دلائل النفوذ:
هل يتسارع النشاط الإيراني في إفريقيا بعد الحرب مع "إسرائيل"؟
فاروق حسين أبو ضيف
باحث سياسي متخصّص في الشؤون الإفريقية
مركز المستقبل للأبحاث والدراسات المتقدّمة
26/8/2025
بعد 12 يوماً من التصعيد العسكري غير المسبوق بين إيران و"إسرائيل" في يونيو 2025، والذي كشَف عن هشاشة الردع المُتبادَل وتشابك الأبعاد النووية والعسكرية والدبلوماسية، باتَت طهران أمام تحدّي إعادة تموضعها الخارجي في ظلّ اختبارٍ قاسٍ لقدراتها وتحالفاتها. وفي هذا السياق، تَلوح إفريقيا كأحد المسارات المُحتمَلة لإعادة التوازن في السياسة الخارجية الإيرانية، خاصّة وأنها مَثّلت خلال السنوات الأخيرة ساحة بديلة لتثبيت النفوذ الإيراني بعيداً عن نقاط الاشتباك التقليدية في الشرق الأوسط. لكن هل ستبقى هذه الساحة ضمن دائرة الأولويّات الإيرانية بعد هذا التصعيد؟
الانخراط الإيراني في إفريقيا لم يكن وليد اللحظة، بل نتاج استراتيجيّة تراكميّة اعتمَدت على مزيج من الأدوات الناعمة، والدعم الأمني، والتقارب الأيديولوجي مع بعض الأنظمة المُناهِضة للغرب. ومع تنامي الضغوط على طهران بعد الحرب، تبدو الحاجة مُلِحّة لتعزيز نفوذها في فضاءات أقلّ تكلفة وأكثر تَقبّلاً؛ ما يجعل إفريقيا خياراً مُغرِياً، ولكن مَحفوفاً بالتحدّيات. فالسؤال لا يتعلّق فقط بوجود الإرادة السياسية، بل بمدى توافر القدرة والمَوارد الكفيلة بتحويل إفريقيا إلى أولويّة حقيقيّة في الأجندة الإيرانية القادمة.
يسعى هذا التحليل إلى تسليط الضوء على مُستَقبل التوجّه الإيراني نحو إفريقيا بعد وقف إطلاق النار، من خلال فَهم دوافع طهران الاستراتيجية، وتقييم انعكاسات التصعيد العسكري مع "إسرائيل"، واستكشاف ما إذا كانت القارّة ستتَحوّل إلى محور رئيسي في السياسة الخارجية الإيرانية أم تظلّ هامشية ومؤقّتة.
دوافع استراتيجيّة:
تَبَنّت إيران منذ عام 2021 توجّهاً استراتيجياً مُتَسارعاً نحو القارّة الإفريقية، كجزء من سَعيها لإعادة التموضع في نظام عالمي مُتَغيّر، وكسر طوق العزلة الدولية المفروضة عليها. وثمّة دلالات تعكس الوجود الإيراني داخل القارّة الإفريقية:
1.وجود عسكري: يُمَثّل الوجود العسكري الإيراني في إفريقيا، ولا سيّما عبر قاعدة "عَصَب" في إريتريا، مؤشّراً على رغبة طهران في ترسيخ نفوذها البحري عند أحد أكثر المَمَرّات العالمية حساسيّة، باب المندب. هذه القاعدة لا تقتصر وظيفتها على الدعم اللوجستي، بل تُستَخدَم كمنصّة متقدّمة لتمكين الحرس الثوري من دعم حلفائه الإقليميين، كالحوثيين، وتوجيه رسائل ردع إلى "إسرائيل" والولايات المتحدة. كما تسمح لطهران بمُراقَبة تحرّكات الأساطيل الغربية، وتأمين خطوط إمدادها غير التقليدية.
