التصنيفات » مقالات سياسية

البنتاغون تُقَيّد حريّة الصحافة: تصعيد ومواجهة

البنتاغون تُقَيّد حريّة الصحافة: تصعيد ومواجهة
 

د. منذر سليمان وجعفر الجعفري
الميادين نت
19/10/2025

يمكن تقييم علاقة ترامب مع الصحافة على أنها استمرار لمَسار التصعيد والمواجهة مع كلّ الخصوم، حيث انتقلت من هجَمات خطابيّة في ولايته الأولى إلى إجراءات مؤسّسيّة وقانونيّة ملموسة في ولايته الثانية، ممّا دفَع منظّمات دولية لتصنيف حريّة الصحافة في الولايات المتحدة بأنها "إشكاليّة".
جانب المُقارَنة بين الولاية الأولى (2017-2021) والولاية الثانية (2025 حتى الآن) يتجلّى بهجَمات لفظيّة مُكَثّفة، عبر وسائل التواصل الاجتماعي، ووَصْف وسائل الإعلام بـ "عدوّ الشعب الأميركي"؛ ثمّ الانتقال من الخطاب إلى الإجراءات الفعليّة، مثل حَظْر صحافيين، وسَحْب تصاريح، ودعاوى قضائيّة.
الأداة الأساسيّة للهجَمات كانت ولا تزال منصّات التواصل الاجتماعي (تويتر/إكس سابقاً). كذلك أدَوات ومَوارِد الدولة: البيت الأبيض، وزارة الدفاع (البنتاغون)، والسلطة القضائية (دعاوى قضائيّة وتحقيقات اتحاديّة) .
وشهِدنا استهدافاً عامّاً للمؤسّسات الإعلامية الكبرى (مثل  CNN ، نيويورك تايمز(، واستهدافاً انتقائياً ومُمَنهَجاً تَرَكّز على منع وكالات أنباء مُحَدّدة (مثل أسوشيتد برس)، وإقصاء وسائل الإعلام من البنتاغون، والتحقيق مع شبكات كبرى عبر لجنة الاتصالات الفيدراليّة.
ردّ فعل الإعلام/المجتمع المدني تَجَلّى بانتقادات وبيانات شجْب من منظّمات حماية الصحافة، عبر تنظيم المواجهة من خلال تأسيس شبكات للتضامن وتقديم الدعم القانوني للصحافيين تحت الضغط. كما سَجّلت المَحاكِم بعض الانتصارات للصحافة، كإلغاء بعض قرارات الحَظْر.
 تراجع تصنيف حريّة الصحافة
كان للاستراتيجيّة الجديدة في الولاية الثانية للرئيس ترامب تأثير ملموس على التصنيف العالَمي لحريّة الصحافة في الولايات المتحد؛ حيث أشارت تقارير "مُراسِلون بلا حدود" إلى تراجع الولايات المتحدة إلى المركز الـ 57 في مؤشّر حريّة الصحافة العالمي لعام 2025، ليتمّ تصنيف وضعها للمرّة الأولى على أنه "إشكالي" وليس "مُرضِياً".
نظرة على المستقبل
في ظلّ هذه الديناميكيّة، يبدو أنّ علاقة ترامب مع الصحافة تتّجه نحو مزيد من التصعيد:
لم تَعُد العلاقة مجرّد خلاف سياسي، بل تحوّلت إلى اختبار حقيقي للضمانات الدستورية التي تحمي حريّة الصحافة في الولايات المتحدة .
تأزّمت العلاقة بين الصحافة والبنتاغون بشكل غير مسبوق في الأسابيع الأخيرة، بعد أن فرض وزير الدفاع الأميركي بيت هيغسيث قيوداً جديدة تطلب من الصحافيين التوقيع على تعهّد بعدم نشر أيّ معلومات من دون مُوافَقة مُسبَقة من الوزارة. وقد واجهَت هذه القيود رفضاً قوياً من قِبَل معظم وسائل الإعلام الأميركية الكبرى، ممّا دفع بالعديد منها إلى عدم التوقيع وخسارة تصاريح الدخول إلى البنتاغون.
الخلفيّة والسياق جزء من نَمط مُتصاعد من القيود تحت قيادة هيغسيث، الذي طرَد سابقاً عدّة وسائل إعلام من مكاتبها في البنتاغون. 
تقِف العلاقة بين الصحافة والبنتاغون عند مُفتَرق طُرُق حاسم. تُشير التطوّرات الأخيرة إلى أنّ المشهَد يتّجه نحو:
- تقلّص حادّ في الشفافيّة: مع خروج عدد كبير من المُراسِلين الرئيسيين من البنتاغون، ستَضعُف القدرة على مُراقَبة ومُحاسَبة أكبر مؤسّسة عسكرية في البلاد.
- صحافتان: صحافة رسمية (تُمَثّلها الوسائل المُوالية التي وقّعَت على التعهّد) وأخرى مستقلّة ترفض هذه القيود وتغطّي الشؤون العسكرية من خارج أسوار البنتاغون.
