لها دور محوري في إعادة تشكيل العلاقة بين البلَدين. لكن في المقابل، تُرَكّز التقييمات الإسرائيلية على ثلاثة محاور قد تكون مصيرية في تقرير مستقبل العلاقات ما بين البلدين، وهي:
3.1  غياب رؤية سياسية استراتيجيّة مُشتَركة
رغم التعاون الأمني والعسكري الوثيق بين "إسرائيل" والحكومة المصرية، يرى ضبّاط إسرائيليون مُطّلِعون على العلاقة بين البلدين أن العلاقة مع مصر تفتَقر إلى "رؤية استراتيجيّة مُشترَكة" حول مستقبل غزة والمنطقة. صحيح أن "إسرائيل" (حتى الآن)، ترى أن اتفاقيّة السلام ليست مُهَدّدة بالتجميد أو الإلغاء بشكل فوري، إلّا أن مجموعة من القادة الأمنيين والعسكريين الإسرائيليين يرون أن مصر "تمر بتحوّلات تُثير القلَق بشأن مستقبل العلاقة معها... ولا يجب اعتبار الشراكة معها أمرًا مفروغًا منه".[31]
مثلاً، يرى باحثو معهد أبحاث الأمن القومي الإسرائيلي أن "عدم وضوح سياسة إسرائيل حول 'اليوم التالي' يُصَعّب على القاهرة بلورة سياسة بنّاءة"؛ بمعنى أن مصر تتعامل مع فراغ استراتيجي في الجانب الإسرائيلي تجاه مستقبل غزة، ما يُعَمّق فجوة الثقة.[32]  فهذه المرّة، وعلى خلاف موجات الغضب الشعبي في مصر تجاه حروب "إسرائيل" مع قطاع غزة، فإن "تصعيد الخطاب الرسمي والشعبي المصري [خلال هذه الحرب] يجب أن يُشعِل أضواءً حمراء في إسرائيل".[33]
وعليه، تدعو قطاعات واسعة من المجتمع الأمني والسياسي في "إسرائيل" إلى تأسيس آليّة حوار سياسي-أمني رفيعة المستوى مع مصر، تشمل ملفّات: غزة، سيناء، الطاقة، والخطاب العدائي في الإعلام المصري.[34]  ترى هذه الأطراف أن الاعتماد على قنوات تنسيق أمنيّة غير سياسية يُمَثّل "إهمالًا استراتيجيًا"، خصوصًا أن ما حصَل بعد 7 أكتوبر أظهَر "تآكل" التفاهمات القديمة التي قامت عليها اتفاقيّة السلام مع مصر. وتدعو هذه الدوائر إلى توسيع التعاون في مجالات متعدّدة، مثل الأمن البحري في البحر الأحمر، ومُكافَحة الإرهاب في سيناء، وربما إطلاق مشاريع بنى تحتيّة مشتركة، بما يشمل التعاون في قناة السويس وتأمين خطوط التجارة. كما تَبرز دعوات لإعادة النظر في الأدوات الدبلوماسية والاقتصادية التي تملكها "إسرائيل"، ومن ضمنها قدرة "إسرائيل" على الضغط على أميركا لضمان استمرار التموضع المصري داخل "المعسكر المُعتَدل".
3.2  السلام المصري-الإسرائيلي يشترط  علاقة وثيقة بين مصر والولايات المتحدة
تُشير التقديرات الإسرائيلية إلى أن اتفاقيّة السلام بين "إسرائيل" ومصر - التي وُقّعَت برعاية أميركية العام 1979 - لا تقوم فقط على التفاهم الثنائي بين القاهرة وتل أبيب، بل تعتمد في جوهرها على استمرار علاقات استراتيجيّة وثيقة بين مصر والولايات المتحدة. هذه العلاقة الثلاثيّة شَكّلت طيلة العقود الماضية "الضمانة الهيكليّة" لبقاء الاتفاق واستمراره، من خلال الدعم العسكري والاقتصادي الأميركي لمصر، وضمان توازن إقليمي يُحافِظ على الأمن الإسرائيلي.[35]
غير أن التطوّرات الأخيرة في السياسة الخارجية المصرية، خصوصًا منذ العام 2021، تُشير إلى تحوّلات مهمّة في إعادة تموضع مصر على خارطة القوى العالمية. فقد بدأت القاهرة في تنويع شراكاتها الدولية، وأظهَرت مُيولًا مُتزايدة نحو توثيق العلاقات مع خصوم تقليديين للولايات المتحدة، بما في ذلك روسيا، الصين، وإيران.
