الاستعمار الاستيطاني في فلسطين ومُقارَبة ثلاثيّة المستوطن والأصلاني والمُستَجلَب
المقال جاء لفحص سياسات الدمج وإمكانيّات نجاحها؛ بمعنى احتواء الفلسطينيين العرب غير اليهود في داخل المنظومة الإسرائيلية. ومعروف أن أحد أهم المداخل لفحص إمكانيّة الدمج هو الانطلاق من حقيقة أن الدمج بحدّ ذاته هو سياسة معروفة لأنظمة استعمارية استيطانية.
سليمان أبو ارشيد
موقع عرب 48
1/11/2025
في مُقارَبة لدراسة تعقيدات الاستعمار الاستيطاني في فلسطين عبر ثلاثيّة: "الإشكناز" بوَصفِهم المستوطنين الأوروبيين، والفلسطينيين باعتبارهم السكّان الأصلانيين، والمزراحيين كفئة ثالثة من اليهود "المُستَجلَبين" من بلدان الشرق الأوسط وشمال أفريقيا، على حدّ تعبيره، يُشير الباحث في الأنثروبولوجيا د. نديم كركبي، من خلال مقاله الذي نشَرت ترجَمته العربية مجلّة "قضايا إسرائيلية" في عددها الأخير، إلى أن موقع "المزراحيين" في هذه الثلاثيّة يُتيح مجالاً للمُقارَنة مع أطروحات باتريك وولف (أحد مؤسّسي حقل دراسات الاستعمار الاستيطاني) حول "الفئة الثالثة" في التجارب الاستيطانية في أميركا (العبيد الأفارقة) وأستراليا (السجناء الأوروبيون).
ويُناقِش المقال إشكاليّة الحالة المزراحية الخاصّة، وما تطرحه من تعقيدات نظريّة وتحليليّة، حيث جُلِبَ المزراحيون لتعزيز التفوّق الديمغرافي اليهودي؛ لكنّهم ظلّوا في موقع دونيّ داخل هرميّة يُهَيمِن عليها الإشكناز، ووضِعوا في منطقة رماديّة بين الأبيض/المستوطن والأسود/الأصلاني بسبب دينهم اليهودي وأصولهم الشرق أوسطية.
ويُشير الباحث إلى ما ذهب إليه وولف في عمله الأخير، عندما اعتبر أن "المزراحيين" أشبه بـ"العبيد الأميركيين" أكثر من كونهم "السجناء الأستراليين"، حيث إن تبعيّتهم مُشَفّرة مظهَرياً عبر الأجيال؛ ومن ناحية أخرى، فهم، مثل السجناء الأستراليين، يتشاركون مع المستوطنين قاسماً مشتركاً في مواجهة السكّان الأصليين؛ غير أن هذا القاسم في حالتهم ديني لا مَظهَري، إذ يتشاركون الدّين ذاته مع بقيّة المستوطنين. لكنه يوضِح أن ملامحهم الجسديّة تبقى علامة أقوى تُحَدّد موقعهم في مواجهة الطبقة "الإشكنازية" العليا من المستوطنين، مؤكّداً أنه، ورغم استمرار التمايز المزراحي، فإن عزل "المزراحيين" لم يتم بوَصفِهم فئة عِرقيّة خارجية، بل كـ"آخر داخلي" محصور ضمن الحدود الجماعيّة الصهيونية.
وفي سياق التعامل مع الفلسطيني الأصلاني، يُشير المقال إلى أنه بعد عملية التطهير العِرقي الواسعة عام 1948، مُنِحَ الفلسطينيون الذين بقوا داخل إسرائيل – وهم أقليّة – الجنسية الإسرائيلية، وهو ما مَيّزهم عن بقيّة الفلسطينيين؛ وبالإضافة إلى ذلك، نُزِعَت قوميّتهم عبر تصنيفهم كـ"عرب"، ثم تقسيمهم إلى فئات دينيّة: مسلمين، ومسيحيين، ودروز؛ وبهذا أُدرِجوا في البنية السياسية الإسرائيلية؛ لكن تمّ تمييزهم عن الشعب اليهودي، ليَظلّوا جماعة أصلانية غير قابلة للاندماج ومواطنين تابعين.