- معركة قانونية مُحتَملة: لا تزال المؤسّسات الإعلامية تدرس التحدّيات القانونية؛ وقد ينتهي الأمر بهذه القضية إلى المَحاكِم للبتّ في تقويض مساحة حرّيتها المهنيّة. 
باختصار، لم يَعُد الوصول إلى المعلومات داخل البنتاغون أمراً مفروغاً منه، بل أصبح امتيازاً مشروطاً بمُوافَقة الحكومة، ممّا يُهَدّد بتغيير جوهري في طبيعة العلاقة بين السلطة الرابعة والمؤسّسة العسكرية في الولايات المتحدة.
الإجراءات التي أقدَم عليها وزير الدفاع الأميركي بيت هيغسيث لتقييد عمل الصحافة في البنتاغون تُواجِه اعتراضات قويّة من وسائل الإعلام والخُبراء القانونيين، الذين يرون أنها تَنتَهِك الضمانات الدستورية لحريّة الصحافة، ممّا يضعها في موقف قانوني هشّ.
 طبيعة القيود المُثيرَة للجدل
فرَض البنتاغون بقيادة هيغسيث سياسة جديدة تُلزِم الصحافيين بالتوقيع على تعهّد كشرط للاحتفاظ بتصاريح الدخول. تتلخّص أبرز بنود هذه السياسة في:
- المُوافَقة المُسبَقة على النشر: يَشترط التعهّد أن يحصل الصحافي على مُوافَقة مسؤول في البنتاغون قبل نشر أيّ معلومات، حتى لو كانت غير مُصَنّفة كأسرار رسمية.
- تقييد حريّة الحركة: لم يَعُد مسموحاً للصحافيين بالتجوّل بحريّة في أروقة البنتاغون، وأصبح وجودهم مقصوراً على مناطق محدّدة، مع ضرورة وجود مُرافِق رسمي في كثير من الأحيان.
- عواقب الرّفض أو المُخالَفة: يؤدّي رفض التوقيع على التعهّد أو مُخالَفة شروطه إلى سحب التصريح الممنوح ومنع الصحافي من دخول المبنى.
 الانتهاكات الدستورية والقانونية المُحتمَلة 
يرى خُبَراء قانونيّون ونُشَطاء في مجال حريّة الصحافة أنّ هذه السياسة تتعارض مع الدستور الأميركي للأسباب الآتية:
-انتهاك التعديل الأوّل: يُشَكّل جوهر الاعتراض على أنّ هذه القيود تنتهك التعديل الأوّل للدستور الأميركي الذي يضمن حريّة الصحافة والتعبير؛ حيث إنّ اشتراط الحصول على موافقة حكومية مُسبَقة على نشر المعلومات يُعتَبر شكلاً من أشكال "الرّقابة المُسبَقة"، وهو من أخطر أشكال انتهاك حريّة التعبير.
-تقييد حقّ الجمهور في المعرفة: تمنع هذه السياسة الجمهور من الحصول على تقارير مستقلّة عن المؤسّسة العسكرية التي تُمَوّل من أموال دافعي الضرائب؛ وهو ما يُقَوّض الشفافيّة والمساءلة.
-غموض المصطلحات: استخدام مصطلحات فضفاضة، مثل "معلومات غير مُصَرّح بها"، يمنح البنتاغون سلطة تقديريّة واسعة لتطبيق السياسة بشكل انتقائي، واعتبار أيّ صحافي "تهديداً أمنياً" بناءً على تقاريره.
أعلنت وسائل الإعلام رفضاً جماعياً للتوقيع من مؤسّسات كبرى (مثل نيويورك تايمز، واشنطن بوست، سي أن أن)، ووصَفَت السياسة بأنها "غير مسبوقة" و"مُهينَة". كما اعتبرت منظّمات حقوقيّة، "لجنة المُراسِلين من أجل حريّة الصحافة"، بأنه يمكن استغلالها "لإسكات التقارير المستقلّة".
تَدّعي البنتاغون (هيغسيث) بأنّ القواعد ضرورية لـ"تنظيم حركة الصحافة" و"حماية الأمن القومي"، وترى أنّ الوصول إلى البنتاغون "امتياز وليس حقّاً".
 التطوّرات والمستقبل المُحتَمَل للأزمة
-معركة قانونية مُحتَملَة: أشارت تقارير إلى أنّ وسائل الإعلام الكبرى تستعدّ لخَوْض معركة قانونية ضدّ سياسة البنتاغون، وهو ما قد يدفع القضاء الأميركي للبتّ في مُطابقتها للدستور.
-سابقة خطيرة: إذا نجحَت هذه السياسة، فقد يتمّ تطبيق نموذج مُشابِه في قطاعات حكومية أخرى، ممّا يُقَوّض قدرة الصحافة على مُراقَبة عمل الحكومة بشكل أوسع.
