التصنيفات » مقالات سياسية

اللوبي الإنجيليكاني العوامل الذاتيّة والموضوعيّة لغموض ترامب تجاه احتلال غزة

اللوبي الإنجيليكاني 
العوامل الذاتيّة والموضوعيّة لغموض ترامب تجاه احتلال غزة


سعيد عكاشة
*خبير في الشؤون الإسرائيلية بمركز الأهرام للدراسات السياسية والاستراتيجية
*مركز المستقبل للأبحاث والدراسات المتقدّمة 

صرّح الرئيس الأمريكي، دونالد ترامب، في الحادي عشر من أغسطس الجاري، بأنه لم يؤيّد بشكل مباشر خطط "إسرائيل" لاحتلال قطاع غزة بشكل كامل؛ لكنه أعرب عن اعتقاده بأن حركة حماس لن تُفرِج عن الرهائن ما لم يتغيّر الوضع بشكل جذري، مُضيفاً أنه "على إسرائيل أن تُقَرّر الخطوة التالية، وأن تُحَدّد ما إذا كانت ستَسمح لحماس بالبقاء في غزة. وبالنسبة لي، لا يُمكنهم البقاء هناك".
ويُعَبّر هذا التصريح بقوّة عن سياسة الغموض والمواقف المُتَضاربة لترامب، التي اعتاد العالَم عليها منذ ولايته الأولى. ولتفسير هذا التناقض الذي يُثير الارتباك في الدوائر السياسية، داخلياً وخارجياً على حدٍ سواء، يجب النظر إلى العامل الذاتي والعوامل الموضوعية التي يُمكنها تفسير مواقف ترامب عامة، وموقفه من حرب "إسرائيل" على غزة بصفة خاصّة.
غموض ترامب:  
منذ عودته إلى البيت الأبيض في يناير 2025، قَدّم ترامب تصوّرات مُتناقضة عن رؤيته لمستقبل الحرب على قطاع غزة. فقد تحدّث في مرحلة مُبكرة عن إمكانيّة إنهاء الحرب بتهجير سكّان القطاع إلى مصر والأردن، وتحويل القطاع إلى ما سَمّاه "ريفييرا شرق أوسطية"؛ بل إنه أشار إلى إمكانيّة تَوَلّي الجيش الأمريكي إدارة القطاع لتحويله إلى منطقة مُزدَهرة اقتصادياً، حيث قال في 5 فبراير الماضي: "وجود قوّة كالولايات المتحدة هناك، تُسيطِر على قطاع غزة وتمتلكه، سيكون أمراً جيّداً"؛ لكنه سرعان ما تجاهل تصريحاته تلك، ليَبدأ في التركيز على إنهاء قضية الرهائن لدى حركة حماس عبر اتفاقات هدنة مؤقّتة. وأخيراً عبّر عن يأسه من إمكانيّة تحقيق ذلك. وترَكت تصريحات ترامب الغامضة حول موقف واشنطن من خطّة رئيس الوزراء الإسرائيلي، بنيامين نتنياهو، لاحتلال قطاع غزة بأكمله، انطباعاً بأنه يؤيّد هذه الخطّة؛ لكنه لم يَنف أو يؤكد ذلك، كما هو واضح من تفويضه لإسرائيل بأن تتصرّف كيفما ترى.
وما يُمكِن مُلاحَظته حول موقف ترامب من حرب "إسرائيل" على غزة، ومُستَقبل القطاع بعد نهاية الحرب، هو اتّفاقه مع موقف نتنياهو في ضرورة هزيمة "حماس" وإخراجها من القطاع؛ وتبقى بعض الخلافات بينهما حول مسألة إدخال المساعدات الإنسانية إلى القطاع، والفترة الزمنيّة التي يُمكِن أن يُبقي فيها الجيش الإسرائيلي على احتلاله للقطاع، وحدود الانسحاب الذي سيُنَفّذه بعد نهاية الحرب بهزيمة "حماس" وفقاً لإسرائيل؛ وأخيراً، الجهة التي ستَحكم غزة خلال فترة انتقاليّة غير محدّدة.