أما "المزراحيون"، فعلى الرغم من مُعامَلتهم من قِبَل الاشكناز كيهود أدنى مرتبة على الصعيدين المَظهَري والثقافي، كما يقول كركبي، فقد جرى "نزع عروبتهم" وإعادة تصنيفهم عِرقياً كيهود ليتَناسبوا مع صفوف المستوطنين؛ وفي هذه العملية تمّ "تسويدهم" كفئة خارجية، وفي الوقت نفسه تمّ أيضاً "تبييضهم" بوَصفِهم مستوطنين يهوداً. ومن هنا، يُشبِه وضعهم – وفق تشبيه يائيل هشاش (باحثة إسرائيلية شرقيّة الأصل) خلافاً لما يراه وولف – السجناء الأستراليين المعروفين اصطلاحاً بـ"القمامة البيضاء"، بما يعكس انتماءهم المُلتَبِس إلى مجتمع المستوطنين اليهود.
بهذا المعنى، فإن التمايز الداخلي بين اليهود على أساس التصنيف العِرقي المَظهَري، كما يُشير الباحث، كان في توتّر مع، لكن دون أن يتناقض مع، التصنيف العِرقي الجيني لليهود كجماعة إثنو-قومية قائمة على الدّين.
وبهذا الصدد، حاوَر "عرب 48" د. نديم كركبي لإلقاء المزيد من الضوء حول الموضوع وتعقيداته.
د. نديم كركبي
"عرب 48": لطالما جرى التمييز بين فئتين داخل المجتمع الاستيطاني في فلسطين، غربيين وشرقيين، إلى جانب ما تبقّى من السكّان الأصليين – الفلسطينيين؛ لكن الجديد واللافت في مقالك هو المُقارَنة بين حالة اليهود الشرقيين وبين حالةٍ ما أسمَيتَها بالفئة الثالثة، "السود في أميركا" الذين استُجلِبوا من إفريقيا لخدمة المستعمرين البيض و"السجناء الأستراليين" الذين استُجلِبوا من سجون بريطانيا وإيرلندا لتعزيز الاستيطان في أستراليا؟
كركبي: المقال جاء لفحص سياسات الدمج وإمكانيّات نجاحها؛ بمعنى احتواء الفلسطينيين العرب غير اليهود في داخل المنظومة الإسرائيلية. ومعروف أن أحد أهم المداخل لفحص إمكانيّة الدمج هو الانطلاق من حقيقة أن الدمج بحدّ ذاته هو سياسة معروفة لأنظمة استعمارية استيطانية، حيث تبدأ هذه المنظومات في المراحل الأولى بتوظيف القوّة العنيفة، إن كان ذلك عبر الإبادة أو التطهير العِرقي، ثم تلجأ في مرحلة معيّنة، بعد أن يبقى القليل من السكّان الأصليين، مثلما حصل في فلسطين بعد النكبة، إلى توظيف قوّة ناعمة، ألا وهي الاحتواء.
هذه الأمور رأيناها بصورة أكثر كمالًا في شمال أميركا وأستراليا، وفي أماكن أخرى مرّت بمثل هذه التجارب؛ لكنها في حالة إسرائيل مع الفلسطينيين، واجهت عملية الاحتواء صعوبة ولم تكتمل لسبَبَيْن؛ الأوّل لغياب إرادة كافية لاحتواء غير اليهود في المنظومة الاستعمارية الاستيطانية، والثاني، والمُرتَبِط به، هو أعداد الفلسطينيين الأصلانيين المُتَزايِدة، خصوصاً بعد احتلال الضفة الغربية وقطاع غزة عام 1967.
"عرب 48": أشرتَ إلى أن سبب فشل الاحتواء يعود إلى أن عمليّة الإبادة أو التطهير العِرقي لم تكتمل مثلما حدَث في شمال أميركا وأستراليا؟
كركبي: هناك سؤالان محوريّان حاولتُ الإجابة عليهما؛ الأوّل هو التعامل مع الأصلاني الفلسطيني، والثاني هو التعامل مع اليهودي الشرقي، والتي بالمُقارَنة مع حالات في العالم حصَل فيها تعامل مع هاتين الفئتين، الأصلانيّة والمُستَجلَبة من الخارج، كان التعامل معهما مختلفاً كلّياً. ففي أميركا الشمالية وأستراليا رأينا تعاملاً مختلفاً بـ 180 درجة، من ناحية احتواء للأصلانيين، ومن ناحية نفور من السود في أميركا؛ حتى إن نقطة دم سوداء واحدة كانت كافية لتضع صاحبها في المنظومة السلبيّة السوداء، وبمرتبة أدنى من البيض.