-إنّ الإجراءات التي يتّخذها هيغسيث تقع في منطقة رماديّة قانونياً وتُواجِه معارضة شرِسة. يُتَوَقّع أن يكون مصيرها النهائي رَهْناً بما ستُسفِر عنه أيّ معركة قضائية مُحتَملَة، والتي ستكون حاسمة في تحديد حدود سلطة الحكومة في تقييد الصحافة مُقابِل ضمانات حريّة التعبير الدستورية.
-تؤثّر القيود الجديدة التي تفرضها البنتاغون بشكل مباشر وسلبي على نوعيّة التغطية الإخبارية، حيث تُقَوّض قدرة الصحافيين على أداء دورهم الأساسي في مُراقَبة السلطة وإطْلاع الجمهور على المعلومات الدقيقة. يعتمد هذا التأثير على عدّة ركائز أساسية تهدّدها هذه القيود:
•إذ إنّ اشتراط المُوافَقة المُسبَقة على نشر المعلومات (حتى غير السريّة) يحول دون نشر معلومات مهمّة للجمهور، ويُقَوّض استقلاليّة الصحافيين التحريريّة، ممّا يُنتِج تقارير غير كاملة، وقد تكون غالباً مُنحازَة .
•كما أنّ تقييد حركة الصحافيين داخل البنتاغون، واشتراط وجود مُرافِق، يَحدّ من القدرة على التحقّق من المعلومات بشكل مستقل، ويُقَلّل فُرَص الحصول على مصادر أوليّة ومتنوّعة، ممّا يُضعِف عمق ودقّة التقارير.
•اعتبار الصحافيين "تهديداً أمنياً" لمجرّد كشفهم معلومات من دون إذن يخلق بيئة من الرقابة الذاتيّة والخوف، حيث يَتجنّب الصحافيون تناول مواضيع حسّاسة لكنها مهمّة، خشية فقدان تصاريحهم أو المُلاحَقة.
•إنّ طَرْد وسائل إعلام كبرى وتقليص انعقاد المؤتمرات الصحفية، يُقَلّل من تنوّع المَصادِر والوجهات الإعلامية، ويحرم الجمهور من وجهات نظَر متعدّدة، وهي أساس تكوين صورة متكاملة عن الحقائق.
 تهديد المبادئ الأساسية للصحافة
تتعارَض هذه الإجراءات مع المبادئ الأساسية للصحافة المستقلّة التي تؤكّد الدراسات الأكاديمية أهميّتها:
-الشفافيّة والمساءلة: تمنَع القيود الصحافيين من أداء دورهم الرّقابي على عمل المؤسّسات الحكومية المُمَوّلة من أموال دافعي الضرائب.  كما يَحرم الجمهور من حقّه في المعرفة ويُضعِف المساءلة العامّة.
-حريّة التعبير والدستور: وصفَت وسائل إعلام القيود بأنها "تتعارض مع أُسُس العمل الصحافي" وتُقَوّض الحقوق المنصوص عليها في التعديل الأوّل للدستور الأميركي، الذي يكفل حريّة الصحافة . كما أنّ اشتراط المُوافَقة المُسبَقة هو شكل صريح من أشكال الرقابة التي تتعارض مع المُمارَسات الصحافيّة الحرّة.
-تنوّع المصادر والآراء: يؤدّي طَرد وسائل إعلام معيّنة وتفضيل أخرى مُوالِية إلى خلق بيئة إعلامية غير مُتَوازِنة، لا يعكس فيها المحتوى الإخباري سوى رواية واحدة، ممّا يضرّ بقدرة الجمهور على تكوين آراء مُستَنيرة.
مستقبل التغطية في ظلّ هذه القيود
على الرّغم من هذه التحدّيات، أعلنَت المؤسّسات الإعلامية الكبرى عزمها على مُواصَلة التغطية باستخدام استراتيجيّات بديلة، والتمسّك بمبادئ الصحافة الحرّة والمستقلّة. وقد يشهَد المستقبل اتجاهين مُتَوازِييْن:
-تعزيز الصحافة الاستقصائية: قد تزيد الوسائل الإعلامية من اعتمادها على التحقيقات الخارجية والتعاون مع مصادر داخلية للتعويض عن ضعف الوصول المباشر.
-اللجوء إلى القضاء: من المُحتَمل أن تتصاعد التحدّيات القانونية لهذه السياسات، حيث تستعدّ بعض الوسائل لخَوْض معركة قضائية للطعن في دستوريّتها.
باختصار، تدفع هذه القيود نوعيّة التغطية الإخبارية نحو مزيد من السطحيّة والتبعيّة للرواية الرسمية، ممّا يَحول دون حصول الجمهور على تقارير شفّافة ودقيقة ومستقلّة حول شؤون الدفاع والأمن القومي التي تهمّ المصلحة العامّة.
رفضَت معظم وسائل الإعلام الأميركية الكبرى التوقيع على وثيقة القيود الجديدة التي فرَضتها البنتاغون على الصحافيين، بينما وَقّعَت عليها قناة إخبارية واحدة معروفة بمواقفها المؤيّدة للرئيس دونالد ترامب.

