الفاعلون العابرون للدول:
التأثيرات المتصاعدة للامتدادات الإقليمية في العلاقات الخارجية للدول العربية
24 أكتوبر، 2025
د. محمد عز العرب
رئيس وحدة الدراسات العربية والإقليمية بمركز الأهرام للدراسات السياسية والاستراتيجية
مركز المستقبل للأبحاث والدراسات المتقدّمة
تشهَد العديد من دول منطقة الشرق الأوسط حالات أو احتمالات خاصّة بتصاعد دور أفراد أو جماعات في إحداث تأثيرات سلبيّة أو خلافات حادّة أو توتّرات مكتومة بين دول الإقليم؛ ما يمسّ علاقات دول المنطقة مع بعض القوى الدولية، بالرّغم من اختلاف أسبابها ومظاهرها ومساراتها وتداعياتها من حالة لأخرى؛ إذ إن بعض الدول وقعَت أسيرة لما يُعرَف بـ"دورة التوتّر"، عبر تدخّل إحدى الجماعات السياسية أو التيّارات الفكرية أو الشخصيات الدينية في الشؤون الداخلية لدول أخرى؛ وهو ما يُنتِج تدخّلاً مضاداً؛ والعكس صحيح؛ ممّا يجعل هناك دائرة من الخلافات التي تقوم على التغذية المُتبادَلة. وعلى الرّغم من الطبيعة السلميّة لهذا التدخّل؛ فإنه قد ينعكس سلباً على مسار العلاقات الحاكِمة لدول الإقليم.
وفي فترات سابقة، كان توظيف ورقة المعارضة السياسية داخل دول الإقليم، إحدى آليات إدارة الصراعات البَيْنِيّة، حيث إنه بمجرّد حدوث نزاع أو صراع بين دولتين، قد تقوم كلٌ منهما باحتضان قوى المعارضة داخل الدولة الأخرى؛ وذلك بقصد زعزعة استقرارها، أو الضغط عليها؛ وهو ما حدَث مثلاً في عقد السبعينيّات من القرن الماضي، بين العراق وسوريا، أو السودان وليبيا. كما أن التدخّلات الإيرانية والتركية، في مراحل ما بعد موجة الثورات العربية في عام 2011، كانت تصبّ حينها في اتجاه التدخّل في الشؤون الداخلية لبعض الدول العربية، وذلك عبر دعم تيّارات إسلامية سُنيّة أو قوى شيعيّة؛ بما يُعَزّز نفوذها في تفاعلات الإقليم.
وإذا كانت تلك الموجة قد شهِدت حالات تُعَدّ تدخّلاً من قِبَل بعض الدول أو الأطراف في الشؤون الداخلية لدول إقليمية أخرى، فإنها قد ارتبطت بعدد من الوقائع المتكرّرة التي أخذت ملامح نمَط متجدّد، أو حتى ظاهرة آخذة في التشكّل، أفرزَتها التحوّلات الإقليمية السائلة خلال فترات زمنيّة مُتَتابعة، ولا سيّما تبِعات ما بعد حرب غزة الخامسة.
ففي الوقت الذي أشارت فيه بعض الكتابات إلى أن تلك التحوّلات ارتبطت بتنامي أدوار الفواعل المسلّحة من غير الدول في الشرق الأوسط، إلى حد اعتبرها البعض الظاهرة الأبرز في القرن الحادي والعشرين؛ برَز اتجاه مقابل يرى أن مرحلة ما بعد 7 أكتوبر 2023 أثبتت تراجع دور إيران والفواعل المرتبطة بأجندتها، مثل حزب الله في لبنان، وجماعة الحوثيين في اليمن، والتنظيمات الشيعية في العراق. غير أن التحليل الأقرب إلى الواقع يُشير إلى أن تأثير الفاعلين من غير الدول ما زال قائماً في تشكيل الاستقرار الإقليمي، وإن كان قد تراجع نسبياً مُقارَنةً بفترات سابقة.