وتزداد الخطورة من هذا التحوّل حين يتم وضعه في سياق عسكري، حيث تُظهِر الوثائق الإسرائيلية قلَقًا مُتَزايدًا من التحديث العسكري السريع الذي يشهده الجيش المصري، المدعوم بصفقات ضخمة مع الصين وروسيا وفرنسا، ما يُفقِد واشنطن وتل أبيب القدرة على التأثير أو المُراقَبة الفعّالة.  هذا التوجّه، الذي يُفهَم كتحرّر من الهيمنة الغربية، يُثير في "إسرائيل" مخاوف من احتمال تحوّل مصر من شريك مُستَقِرّ إلى خصم استراتيجي مُحتمَل على المدى المتوسّط؛ خصوصًا وأن واشنطن، الضامِن الرئيس لاتفاقيّة السلام، لم تُبادِر بلعب دور في رأب الصدع بين مصر و"إسرائيل" خلال الحرب الحالية. فمع غياب دور مُستشار الأمن القومي، ووزير الخارجية، والمبعوث الخاص للشرق الأوسط، تزداد احتماليّة انهيار اتفاق السلام.
 
 3.3 سيناريو "السلام البارد " المدعوم بطاقة الغاز
تُواجِه مصر منذ العام 2023 أزمة طاقة مُرَكّبة، تتجلّى في تراجع إنتاج الغاز الطبيعي المحلّي، وتعليق تصدير الغاز المُسال، والاعتماد المُتزايد على الاستيراد لتغطية العجز في إنتاج الكهرباء. هذا الواقع أدّى إلى نشوء اعتماد هيكلي على الغاز الإسرائيلي، الذي يُشَكّل حاليًا ما يُقارب سدس استهلاك مصر من الغاز، ويُمثّل نحو 86% من حجم التبادل التجاري بين البلدين. ومع استمرار هذه الأزمة وتباطؤ الاستثمارات في الحقول المحليّة، يُتَوَقّع أن يزداد هذا الاعتماد في السنوات القادمة.[36]
بالنسبة لإسرائيل، يُعَدّ هذا الاعتماد المُتصاعِد بمثابة رافعة استراتيجيّة ذات أبعاد أمنيّة وسياسية واقتصادية. فبينما شهِدت العلاقات السياسية بين القاهرة وتل أبيب توتّرًا حادًا خلال حرب غزة، خاصّة على خلفيّة ملف معبَر رفح والمخاوف المصرية من التهجير القسري للفلسطينيين، بقِي التعاون في مجال الطاقة مُستَقِرًا نسبيًا، ولم يتأثّر بالتصعيد العسكري أو بالتباعد السياسي. يَعكس هذا الانفصال الواضح بين الجبهة السياسية والجبهة الاقتصادية-الطاقوية إدراكًا إسرائيليًا بأن استمرار تدفّق الغاز يُمَثّل ضمانة ضمنيّة للحفاظ على خطوط الاتصال والتنسيق الأمني؛ بل وقد يُسهِم في تهدئة التوتّرات طويلة الأمَد.[37]
في هذا السياق، تَنظر "إسرائيل" إلى ملف الغاز بين البلَدين كأداة ردع مُزدَوجة: فهي تمنح "إسرائيل" نفوذًا استراتيجيًا على مصر، وتُوَفّر للأخيرة مَوردًا حَيويًا لا يُمكِن الاستغناء عنه في ظلّ الأزمة الراهنة. ومن هنا، تُعَدّ هذه العلاقات ضمانة فعلية لاستمرار الحدّ الأدنى من التعاون، حتى في غياب التوافق السياسي؛ وهو ما تسعى "إسرائيل" لترسيخه كجزء من رؤيتها لما بعد الحرب.
 
 
مراجع البحث 
[1] Moomen Sallam and Ofir Winter, “Egypt and Israel: Forty Years in the Desert of Cold Peace”, INSS, Strategic Assemsent, V. 20, No. 3, October 2017. See: https://www.inss.org.il/wp-content/uploads/2017/10/egypt-and-israel.pdf. 
[2] Elie Podeh, “The Many Faces of Normalization: Models of Arab Israeli Relations”, INSS, Strategic Assessment, V. 25, No. 1, March 2022. See: https://www.inss.org.il/wp-content/uploads/2022/12/Adkan25.1Eng_Podeh.pdf. 
