أميركا ودبلوماسيّة رجال الأعمال.. إنّها مدرسة الولاء لترامب!
نضال خالد
موقع 180 بوست
04/11/2025
لطالما كانت الدبلوماسية الأميركية نموذجًا عالميًا مؤسّساتيًا، حيث يُنظَر إلى المندوبين والسفراء على أنهم خُبراء في السياسة الدولية، مُطّلعون على التاريخ والجغرافيا، وقادرون على قراءة التحوّلات الدقيقة في بيئات سياسية معقّدة. من بنجامين فرنكلين إلى هنري كيسنجر، عقل السياسة الأميركية الاستراتيجي، إلى فيليب حبيب، خبير الشرق الأوسط، امتلك هؤلاء الدبلوماسيون مؤهّلات نادرة جمَعت بين المعرفة النظريّة والخبرة الميدانيّة. مع حقَبة دونالد ترامب نشهَد تحوّلًا جذريًا في مُقارَبة السياسة الخارجية، من الدبلوماسية المؤسّسيّة المبنيّة على الخبرة والتحليل العميق، إلى دبلوماسيّة رجال الأعمال، حيث أصبح الولاء الشخصي والقدرة على إتمام “صفقة” معيارًا أعلى من الكفاءة أو التاريخ المهني. وقد طبَعت السياسة الخارجية الأميركية في ولاية ترامب الثانية تحوّلاً جوهرياً في خطابه السياسي من “أميركا أوّلًا” إلى “الصفقة أوّلًا”.
ففي خطابه في الرياض مطلع عام 2025، صرّح ترامب بأن “الشرق الأوسط يجب أن يُعرَف بالتجارة، لا بالفوضى”، ذلك أن ترامب يتعامل مع السياسة الخارجية كما يتعامل مع سوق العقارات: السعر، العائد، الفائدة والمُخاطَرَة، لا التاريخ أو الجغرافيا أو الديموغرافيا أو الالتزامات الأخلاقيّة. هذا التحوّل تجلّى في تعيين رجال أعمال مُقَرّبين من ترامب كمبعوثين، حيث شغل توم برّاك منصب سفير الولايات المتحدة في تركيا قبل تعيينه مبعوثًا خاصًا إلى سوريا (ولبنان لاحقاً). يمتلك برّاك شبكة علاقات واسعة في المنطقة، ويُنظَر إليه على أنه جسر بين المصالح التجارية الأميركية والدول الخليجية، إذ يُقارِب الملف السوري من زاوية مشروع إعادة إعمار واستثمار أكثر من كونها أزمة سياسيّة ومجتمعيّة وأمنيّة. ويأخذ عليه كثيرون أنه يفتَقر إلى الخبرة السياسية، ويعمل على قاعدة تحويل السياسة إلى أداة اقتصادية. أما مارك سافايا، رجل الأعمال الأميركي من أصل عراقي، فقد عُيّنَ مبعوثًا خاصًا إلى العراق. قادم من قطاع الأعمال حيث أسّس شركة لتوزيع القنّب الطبّي في ميشيغان، ويُعتَبر مثالًا آخر على تحوّل الدبلوماسية الأميركية إلى “دبلوماسية رجال الأعمال”. وبرغم قلّة خبرته الدبلوماسية، تمّ تعيينه بفضل علاقاته الشخصية مع ترامب ومساهماته الماليّة في حمَلاته الانتخابية.
وفي السياق ذاته، تمّ تعيين ستيفن ويتكوف، وهو مُطَوّر عقاري وصديق مُقَرّب لترامب منذ ما يقرب من 40 عامًا، مبعوثًا خاصًا للشرق الأوسط. أسّس ويتكوف شركة “ويتكوف كابيتال” العقارية، وله سجلٌ حافلٌ في مجال الاستثمار العقاري؛ ولعِب دورًا بارزًا في التوسّط لوقف إطلاق النار في غزة، ممّا عزّز مكانته كأحد اللاعبين الرئيسيين في السياسة الخارجية الأميركية. لكنّ نهجه التجاري في الدبلوماسية يُواجِه تحدّيات، وبخاصّة في معالجة القضايا المُعَقّدة المتعلّقة بالعدالة والسيادة الوطنية في مناطق النزاع مثل غزة وأوكرانيا. ولم يكن جاريد كوشنر، صهر الرئيس ترامب، بمنأى عن هذه التحوّلات، حيث كان له دور محوري في السياسة الخارجية الأميركية خلال فترة حُكم ترامب. بعد مُغادَرته البيت الأبيض، أسّس شركة “أفينتي بارتنرز”، التي تلقّت استثمارات كبيرة من صندوق الاستثمارات العامّة السعودي. ولعِب دورًا بارزًا في التوسّط لوقف إطلاق النار في غزة، ما أثار تساؤلات حول تضارب المصالح بين نشاطاته التجارية ودوره الدبلوماسي. يَسري ذلك أيضًا على ميشال عيسى الذي اختاره ترامب سفيرًا للولايات المتحدة في لبنان، من خارج نادي سفراء وموظّفي وزارة الخارجية. هو رجل أعمال ومصرفي وصديق لترامب، ولا سيما في لعبة الغولف. وقد اختارته مجلّة “فوربس الشرق الأوسط” من بين أفضل 35 من قادة الأعمال اللبنانيّين المُلهَمين، “تقديراً لمسيرته المليئة بالتحوّلات والإنجازات”.