محدّدات حاكمة:
يمكن القول إن هناك مجموعة من العوامل التي تُفَسّر تنامي ظاهرة الامتدادات الإقليمية، بل والدولية، على العلاقات الخارجية للدول العربية، وذلك على النحو التالي:
1- تزايد دور الفرد في التفاعلات الداخلية العربية: تصاعد تأثير الفرد كفاعل سياسي في النطاقات السياسية والإعلامية والاقتصادية، مُتَجاوِزاً النطاقات الرسمية التقليدية في المنطقة العربية؛ حيث إن امتلاك الفرد لمقوّمات ماليّة أو إعلاميّة أو فكريّة أو عقائديّة بات يكفل له التأثير في مسار التفاعلات الداخلية والإقليمية، خاصّةً في ظلّ تصاعد اتجاهات التشبيك والتواصل العابر للحدود اعتماداً على التحوّلات التكنولوجية وتبلور شبكات التواصل الاجتماعي. ويُطلِق البعض على هذه الظاهرة اسم (Mega Individual)؛ والتي تعني تَمَكّن الفرد من الجمع بين مصادر متعدّدة للتأثير السياسي، ومنها المال والإعلام والمعلومات والأفكار وصناعة الصورة، مثل رجال الدين وشيوخ القبائل وقادة الرأي، وربما النشطاء السياسيون لفترة من الوقت؛ بحيث يتمكّن هؤلاء أحياناً من تجاوز نطاقات سلطة الدولة.
2- تعاظم أثر التحوّلات الداخلية على التفاعلات الإقليمية: على مدى يقترب من عقد ونصف، شهِدت أركان منظومة العلاقات العربية - العربية، والعربية الإقليمية، والعربية الدولية؛ تغيّراً ملحوظاً، ليس بسبب الخلافات الحدوديّة، أو صراع الأدوار وتحقيق المكانة الإقليمية، أو السيطرة على الموارد الاقتصادية، أو المُضي في نهج التسوية الفلسطينية -الإسرائيلية، كما كان في فترات زمنيّة سابقة؛ بل يعود هذا التغيّر إلى أن زخم التحوّلات الداخلية السياسية والمجتمعية عزّز الترابط العضوي بين السياسات الداخلية والعلاقات الإقليمية Linkage Politics في إطار نموذج للنفاذيّة الإقليميّة، وخاصّةً في مرحلة ما بعد الثورات التي شهدتها بعض دول المنطقة. وهذا ما برَز في تأثير عدّة متغيّرات، ومنها ملاحقة رموز النُظُم الحاكمة السابقة، وتأثيرات تدفّق اللاجئين، وصعود وهبوط أدوار الفاعلين من غير الدول. وقد بدا ذلك جلياً مع صعود التيّارات الإسلامية إلى السلطة في عدد من الدول العربية، مثل مصر وتونس والمغرب، قبل فشل تجربتها في الحُكم وسقوطها سريعاً.
3- محاولة بعض النُظُم العربية الجديدة تعزيز شرعيّتها السياسية: يَنطَبِق ذلك جلياً على التوجّه الحاكِم للإدارة الانتقالية السورية برئاسة أحمد الشرع، لاستعادة رموز نظام الأسد من الخارج، ويأتي في مقدّمتهم الرئيس السابق بشّار الأسد، الذي لجأ إلى روسيا عقب الإطاحة به من الحُكم في ديسمبر 2024، على نحو ما بدا خلال زيارة الشرع إلى موسكو في منتصف شهر أكتوبر الجاري. وهذا ما صرّح به نائب مدير إدارة روسيا وشرق أوروبا في وزارة الخارجية والمغتربين السورية، أشهد صليبي، يوم 17 أكتوبر الجاري، بأن الشرع طالب خلال لقائه الرئيس الروسي، فلاديمير بوتين، تسليم بشّار الأسد بشكل واضح، مُضيفاً أن الجانب الروسي أبدى تفهّماً واضحاً تجاه تحقيق العدالة الانتقالية في سوريا. وعلى الرّغم من أن زيارة الشرع تمحورت حول العلاقات الثنائيّة بين سوريا وروسيا، والمستجدّات الإقليمية والدولية ذات الاهتمام المشترك، بالإضافة إلى مناقشات تشمل الجوانب السياسية والاقتصادية وملفّات إعادة الإعمار؛ فإن ملف تسليم الأسد ينطوي على أهمية قصوى للإدارة السورية الحالية، باعتبار أنه قد يعزّز شرعيّتها السياسية.