عندنا نرى تعاملاً مختلفاً؛ وهذا يوضِح لنا كم علينا أن نكون حَذِرين في توظيف نظريّات من أماكن أخرى وتطبيقها على واقعنا، لأن لكلّ حالة خصوصيّتها؛ ولكن لا يعني أنّنا لا نستطيع أن نتعلّم من هذه التجارب التي تساعدنا في فهم أفضل لواقعنا.
بالنسبة لنا، بيانات الحالة التاريخية للمجموعتين، الفلسطينيين والشرقيين، تُشير إلى كيف أن الفلسطينيين في الـ48 لم يدخلوا المنظومة الكولونياليّة، لعدّة أسباب، منها الديمغرافيا ودخول أهالي الضفة الغربية وقطاع غزة بعد الـ67 إلى سوق العمل في نفس المساحة؛ فصار من الصعب أن تحتوي فئة كان يبدو في البداية أنها مهزومة وصغيرة.
الخطَر الديمغرافي ما زال يشكّل هاجساً بالنسبة لهم. والإبادة، وكلّ ما يحصل في السنة الأخيرة، هو دليل على استكمال المشروع الذي لم يكتمل. فالاحتواء هنا جاء سابقاً لأوانه بالنسبة لأهالي 48؛ ولذلك حدَثت بلبلة معيّنة. أما من ناحية الشرقيين، فهنا كانت المفاجأة الأكبر، إذ إن هؤلاء الذين كان من المفروض أن يكونوا مثل "عبيد أميركا"، اختلفت وضعيّتهم لأنهم جُلِبوا أيضاً لأسباب ديمغرافية، وهو ما جعل وظيفتهم تختلف عن وظيفة السود في أميركا.
وبنظرة متعمّقة للدور الذي لعَبه الشرقيّون، نرى أنهم لعبوا دور اليهودي الأصلاني في المنطقة، الذي جاء واستبدَل الفلسطيني، والتعامل معه كان مُشابِهاً أكثر للتعامل مع السكّان الأصليين في أميركا، وحتى في أستراليا، لأن احتواءهم كان مُشابِهاً جداً. ومثال على ذلك قضية خطف الأولاد من عائلاتهم ودمجهم في منظومات تربية وتعليم للدولة المُستَعمِرة؛ وهو ما نعرفه من قضية "أولاد اليمن" التي تفجّرت في السنوات الأخيرة.
هذا إضافة إلى كلّ المنظومة العسكرية ومنظومة الصهر عن طريق التربية في برامج ومدارس داخلية، والدعوة الواسعة التي كانت حتى قبل 1948 للزّيجات المختلطة. وكما هو معروف، فإن الزواج هو واحد من الحقول التي نستطيع من خلالها تقييم التعامل مع الدمج سلباً وإيجاباً. هنا نرى كم يحظى موضوع دمج الشرقيين بالدعم لدرجةٍ يصبح معها تبديد الفروقات، أو تحوّل جميع اليهود إلى إسرائيليين إنجازاً، رغم أنه على أرض الواقع اعتبارات التمييز موجودة بكلّ المفاهيم، في أماكن السكن ونوعيّة العمل وأنماط الحياة الأخرى.
"عرب 48": بالمقابل هناك رفض للفلسطينيين الأصلانيين؟
كركبي: بالنسبة للفلسطينيين، رغم وجود حالات معيّنة مع بدايات الدولة، فإن هناك رفضاً مُطلَقاً يشتدّ أكثر كلّما تطوّرت الحالة الديمغرافية. وقد أخذَت هذه السياسات تزداد حدّة بعد الـ67، حيث بلغت ذروتها في السنوات الأخيرة؛ وهذا مؤشّر على مدى الخوف من الفلسطينيين ومن الأرقام الديمغرافية.
وأعتقد أن سياسات الزواج المختلط التي أتناولها في المقال هي نافذة مهمّة لبحث هذا الموضوع، حيث أُشيرَ هناك إلى حالة نسرين قادري والعراقيل التي وضِعت أمام تحويل ديانتها لمنع زواجها من صديقها اليهودي، والتي أدّت في النهاية إلى انفصالهما، والتي عالجتُها بعمق في مقال خاص أيضاً، هي إثبات كيف أنهم يتعاملون معنا ليس كسكّان أصليين بل كدُخلاء، لأنهم يرون بأنفسهم هم السكّان الأصليين.