[3] Ruth Wasserman Lande, “Reflecting on Israel-Egypt relations”, The Misgav Institute for National Security and Zionist Strategy, 2024. See: https://www.misgavins.org/en/wasserman-landa-reflecting-on-israel-egypt-relations/. 
[4] انظر/ي نصّ الاتفاقيّة الكامل على موقع الأمم المتحدة على الرابط التالي: https://treaties.un.org/doc/publication/unts/volume%201136/volume-1136-i-17813-english.pdf 
[5] حول النُصُب التذكاري المصري في "إسرائيل"، انظر الرابط التالي: https://short-link.me/11P-I.  ، وحول النُصُب التذكاري الإسرائيلي في سيناء، انظر/ي الرابط التالي: https://www.ynet.co.il/articles/0,7340,L-4213915,00.html. 
[6] HRW, “Sinai Perils: Risks to Migrants, Refugees, and Asylum Seekers in Egypt and Israel”, Human Rights Watch, 2008. See: https://www.hrw.org/reports/2008/egypt1108/egypt1108web.pdf. 
[7]  Amira Oren, “Egyptian Military Buildup and its Expanded Presence in Sinai – Implications for Israel”, INSS Insight, No. 1968, 26 March 2025. See: https://www.inss.org.il/wp-content/uploads/2025/03/No.-1968.pdf
[8] Ibid.
[9] انظر/ي نصّ اتفاقيّة كامب ديفيد على الرابط التالي: https://treaties.un.org/doc/publication/unts/volume%201136/volume-1136-i-17813-english.pdf. 
[10] أطلَقت "إسرائيل" تسمية فيلاديلفي في العام 1982، بعد الانسحاب من سيناء وترسيم الحدود على الخرائط، حيث ظهَر اسم "فيلاديلفي" في خرائط الجيش الإسرائيلي، والذي عادة ما يستخدم تسميات ليس بالضرورة لها تفسيرات تتعلّق بتاريخ الحدود.  
[11] لقراءة نصّ الاتفاقيّة الكامل، يُرجى زيارة الرابط التالي: https://peacemaker.un.org/sites/default/files/document/files/2024/05/israeloptagreeddocumentsonmovementaccessgaza2005.pdf 
[12] انظر/ي تقرير The European Union Border Assistance Mission for the Rafah Crossing، الصادر في 2025 على الرابط التالي: https://eubam-rafah.eu/sites/default/files/u222/EUBAM%20Rafah_Fact%20Sheet_2024_0.pdf 
[13] Yoram Cohen and Matthew Levitt, “Hamas Arms Smuggling: Egypt's Challenge”, The Washington Institute, 2009. See: https://www.washingtoninstitute.org/policy-analysis/hamas-arms-smuggling-egypts-challenge. 
[14] طارق فهمي، "الوساطات المصرية ودورها في وقف العدوان الإسرائيلي على غزة"، في مجلّة آفاق عربية وإقليمية، العدد 11 (2022). الرابط: https://afar.journals.ekb.eg/article_268049_07781f749a54923eb39fb84e0d220f9b.pdf 
[15] Yoel Guzansky and Ofir Winter, Two Are Better than One: The Role of Qatar and Egypt in Gaza, INSS Insight No. 1636 (Tel Aviv: Institute for National Security Studies, August 25, 2022). See: https://www.inss.org.il/wp-content/uploads/2022/08/no.-1636.pdf. 
[16] Smadar Perry, “Egypt closely monitors 'Qatargate' developments in Israel, biding its time”, Ynet, 4 June 2025. See: https://www.ynetnews.com/opinions-analysis/article/bk6hwck0yl. 
[17] Jeremy Sharon, “Qatargate actors suspected of portraying Egypt’s role in hostage talks negatively, boosting Qatar’s image, in exchange for money — judge”, Times of Israel, 1 April 2025. See: https://www.timesofisrael.com/liveblog_entry/qatargate-actors-suspected-of-portraying-egypts-role-in-hostage-talks-negatively-boosting-qatars-image-in-exchange-for-money-judge/.
[18] رويترز، "مصر ترفض تهجير الفلسطينيين وتهديد الأمن القومي للمنطقة"، في swissinfo.ch، بتاريخ 25 شباط 2025. الرابط: https://www.swissinfo.ch/ara/مصر-ترفض-تهجير-الفلسطينيين-وتهديد-الأمن-القومي-لدول-المنطقة/88924549 
[19] Ibrahim Khazen and Mohammad Sio, “Egypt rejects any ‘proposal’ to relocate Palestinians, calls for rebuilding Gaza”, in AA, 6 Feb 2025. See: https://www.aa.com.tr/en/middle-east/egypt-rejects-any-proposal-to-relocate-palestinians-calls-for-rebuilding-gaza/3474305. 