العامل الذاتي:
بسبب خلفيّة ترامب المعروفة كرجل أعمال، تَبَنّى منطق عقد الصفقات عوضاً عن التفاوض فيما يتعلّق بالقضايا السياسية. وكان من المنطقي أن يَظهَر تأثير تكوينه الشخصي على رؤيته في مُعالجَة الأزمات التي تُهَدّد المصالح الأمريكية في الخارج. وعندما يفشل ترامب في تحقيق رؤاه، ويعجز عن عقد صفقة لحلّ إحدى الأزمات؛ فإنه يتحوّل سريعاً نحو إطلاق تصريحات مُتَناقضة لإرباك خصومه، والدفاع عن نفسه تجاه الأطراف التي ستُحَمّله مسؤولية الفشل.
وفيما يتعلّق بحرب غزة، كان ترامب قد وعَد، قبل تولّيه السلطة رسمياً في يناير الماضي، بوقف هذه الحرب. كما اعتبَر أن صفقة تبادل الرهائن والأسرى بين "إسرائيل" و"حماس"، والتي أعلَن عنها سَلَفُه، جو بايدن، في 16 يناير الماضي، هي إنجاز شخصي له؛ حيث صرّح ترامب حينها قائلاً: "هذا الاتّفاق المَلحمي لوقف إطلاق النار لم يكن ليَحدث إلّا نتيجة لانتصارنا التاريخي في انتخابات الرئاسة في نوفمبر الماضي، الذي أرسَل إشارة إلى العالَم بأسره بأن إدارتي ستَسعى لتحقيق السلام والتفاوض على اتفاقيّات تضمن سلامة جميع الأمريكيين وحلفائنا".
لكن عقب انهيار الهدنة في غزة في مارس الماضي، ظهَر بوضوح مدى عجز ترامب عن تحقيق وعوده، سواء بعقد هدنة أخرى، أم إنهاء هذه الحرب بشكل كامل. وبالرغم من أنه عَبّر عن استيائه وغضبه من نتنياهو وحركة حماس معاً في بعض الأحيان؛ فقد حَمّل "حماس" مسؤولية الفشل المُتَكَرّر في عقد صفقة تبادل أخرى كان بوسعها أن تكون خطوة لإنهاء هذه الحرب، من وجهة نظره. وبدا هذا الموقف، وما تلاه من منح "إسرائيل" تفويضاً بالاستمرار في قتال "حماس"، مُحاوَلة من جانب ترامب لإنكار فشله الشخصي أمام مؤيّديه في الداخل الأمريكي، خاصّةً أن مُعالَجته لحرب غزة لم تختلف عن سياسة بايدن، الذي اتّهمه ترامب مراراً بالعجز عن حماية المصالح الأمريكية في الخارج بشكل عام.  
وفي إطار العامل الذاتي أيضاً، يريد ترامب أن تنتهي حرب غزة بجهود أمريكية صرفة؛ وهو ما يتعارض مع احتمال، حتى لو كان ضئيلاً، أن تنجح خطّة نتنياهو لاحتلال القطاع بأكمله في القضاء على "حماس"؛ وهو ما سيمنَح حينها نتنياهو الفرصة لإثبات صحّة موقفه الثابت من تحقيق أهداف الحرب، وعلى رأسها هزيمة "حماس"، ويَحرم ترامب من تأكيده أن جهوده وحدها هي السبب في إنهاء الحرب.
الظروف الموضوعيّة:
على الرّغم من أهميّة العامل الذاتي في فهم مواقف وسياسة ترامب؛ فإنه لا يكفي وحده لتفسير توجّهاته، خاصّةً فيما يتعلّق بالأزمة في غزة. ويُمكِن القول إن هناك عدّة ظروف موضوعية تدفعه إلى تبنّي موقف غامض من خطّة نتنياهو العسكرية التي يُريد تنفيذها في غزة؛ ويأتي على رأس هذه العوامل الموضوعيّة ما يلي: 