2.الأمن مقابل المصالح الاقتصادية: يعكس التعاون الأمني بين إيران والنيجر، وخاصّة صفقة "اليورانيوم مُقابِل المُسَيّرات"، التقاء المصالح الأمنية والاقتصادية في سياسة طهران الإفريقية. وفي هذا الإطار، كانت إيران، المُقَيّدة بالعقوبات الدولية، تسعى إلى ضمان إمدادات غير خاضعة للرقابة من المواد النووية الحيويّة، مثل اليورانيوم، لتأمين برنامجها النووي وتعزيز قدرتها التفاوضية. في المُقابِل، تُوَفّر للمجالس العسكرية دعماً استخباراتياً وتكنولوجيا مُسَيّرات متقدّمة. هذا النمط من الشراكة يعكس "براغماتية الأزمة" التي تتبنّاها إيران في إفريقيا.
3.انخراط ديني وأيديولوجي: استثمَرت إيران في نَشْر التشيّع عبر القارّة الإفريقية كوسيلة لتعزيز حضورها الأيديولوجي طويل المدى، مُستَفيدة من التهميش الديني وغياب الخدمات الأساسية في عدد من الدول، خاصّة في غرب وشرق إفريقيا؛ فوَظّفت مؤسّسات، مثل "جامعة المصطفى" و"منظّمة الثقافة والعلاقات الإسلامية"، في إنشاء شبكات تعليمية وثقافية؛ تستهدف الشباب المسلم في المناطق الهشّة، وتُوَفّر لهم منَحاً وفُرَصاً للابتعاث إلى قم وطهران.
4. محاولة السيطرة على طُرُق الإمداد البحري: تُمَثّل سيطرة إيران غير المُباشرة على أجزاء من سواحل البحر الأحمر ركيزة مركزية في استراتيجيّتها لضمان أمن مَواردها وطُرُق الإمداد البحرية، خاصّة في ظلّ التوتّرات المُتَصاعدة مع الغرب. فإلى جانب القاعدة في إريتريا، يرتبط النفوذ الإيراني بتوفير الدعم العسكري للحوثيين في اليمن؛ وهو ما يسمح لها بامتلاك قدرة تهديد مُستدامة لناقلات النفط والتجارة الغربية في المنطقة. كما تسعى طهران للوصول إلى موانئ السودان وجيبوتي، لتأمين تصدير سِلَعها والتحايل على العقوبات.
5. تعزيز التعاون عبر المجالات المختلفة: تُوَظّف إيران القارّة الإفريقية كامتداد جغرافي لمنظومة "المُمانعة"، في مُحاوَلة لكسر طَوق الحصار الغربي المفروض عليها. فبَدَلاً من المُواجَهة المُباشرة، تعتمد على تشكيل تحالفات مع أنظمة منبوذة دولياً، وتوسيع شبكاتها الداعمة من نخب دينية وجماعات محليّة. كما تدفع باتجاه التعاون في مجالات التكنولوجيا والأمن والسيادة الغذائية (Food Sovereignty) مع دول إفريقية، كأوغندا وتنزانيا، بما يُقَلّل اعتمادها على الأسواق الأوروبية والآسيوية.
6.نشاط دبلوماسي مُكَثّف: عكَست الزيارات المُتَكَرّرة التي أجراها الرئيس الإيراني السابق إبراهيم رئيسي إلى القارّة، وتوسيع شبكة السفارات والمراكز التجارية، رغبة طهران في تحويل حضورها من هامشي إلى بنيوي ضمن المُعادَلة الإفريقية؛ إذ تستغل إيران تراجع الحضور الفرنسي وانكفاء واشنطن لصالح ملء الفراغ الدبلوماسي، مُستَهدفة دولاً غير محورية تقليدياً، مثل زيمبابوي وبوركينا فاسو. ويأتي هذا ضمن مسعى لبناء "كتلة تضامن جنوبية" ضدّ الهيمَنة الغربية في المحافل الدولية.