"عرب 48": ربما يكمن الفرق مع استعمارات أخرى أنهم كانوا يرون بالسكّان الأصليين "بقايا" لا يشكّلون خطَراً على مجتمع المستوطنين، في حين أن النكبة وما تلاها من ممارسات فشلت في القضاء على الفلسطينيين كشعب ما زال يطالب بحقّه في تقرير مصيره على أرضه؟
كركبي: في أماكن أخرى وصل فيها المُستَعمِر الأوروبي الأبيض إلى شمال أميركا وحتى جنوبها وأستراليا، كان واضحاً منذ البداية أنه غريب عن البلد، وهو يسعى إلى أن يصير بشكل أو بآخر مثل الأصلاني من خلال تبنّي عادات البلَد وأنماط الحياة الخاصّة بها كوسيلة للارتباط بالمكان. وعندنا أيضاً كان استخدام لأشكال الطعام واللباس، وحتى اللغة العربية.
الأمور ليست أسود وأبيض. ففي فترات معيّنة كان التعامل مع الفلسطيني بطريقة معيّنة، ومع الشرقيين بطريقة أخرى. في البداية، كان التعامل معنا فعلاً كأصلانيين ومع الشرقيين كمُستَجلَبين، وهم من كانوا يقومون فعلياً بالأعمال السوداء. ومع الوقت تتحوّل الصورة، حيث يتهمّش دورنا ويحتلّ الشرقيّون دوراً أكبر.
"عرب 48": أشرتَ إلى استعمالات مختلفة للشرقيين تختلف عن دور الفئة الثالثة في استعمارات أخرى، منها الديمغرافيا التي تحدّثنا عنها، ومنها مسألة تأصيل أنفسهم في المكان، بمعنى استعمالهم كأبناء المنطقة لربط المستوطنين اليهود بالمكان؟
كركبي: الشرقيّون، وبالذات اليمنيّون، كانوا بمثابة همزة الوصل. وفي سياقات أخرى يستعملون مصطلح "المتحجّرات البشرية"، أي التجمّعات الإنسانية التي لم تتأثّر بمرور الزمن وبقيت كما كانت. هكذا هي قصّة يهود اليمن بعاداتهم وطقوسهم الدينية، وكأنهم أقرب إلى اليهود الأصليين الذين ورَدوا في التوراة؛ ولذلك يرون فيهم همزة الوصل والبرهان الحيّ للوجود اليهودي في المنطقة؛ ولذلك يتّكئون عليه؛ ولكن، من ناحية ثانية، يهمّشونه ويتعاملون معه بطريقة استشراقية.
"عرب 48": إنّهم، كما ذكرتَ في المقال، يقومون بتبييضهم وتسويدهم حسب الحاجة؟
كركبي: في السنوات الأخيرة حصل تحوّل في نظرة الشرقيين لأنفسهم؛ بمعنى إذا كان الشرقيون في السابق عرباً مثلنا، وبعدها أصبحوا مهمّشين داخل المنظومة الاستعمارية كيهود من درجة ثانية، فوق العرب وتحت اليهود الإشكناز، فإنهم بعد الـ67 دخلوا في المنظومة الاستعمارية بشكل فعلي كأناس ذهبوا واستوطنوا في الضفة الغربية وقطاع غزة؛ ولذلك لسان حالهم صار يقول للإشكناز: نحن مثلكم، وحتى أفضل منكم، لأنّنا من الشرق الأوسط ومحليّون أكثر منكم ويهود أكثر منكم، لأنّنا متديّنون وليس شيئاً مصطنعاً قادماً من الخارج. تلك العوامل، الأكثر تديّناً والأكثر محليّة، وضعَت اليهود الشرقيين في موقع عكسي، حيث صاروا يستَعلون على "الإشكناز"؛ وهذا توتّر أو تحوّل في الصراع يندرج ضمن التقسيمات السياسية القائمة بين "يسار" و"يمين" والنزاع الدائر اليوم على شكل الدولة وطابعها.
د. نديم كركبي: مُحاضِر في عِلم الأنثروبولوجيا بجامعة حيفا، وعضو مؤسّس في جمعية إنسانيات – رابطة الأنثروبولوجيين الفلسطينيين. يُرَكّز بحثه الحالي على دراسة أداءات الموسيقى العربية والموسيقى بالعربية بين الشباب اليهود المزراحيين في إسرائيل، لاستكشاف تصوّراتهم حول الأصلانيّة، والمنفى، والوطن.
2025-11-05 13:51:59 | 25 قراءة