1- قناعة ترامب بأن حركة حماس لا تُمَثّل نفسها ولا تُمَثّل التوافق الفلسطيني حول حلّ القضية الفلسطينية؛ بل تُعَبّر عن تطلّعات إيران التي تَرعى ما يُسَمّى بـ"محور المقاومة" للحفاظ على مشروعها الهادف لتقليص النفوذ الأمريكي في الشرق الأوسط، وذلك بتأييد واضح من روسيا والصين، من وجهة نظره؛ لذلك، يتّفق ترامب مع نتنياهو على ضرورة نزع سلاح حماس والتنظيمات المُتَحالفة معها كشرط لإنهاء حرب غزة؛ لكن من غير الواضح ما إذا كان ترامب يتّفق مع نتنياهو على إخراج "حماس" سياسياً من المُعادَلة الفلسطينية بالكامل؛ بمعنى آخر، تصب مسألة إنهاء "حماس" عسكرياً في صالح الاستراتيجية الأمريكية الخاصّة بالشرق الأوسط، والتي تتلخّص في إبعاد الصين وروسيا عن التمدّد في المنطقة مُستَقبلاً.
2- في الوقت الذي تُطالِب فيه حركة حماس بضمانات أمريكية تتضمّن تعهّداً بإيقاف الحرب دون الحديث عن نزع سلاحها، لا يستطيع ترامب قبول هذا الشرط لاعتبارات موضوعية تتعلّق بضرورة رفع حماس من قائمة التنظيمات الإرهابية أوّلاً؛ وهو ما لا يقوى ترامب عليه، ليس فقط لإيمانه بضرورة نزع سلاح حماس كجزء من استراتيجيّة هزيمة محور إيران؛ بل لأن ذلك قد يُدخِله في مواجهة داخل الكونغرس، سواء مع الجمهوريين أم الديمقراطيين.
3- تَدْخل في حسابات ترامب الضغوط والانتقادات التي يُمكِن أن يتعرّض لها من جانب جماعات الضغط واللوبيّات الداعمة لإسرائيل داخل الولايات المتحدة، وعلى رأسها "أيباك".
4- في ظلّ طموحات ترامب، حتى لو كانت غير واقعية، بإمكانيّة إجراء تعديل دستوري يَمنحه الفرصة للترشّح في الانتخابات الرئاسية الأمريكية المُقبِلة؛ فإنه يسعى إلى الحصول على دعم الجماعات الإنجيليكانية، وهي جماعات مؤيّدة لإسرائيل بشكل مُطلَق لدوافع عقائديّة.
الدعم الإنجيليكاني:
خلافاً لكلّ جماعات الضغط المؤيّدة لإسرائيل، يبدو من الضروري إلقاء الضوء على أسباب حرص ترامب على إرضاء اللوبي الإنجيليكاني (يُشير إلى الإنجيلية والإيفانجليكية معاً) لإظهار مدى تأثير ذلك في موقفه من حرب غزة، كالتالي:
1- البعد الديني العقائدي: ترتكز الرؤية الدينية للإيفانجيليكيين (هم أكثر قوّة في دعمهم لإسرائيل من الإنجيليين) على أهميّة فلسطين. وبحسب مُعتَقداتهم، فإن قدوم المسيح مرّة أخرى مَرهونٌ بعودة اليهود إلى فلسطين أوّلاً؛ وبعد قُدومه، ستنشب "معركة هرمجدون"، التي سينتصر فيها المسيح على أعدائه، فتَتَحقّق الغلَبة النهائية للخير على الشر.
2- الثقل الانتخابي: منَح الناخبون الإنجيليون ترامب نحو 81% من أصواتهم في انتخابات 2016، وما يُقارب 76% في انتخابات 2020، ونحو 82% في انتخابات 2024. وتُشير بعض التقديرات الأمريكية إلى أن هذه الطائفة تُشَكّل نحو 23% من مُجمَل أصوات الناخبين في الولايات المتحدة.