فُرَص ما بعد الحرب:
في أعقاب وقف إطلاق النار بين "إسرائيل" وإيران في يونيو 2025، وجدت طهران نفسها أمام مُعادَلة استراتيجيّة معقّدة: من جهة، تصاعد الضغوط الأمنية والاقتصادية داخل الإقليم، ومن جهة أخرى، تنامي الحاجة لإعادة بناء شبكة تحالفات تُوَفّر لها عمقاً جيوسياسياً مَرِناً. وفي هذا السياق، تبرز القارّة الإفريقية كوجهة بديلة أو مُوازية للمجال الحيوي الإيراني التقليدي؛ نظَراً لما تُوَفّره من فُرَص استراتيجيّة وأمنيّة واقتصاديّة ودبلوماسيّة. ولم تكن إفريقيا خياراً جديداً؛ لكنها باتت بعد التصعيد ضرورة لتعويض الخسائر وتثبيت النفوذ في بيئة دولية متحوّلة. وفي ظلّ الانكفاء الغربي المُتزايد، والتشظّي السياسي في العديد من الدول الإفريقية، تسعى إيران إلى تثبيت موطئ قدم أوسع في القارّة، من خلال توظيف أدواتها الناعمة والصلبة معاً، وإعادة تعريف علاقتها بالقارّة على أنها امتداد طبيعي لسياساتها المُعادِية للغرب والساعية للتوسّع الهادئ خارج بؤر التوتّر التقليدية. ولعلّ أبرز هذه الدوافع، ما يلي:
1. البحث عن فضاء استراتيجي بديل يُعَوّض خسائر الردع: بعد تعرّض بنيتها النووية والعسكرية لهجَمات مُباشرة، تسعى إيران إلى تنويع مسارح حضورها خارج الجغرافيا المُهَدّدة. وتمثّل إفريقيا فُرصَة لبناء عمق استراتيجي غير مُتَماثل يُقَلّص فعاليّة سياسة الردع الإسرائيلية. فبالتوسّع في إفريقيا، يُمكِن لطهران أن تخلق توازناً بديلاً يُربِك خصومها، خصوصاً إذا نجحت في تحويل القارّة إلى ساحة نفوذ مُزدَوج: عسكري استخباراتي ودبلوماسي اقتصادي. هذا الحضور لا يتطلب التورّط المُباشر، بل يُبنى عبر شراكات مع أنظمة تُعاني عزلة سياسية وأمنية؛ ما يمنح إيران مرونة كبيرة في فرض شروطها وتوسيع شبكاتها الاستخباراتيّة والدعائيّة على المدى الطويل.
2. توسيع "محور المقاومة" خارج الإقليم التقليدي: يَحكم التوجّه الإيراني نحو إفريقيا بعد الحرب منطق أيديولوجي توسّعي يسعى لتوسيع ما تُسَمّيه طهران بـ "محور المقاومة"؛ بحيث لا يقتصر على الهلال الشيعي في الشرق الأوسط، بل يمتد إلى الجنوب العالمي. وفي ظلّ تصاعد المشاعر المُعادِية للغرب في عدد من دول الساحل وغرب إفريقيا، ترى إيران فرصة لرَبط قضاياها بمزاج شعبي وسياسي مُناهِض للهيمنة الغربية. هذا ما بدا واضحاً في الدعم الإيراني المُعلَن للسلطات العسكرية في بوركينا فاسو ومالي، وعبر النشاط الديني والثقافي المُتَصاعد، تسعى طهران إلى إنتاج حاضنة اجتماعية جديدة لخطابها الثوري المُناهِض لإسرائيل وأمريكا في القارّة.
3. حشد دعم دبلوماسي إفريقي في المُنتَدَيات الدولية: تُشَكّل إفريقيا رصيداً دبلوماسياً مهماً لطهران في مُواجَهة العزلة الدولية؛ نظَراً لامتلاك الدول الإفريقية نحو 28% من أصوات الجمعية العامة للأمم المتحدة. وبعد التصعيد مع "إسرائيل"، ازدادت أهميّة هذا الرصيد لدعم موقف إيران في ملفّات حسّاسة، مثل برنامجها النووي وملف حقوق الإنسان. ولذا تسعى طهران إلى توثيق الشراكات السياسية مع الدول الإفريقية، عبر زيارات رسمية مُتَبادلة، واتفاقيّات تعاون في مجالات متعدّدة، ومواقف داعمة في التصويتات الدولية. وقد تجلّى ذلك في امتناع أو رفض عدد من الدول الإفريقية لقرارات تدين إيران في الوكالة الدولية للطاقة الذريّة عقب التصعيد.