أبرز وسائل الإعلام المُمتَنِعَة عن التوقيع
يُعتَبر رفض التوقيع على وثيقة البنتاغون موقفاً جماعياً شمل وسائل إعلامية متنوّعة، من بينها:
صحيفة نيويورك تايمز (The New York Times) 
صحيفة واشنطن بوست (The Washington Post)  
صحيفة وول ستريت جورنال (The Wall Street Journal)  
سي أن أن /(CNN) شبكة تلفزيونية 
فوكس نيوز /(Fox News) شبكة تلفزيونية 
ايه بي سي /(ABC) شبكة تلفزيونية 
سي بي أس /(CBS) شبكة تلفزيونية 
أن بي سي /(NBC) شبكة تلفزيونية 
مجلّة ذا أتلانتيك (The Atlantic) 
أسوشيتد برس (Associated Press)  / وكالة أنباء 
رويترز /(Reuters) وكالة أنباء 
فرانس برس (Agence France-Presse)  / وكالة أنباء 
أن بي آر (NPR) راديو/ منصّة رقميّة 
هوف بوست (HuffPost) / /منصّة رقمية 
صحيفة ذا غارديان (The Guardian) 
نيوزماكس (Newsmax) /شبكة تلفزيونية مُحافِظة 
بريكينغ ديفينس (Breaking Defense)  / منصّة متخصّصة في الشؤون الدفاعيّة. 
 الوَسائل المُوَقّعَة
أعلنت قناة "ون أميركا نيوز" (One America News Network) ، المعروفة بمواقفها المؤيّدة للرئيس ترامب، أنها وقّعت على وثيقة القيود الجديدة. 
علّق وزير الدفاع (الحرب)، بيت هيغسيث، على إعلانات الرّفض من وسائل الإعلام، بنشر رمز تعبيري لليد تُلَوّح بالوداع على منصّة "إكس" .

2025-11-03 12:26:54 | 28 قراءة

مركز باحث للدراسات الفلسطينية والاستراتيجية