4- تبلور "الصراعات الاندماجيّة" في المنطقة العربية: يُشير اتجاه في الكتابات إلى أن قضايا الصراعات في المنطقة العربية بعد تحوّلات 2011، صارت مُتَداخِلَة بدرجة غير معتادة، على نحو ما تُطلِق عليه بعض الأدبيّات "الصراعات الاندماجيّة"؛ وهو ما تُشير إليه مثلاً حالتا الصراع في سوريا والعراق، حيث إن ما يحدث في أيٍ منهما يُلقي بتأثيراته على الآخر. وهذا ما تُدرِكه القوى السياسية المختلفة في دمشق وبغداد؛ لذا دعا زعيم التيّار الصدري في العراق، مقتدى الصدر، في تصريحات صحفيّة بتاريخ 11 ديسمبر 2024، حكومة بلاده إلى "اتخاذ الإجراءات الأمنيّة اللازمة لحماية الحدود العراقية غرباً وشرقاً وشمالاً وجنوباً"، بعد تغلغل الفصائل المسلّحة وإسقاط نظام الأسد في سوريا، حتى لا تمتد تأثيرات ما حدَث في سوريا إلى العراق، وخاصّةً بعد فرار عناصر من الجيش السوري إلى الحدود العراقية.
5- محوريّة قضايا الماضي في الذاكرة السياسية العربية: هذا ما يُشير إليه مثلاً قرار القضاء اللبناني، في 17 أكتوبر الجاري، بشأن إخلاء سبيل هانيبال القذافي، نجل الرئيس الليبي الراحل معمّر القذّافي، مقابل كفالة ماليّة ضخمة بلغت 11 مليون دولار. وكان هانيبال القذافي قد فرّ من ليبيا عام 2011 بعد اندلاع الثورة على حكم أبيه، ليصل في نهاية المطاف إلى سوريا التي تقول مُحامِيته إنه خُطِفَ منها إلى لبنان في عام 2015، ليُحتَجز هناك لمدّة 10 سنوات دون مُحاكَمته، وذلك في إطار مُتابعَته بتهمة "كتم معلومات" بشأن قضية اختفاء رجل الدين اللبناني الإمام موسى الصدر ورفيقيه خلال زيارة لهم إلى ليبيا عام 1978. وقد دأبت فصائل لبنانية على تحميل نظام القذّافي المسؤولية عن اختفاء الصدر؛ لذا تُشير بعض تعليقات الليبيين على وسائل التواصل الاجتماعي، وخاصّةً المُنتَمين إلى قبيلة القذاذقة، إلى أن ملف هنيبال تحوّل إلى ورقة مساومة سياسية وماليّة، ولا سيّما مع ضخامة الكفالة الماليّة للإفراج عنه؛ وهو ما قد يؤثّر في مسار العلاقات اللبنانية – الليبية، خاصّةً مع "تسييس الملفّات القضائية"، على حدّ تعبيرهم.
6- توظيف عودة القضية الفلسطينية إلى صدارة الاهتمامات العربية: يعمل الفاعلون الأفراد في دول الإقليم على استغلال حالة التعاطف في العديد من الدول مع الشعب الفلسطيني، بعد الحرب التي شنّتها إسرائيل على قطاع غزة على مدار عامَيْن منذ أكتوبر 2023. وفي هذا السياق، أصدر مفتي ليبيا المعزول، الصادق الغرياني، في 29 مارس 2024، فتوى "تُحَرّم على الجيوش في مصر والأردن منع الناس من اقتحام الحدود مع الضفة الغربية وغزة لنصرة الفلسطينيين"، على حدّ زعمه. فالغرياني يُحاوِل أن يعود إلى المشهد العابر لحدود دول الإقليم، ويُعَبّر عن دعم ممثّلي جماعة الإخوان في دول عديدة من أجل ما سمّاه "مقاومة إسرائيل" في جبهات مختلفة، في حين يتبنّى الغرياني الخطاب التكفيري الداعم للجماعات المتطرّفة والإرهابية التي تعمل على زعزعة الأمن والاستقرار في الإقليم.
ظاهرة مُتَصاعِدة:
الخلاصة، أنه لا يوجد نمَط أو مستقبل واحد لدور الأفراد والجماعات العابِرة للدول في تفاعلات الإقليم فيما يتعلّق باحتمالات استمرارها أو توقّف تأثيرها في علاقاته البَيْنِيّة. فالعوامل الحاكِمة لكلّ حالة سوف تحدّد مسارها؛ لكن يبقى أن هناك ظاهرة إقليميّة مُتَصاعِدة يتعيّن الالتفات إليها من الآن فصاعداً.
2025-11-03 12:30:23 | 46 قراءة