4. توظيف الفراغ الجيوسياسي الناتج عن تراجع الغرب: أدّت سلسلة الانسحابات الغربية، خاصّة الفرنسية والأمريكية، من مناطق الساحل والقرن الإفريقي، إلى خلق فراغ استراتيجي حاولت قوى عدّة ملأه، أبرزها روسيا وتركيا، والآن إيران. وترى طهران في هذا الفراغ فرصة للدخول كقوّة "بديلة" تُقَدّم دعماً غير مشروط للأنظمة العسكرية، خاصّة في مجالات الأمن والاستخبارات؛ وهو ما يتّضح في الاتفاق الأمني المُوَقّع مؤخراً مع النيجر، والذي يُشير إلى تحوّل نوعي في طبيعة النفوذ الإيراني في القارّة، من الناعم إلى الصلب، ومن الهامشي إلى المركزي، ضمن بيئة تسمح بتموضع استراتيجي طويل الأمَد في قلب إفريقيا.
5. تأمين موارد حيويّة تتجاوز العقوبات الدولية: في ظلّ العقوبات الاقتصادية المشدّدة، تسعى إيران إلى خلق مسارات بديلة لتأمين موارد استراتيجيّة حيويّة عبر إفريقيا، مثل اليورانيوم من النيجر، والذهب من مالي، والكوبالت من أوغندا. ولا تقتصر هذه التحرّكات على صفقات تجارية، بل تتداخل مع ترتيبات أمنيّة وسياسيّة تضمن استمرارية الوصول إلى هذه المَوارد بعيداً عن الرقابة الغربية. وتكمن أهميّة هذه المَوارد في ارتباطها المباشر بالقدرات الدفاعية الإيرانية، وخاصّة في مجال الطائرات المُسَيّرة والطاقة النووية؛ ممّا يجعل القارّة الإفريقية ليست فقط شريكاً اقتصادياً، بل عنصراً حيوياً في المُعادَلة الأمنيّة الإيرانية الجديدة بعد الحرب.
6. تعزيز صورة إيران كقوّة دولية مُناهِضة للهيمنة: من خلال انخراطها في إفريقيا، تُحاول إيران تصدير صورة جديدة لنفسها باعتبارها فاعلاً دولياً مُناهضاً للهَيمنة الغربية، يدعم الدول "المضطهدة" ويَعرض شراكات بديلة "مُتَحرّرة من الشروط". هذه السرديّة تلقى رواجاً نسبياً في بيئات تُعاني من آثار الاستعمار الجديد والتبعيّة الاقتصادية؛ وهو ما قد يمنح إيران ميزة رمزيّة ودبلوماسية مهمّة. وبعد الحرب مع "إسرائيل"، تُعَوّل طهران على هذا الخطاب لإعادة تلميع صورتها دولياً، واستقطاب تعاطف شعبي ورسمي في الجنوب العالمي، وخاصّة في إفريقيا؛ حيث يُمكِن لهذه الرمزيّة أن تفتح أبواب النفوذ دون تكلفة عسكرية أو اقتصادية عالية نسبياً.
الرؤية الإفريقية:
رغم تبنّي بعض الدول الإفريقية للرواية الإيرانية، خاصّة فيما يتعلّق بإدانة العدوان الإسرائيلي والدعوة لإخلاء الشرق الأوسط من الأسلحة النووية؛ فإن الموقف الإفريقي من الوجود الإيراني لا يعكس انفتاحاً مُطلَقاً أو قبولاً واسع النطاق. فالقارّة تتعامل مع الوجود الإيراني بدرجة من الحذر والبراغماتية، مدفوعة بحسابات التوازن بين مصالحها الداخلية والضغوط الخارجية، وليس بانخراط أيديولوجي صريح مع طهران.
• الحذَر من الانخراط الأيديولوجي: رغم مُحاوَلات إيران تكثيف نشاطها الثقافي والديني في دول مثل نيجيريا والسنغال، عبر مؤسّسات مثل "جامعة المصطفى"؛ فإن معظم الحكومات تتجنّب الانخراط في هذا التمدّد، خاصّة في الدول ذات الأغلبية السنيّة، خوفاً من إشعال توتّرات مذهبيّة أو إعطاء ذريعة لتصاعد التطرّف الديني؛ لذلك، يظلّ الحضور الديني الإيراني محدود التأثير الشعبي والسياسي.