3- الضغط على الرؤساء: اعتمد نتنياهو نفسه على الطائفة الإنجيلية الأمريكية، للحصول على تأييد الرؤساء الأمريكيين المُتَعاقِبين، أو تحدّي قراراتهم ومواقفهم إذا كانت مُتعارِضة مع توجّهاته. وكان ذلك واضحاً مع كلّ من حكَم البيت الأبيض منذ عام 2009 وحتى اليوم؛ بل إن بعض التقارير تُشير إلى أن نتنياهو انتقَل من التعويل على اللوبي اليهودي في واشنطن إلى الرهان على اللوبي الإنجليكاني؛ بسبب اعتقاده أن اليهود الأمريكيين باتوا يَتَبَنّون أحياناً أفكاراً ومواقف مُتَعارضة مع المصالح الإسرائيلية، وذلك في مُقابِل أن الإنجليكانيين يُقَدّمون دعماً غير مشروط لسياساته ولأجندة "إسرائيل".
4- الإنجليكانيون والاستيطان: في تحرّك سريع من جانب نتنياهو لتنشيط حركة اللوبي الإنجليكاني، استضاف في 4 أغسطس الجاري، رئيس مجلس النوّاب الأمريكي، مايك جونسون، وزوجته، في مستوطنة شيلو بالضفة الغربية. وحضر المُقابَلة السفير الأمريكي في تل أبيب، مايك هاكابي (الذي ينتمي إلى هذه الطائفة)، وزوجته، بالإضافة إلى أعضاء الكونغرس الجمهوريين، مايكل ماكول، وكلوديا تيني، ومايكل كلاود، ونيثانئيل موران. كما حضَر يسرائيل غانتس، رئيس مجلس يشاع ومجلس بنيامين الإقليمي في الضفة الغربية. وتُظهِر قائمة المَدعُوّين هدَف نتنياهو من حشد أنصار الاستيطان مع الإنجليكانيين الأمريكيين، لمُمارسة الضغوط على ترامب إذا ما حاول فَرض حلول في غزة لا تتوافق مع أهدافه.
ووفقاً لموقع أكسيوس، زارَ المُشَرّعون الجمهوريون، الذين حضَروا اللقاء، "إسرائيل" في رحلة خاصّة لم يُعلَن عنها سابقاً، نَظّمتها "هيذر جونستون"؛ وهي مؤسّسة تَصف نفسها بأنها الحافِظة الأولى للتراث اليهودي المسيحي، وتُدافِع عن الأهميّة التاريخية والتوراتية لإسرائيل.
ختاماً، بعد تفاؤله في بداية ولايته بإمكانيّة إنهاء الحرب الإسرائيلية على قطاع غزة، وتصوير نهايتها على أنها تأكيد لوعوده الانتخابية بإنهاء الحروب والأزمات العالمية؛ بات ترامب أكثر تشاؤماً. فبالرّغم من أن بعض تصريحات ترامب الأخيرة تُشير إلى تأييده لخطّة إسرائيل لاحتلال غزة بشكل كامل، توضِح تصريحات أخرى أنه لا يؤيّد ذلك صراحةً، ربما تحت ضغط آراء أغلبيّة كبيرة من الخبراء العسكريين في كلٍ من الولايات المتحدة و"إسرائيل"، الذين يُعارِضون احتلال "إسرائيل" للقطاع خشية تدهور الأوضاع الإنسانية هناك، ومُواجَهة عاصفة من الاعتراضات من جانب حلفاء واشنطن أنفسهم. ومثلما اعتاد العالَم على تقلّبات مواقف ترامب في الكثير من القضايا الدولية، قد يتغيّر موقفه الغامض من الحَملة التي يُخَطّط نتنياهو لها لاحتلال غزة؛ ليكون واضحاً في اتجاه المُطالَبة بوَقفها؛ إذا ما طالَ أمَدُها لأكثر ممّا تَعِد به "إسرائيل"، وهو مدّة خمسة أشهر.

 

2025-08-21 13:23:00 | 53 قراءة

مركز باحث للدراسات الفلسطينية والاستراتيجية