[20] يارون بوسكيلا، "مصر: التحدّي الذي يتبلور على الحدود الجنوبية"، ورَقة تقدير موقف (وتمّ عرضها كتوجيه أمني أمام الكنيست بتاريخ 18 آذار 2025)، 2025. انظر/ي: https://idsf.org.il/papers/the-emerging-challenge-from-the-south/ 
[21] Yitzhak Brik, “Israel Facing Dangerous Shift in Relations with Egypt – Opinion,” The Jerusalem Post, May 27, 2025. See: https://www.jpost.com/opinion/article-855561. 
[22] David Schenker and Assaf Orion, “Improving Egypt-Israel Relations in the Shadow of Gaza,” Policy Watch 3934, The Washington Institute for Near East Policy, September 24, 2024. See: https://www.washingtoninstitute.org/pdf/view/18975/en. 
[23] Ibid
[24] Steven A. Cook, “Israel’s Peace with Egypt Is Starting to Crack,” Foreign Policy, February 27, 2025. See: https://foreignpolicy.com/2025/02/27/israels-peace-with-egypt-is-starting-to-crack/. 
[25] Yitzhak Brik, “Israel Facing Dangerous Shift in Relations with Egypt”.
[26] Paul McLeary and Arie Egozi, “US Threatens Egypt with Sanctions for Russian Arms Deals,” Breaking Defense, November 19, 2019. See: https://breakingdefense.com/2019/11/us-threatens-egypt-with-sanctions-for-russian-arms-deals/. 
[27] Ahmed Abdeen, “Egypt-Israel: From Political Alliance to Military Tensions,” Orient XXI, May 11, 2025. See: https://orientxxi.info/magazine/egypt-israel-from-political-alliance-to-military-tensions,8214. 
[28] هيلل بيتون روزين، "رئيس هيئة الأركان: إسرائيل قلِقة جدًا من مصر ومن جيشها"، القناة 14، 26 شباط 2025. انظر/ي: https://www.c14.co.il/article/1130837 
[29] Zev Stub, “Study Finds Egyptian State Media Overwhelmingly Anti-Israel, Antisemitic,” The Times of Israel, April 2, 2025. See: https://www.timesofisrael.com/study-finds-egyptian-state-media-overwhelmingly-anti-israel-antisemitic/. 
[30] عاطف عبد الحميد، "لماذا تحوّلت مصر إلى استيراد الغاز الطبيعي بعد أن كانت تُصَدّره"، بي بي سي عربي، 25 تموز 2024. انظر/ي:https://www.bbc.com/arabic/articles/c134r34606ko 
[31] شاحار تسيطرون، "تعاظم قوّة مصر: كيف ستَبدو علاقات إسرائيل مع جارَتها في الجنوب"، البيطحونسيتيم، 9 حزيران 2024. انظر/ي: https://idsf.org.il/papers/egypt-growth-research/ 
[32] تامير هايمان وراز تسميت، "تحقيق أهداف الحرب وتحسين وضعيّة "إسرائيل" على الأمَد البعيد: توصيات سياساتيّة لإنهاء الحرب"، في معهد الأمن القومي الإسرائيلي، 6 أيار 2025. انظر/ي: https://www.inss.org.il/he/wp-content/uploads/sites/2/2025/06/נייר-מדיניות-08062025-2.pdf 
[33] يارون بوسكيلا، "مصر: التحدّي الذي يتبلور على الحدود الجنوبية"، مرجع سابق. 
[34] تامير هايمان وراز تسميت، "تحقيق أهداف الحرب وتحسين وضعيّة "إسرائيل" على الأمَد البعيد"، مصدر سابق.
[35] يارون بوسكيلا، "مصر: التحدّي الذي يَتبلور على الحدود الجنوبية"، مرجع سابق.
[36] مايكل هراري، "تحدّيات الطاقة في مصر وتداعياتها السياسية في ظلّ الحرب على غزة"، مركز بيغين-سادات للأبحاث الاستراتيجيّة، 8 نيسان 2024. انظر/ي: https://short-link.me/12eia. 
[37] نفس المصدر.

2025-08-21 13:20:13 | 83 قراءة

مركز باحث للدراسات الفلسطينية والاستراتيجية