• البراغماتيّة في التعاطي مع الشراكات الإيرانية: تعكس الشراكات بين إيران وبعض الدول الإفريقية – مثل "اليورانيوم مُقابِل المُسَيّرات" في النيجر– توجّهاً براغماتياً قائماً على تبادل المصالح المؤقّتة، لا على تحالفات استراتيجيّة طويلة الأمَد. فهذه الدول تبحث عن بدائل للغرب؛ لكنها تتحاشى الارتهان الكامل لطهران؛ ما يجعل العلاقة مَرهونة بالظرفيّة لا الاستمراريّة.
• ضغوط الشركاء الغربيين وتوازنات الداخل: تُواجِه الدول الإفريقية التي تنفتح على إيران تحدّيات مُتَزايدة من جانب شركائها التقليديين؛ حيث تخضع دول مثل بوركينا فاسو والنيجر، لضغوط غير مُعلَنة من شركائها الغربيين للحدّ من تعميق علاقاتها مع إيران، خاصّة في المجالات الأمنية والاستخباراتية. فعلى الرغم من توقيع اتفاقيّات تعاون أمني مع طهران؛ تخشى هذه الحكومات من خسارة الدعم التنموي والاقتصادي من الولايات المتحدة والاتحاد الأوروبي. كما تخشى من استغلال طهران النفاذ إلى الداخل عبر شبكات دينية محليّة قد تُستَخدم في زعزعة الاستقرار الداخلي.
وفيما يتعلّق بموقف الدول الإفريقية من الحرب، انقسمت الدول ما بين إدانة واضحة لإسرائيل، مثل جنوب إفريقيا وتونس، فيما ظهَرت مواقف حياديّة دعَت إلى التهدئة وتغليب الحوار، مثل نيجيريا وكينيا وغانا؛ بينما التزَمت دول أخرى بــ "الصمت الاستراتيجي" خشية الإضرار بعلاقاتها مع واشنطن أو تل أبيب. ويعكس هذا التباين في الردود واقعاً دبلوماسياً جديداً؛ حيث تسعى الدول الإفريقية إلى تحقيق توازن بين رفض الهيمنة والبحث عن مصالحها الاستراتيجيّة، في ظلّ تحوّلات مُتَسارعة في النظام الدولي وتنامي الضغوط الاقتصاديّة والأمنيّة على القارّة.
تداعيات تصعيديّة:
شَكّل التصعيد العسكري بين إيران و"إسرائيل" تهديداً مُباشراً لحالة التوازن الهشّة في عدّة مناطق إفريقية، ولا سيما في دول القرن الإفريقي والساحل التي تُعاني أصلاً من فراغ أمني مُتَفاقم. ومع دخول الولايات المتحدة على خط المواجهة واستهداف مُنشآت استراتيجيّة إيرانية، ارتفعَت احتمالات لجوء طهران إلى توسيع نطاق ردّها عبر وكلاء وشركاء إقليميين؛ ما قد يجعل بعض الجيوب الإفريقية الهشّة ساحة لتصفية الحسابات غير المُباشرة. وفي ظلّ امتلاك إيران لشبكات نفوذ غير رسمية في السودان ونيجيريا، وتصاعد دور الجماعات المسلّحة المُتَحالفة معها، مثل الحوثيين، تزداد المخاوف من استخدام هذه الجماعات لتوجيه رسائل أمنيّة في مسارح بعيدة عن الخليج؛ لكنها قريبة من المصالح الغربية في القارّة.
أحد أخطَر التداعيات الأمنيّة للتصعيد هو احتماليّة تحوّل المَمَرّات البحرية الإفريقية إلى نقاط اشتباك غير مُعلَن، وعلى رأسها البحر الأحمر ومضيق باب المندب. فقد أسفَرَت الهجمات الحوثيّة المدعومة من إيران عن اضطرابات في الملاحة؛ ممّا أثّر سلباً في الأمن البحري للدول الإفريقية المُطِلّة على البحر الأحمر، مثل السودان وجيبوتي وإريتريا. هذه التهديدات لا تتوقّف عند حد التجارة، بل تمتد إلى خلق بيئة جيوسياسية خصبة لتوسيع الحضور العسكري الأجنبي أو تعزيز الاستقطاب الإقليمي؛ وهو ما يضع الدول الإفريقية أمام معضلة: إمّا الانخراط في تحالفات أمنيّة تُمليها المصالح الكبرى، أو المُخاطَرة بفقدان السيطرة على فضائها السيادي تحت ضغط الأزمات المُتَشابكة.
في هذا السياق، تبدو إيران وكأنها تستثمر في هشاشة الأمن الإفريقي لتكريس نفوذها عبر أدوات جديدة، مُستَغِلّة تراجع الالتزام الغربي وانشغال القوى الدولية بالأزمات في أوكرانيا والشرق الأوسط. ومع كلّ موجة تصعيد إقليمي، تتراجع أولويّات الدعم الأمني والتنمية في إفريقيا لصالح أجندات عسكرية طارئة؛ ما يفتح المجال أمام قوى مثل إيران لتقديم نفسها كشريك بديل للأنظمة العسكرية في المنطقة. غير أن هذا "البديل" لا يخلو من تبِعات؛ إذ قد يُفضي إلى مزيد من عسكرة الصراعات الداخلية، ويضع القارّة أمام سيناريو مرير: أن تتحوّل بعض دولها إلى امتداد استراتيجي لنزاعات خارجية لا تملك تجاهها إلّا القليل من التأثير، والكثير من الكلفة.
أمام تصاعد التحدّيات الأمنيّة وتزايد الضغوط الدولية بعد الحرب، لم تجد إيران بديلاً أكثر مرونة من التوجّه نحو إفريقيا، سعياً لتعويض خسائرها، وتوسيع مجال نفوذها بعيداً عن ساحات المُواجَهة المُباشرة. وهكذا، تَحَوّل التوتّر إلى دافع استراتيجي دفَع طهران لتكثيف انخراطها في القارّة كخيار جيوسياسي واعد.
تحوّل مُستدام أم مؤقّت؟
تبدو العلاقة بين إيران وإفريقيا في مُفتَرق طرق بين أن تتحوّل إلى شراكة استراتيجيّة طويلة الأمَد، أو أن تبقى مجرّد رهانات مؤقّتة تُمليها ضرورات المرحلة. ففي حال نجحَت الدول الإفريقية في توظيف هذا التوجّه الإيراني لتعزيز استقلالها السياسي، وتنويع شراكاتها الاقتصادية، وتحقيق مكاسب تقنيّة وتنمويّة حقيقيّة دون الارتهان لمَحاور الاستقطاب الإقليمي؛ فإن ذلك سيُعَزّز موقع القارّة في النظام الدولي المُتعدّد الأقطاب. أما إذا اكتفَت الأنظمة الإفريقية بتلقّي الدعم الإيراني الأمني والدعائي دون بناء مصالح مُستَدامة ومُتَكافئة؛ فإن العلاقة ستبقى رهينة حسابات طهران التكتيكيّة، وسُرعان ما تَتبدّد مع أيّ تغيّر في البيئة الدولية أو في أولويّات السياسة الإيرانية نفسها. كما أن استمرار هذه العلاقة في ظلّ تصاعد الضغوط الغربية قد يُعَرّض بعض الدول الإفريقية لعزلة أو صدام دبلوماسي مع شركائها التقليديين. وعليه؛ فإن مستقبل هذه العلاقة مَرهون بمدى قدرة الطرَفيْن على تحويل الفُرَص الراهنة إلى شراكة قائمة على المَصالح المُتبادَلة والاحترام السيادي المُتوازن. وفي ظلّ واقع دولي متغيّر، تبدو إفريقيا أمام فُرصَة لإعادة تشكيل موقعها؛ لكن نجاحها مرهون بقدرتها على إدارة التوازن بين المكاسب الآنيّة والتحالفات بعيدة المدى.
2025-09-02 09:40:20 | 6 قراءة