***
أثارَت هذه التعيينات انتقادات واسعة تتّهم ترامب بأنه “تخلّى تمامًا عن فكرة الدبلوماسية التقليدية في الشرق الأوسط”، وأن التعيينات السياسية، مثل تعيين سافايا وبرّاك وميشال عيسى، تُظهِر تراجعًا في الاحترافيّة لمصلحة المحسوبيّة في السياسة الخارجية الأميركية. هذا ما انعكس في أزمات، منها تصريحات توم برّاك، حيث وصَف الصحفيين اللبنانيين بـ”الهمج” و”غير المُتَحَضّرين”، ممّا أثار غضبًا واسعًا. وبرغم الانتقادات الكثيرة، حقّقت سياسة “الصفقة أوّلًا” بعض النجاحات، مثل التوصّل إلى اتفاق لوقف إطلاق النار في غزة، بدور أساسي لعِبه ويتكوف وكوشنر، كما في وقف إطلاق النار بين إسرائيل وسوريا بوساطة توم برّاك. لكن يؤخَذ على هذه النجاحات أنها محدودة ومؤقّتة، ولم تُتَرجَم إلى استراتيجيّة شاملة أو استقرار طويل الأمَد في المنطقة. كما قوبل تعيين سافايا بترحيب حذِر من بعض المسؤولين العراقيين، الذين أبدوا أمَلًا في أن يُسهِم في تحسين العلاقات بين البلَدين. لكن غياب الخبرة الدبلوماسية لسافايا يُثير تساؤلات حول فعاليّة هذا التعيين في مُعالَجة القضايا المُعَقّدة في العراق. وبينما يُنظَر إلى تعيين رجال الأعمال كمبعوثين على أنه تحوّل في الدبلوماسية الأميركية، يُثيرُ هذا النهج تساؤلات حول فعاليّته واستدامته. قد تكون “دبلوماسية رجال الأعمال” فعّالة في إبرام صفقات سريعة، لكنها تفتَقر إلى العمق الاستراتيجي والاحترافيّة التي كانت سِمَة الدبلوماسية الأميركية التقليدية. ويبقى السؤال: هل يُمكِن لرجال الأعمال أن يُعَوّضوا غياب الخبرة السياسية في إدارة العلاقات الدولية، أم أن هذا النهج سيؤدّي إلى مزيد من الفوضى في منطقة الشرق الأوسط؟
***
في العالَم العربي يُنظَر إلى مبعوثي ترامب، أمثال توم برّاك ومارك سافايا وميشال عيسى، بمُقارَبات مُتناقضة. البعض يعتبر تعيينهم لمصلحة تعزيز العلاقات بسبب قُربهم من الرئيس الأميركي، حيث يُعتَبر هذا ضمانًا للوصول السريع إلى صانع القرار في واشنطن. والبعض الآخر ينظر إليهم بحذر بسبب افتقارهم للخبرة السياسية، وبخاصّة في ملفّاتٍ معقّدةٍ مثل العراق وسوريا ولبنان والصراع العربي - الإسرائيلي. هناك شعور بأن هؤلاء المبعوثين لا يفهمون التعقيدات المحليّة بالكامل، وقد يتّخذون قرارات متسرّعة أو قصيرة المدى. وغالبًا ما يُشير المحلّلون في الشرق الأوسط إلى أن هؤلاء المبعوثين يمثّلون عقليّة أميركية تجارية أكثر من كونها سياسية. على سبيل المثال، مقالات متعدّدة في لبنان والعراق ركّزت على أن برّاك وسافايا “يرون الدول كسوق” وليس ككيانات سياسية واجتماعية وثقافية معقّدة. ويُفَضّل صنّاع القرار في الدول المؤثّرة في العالَم العربي التعامل مع دبلوماسيين من طينة كيسنجر وفيليب حبيب عند الحديث عن ملفّات سياسية حسّاسة، بينما قد يُستَخدَم رجال الأعمال للتفاوض على ملفّات اقتصادية أو إعادة إعمار، أي ما يُعرف بـ”صفقات ملموسة”. ويتعامل العالَم العربي مع مبعوثي ترامب بعقليّة حذِرة؛ إذ إن هناك مَيلًا فِطريًا للتعامل مع الدبلوماسيين التقليديين عند الحديث عن قضايا سياسية حسّاسة أو استراتيجيّات طويلة الأمَد. فمبدأ الصفقات مهم ومُقَدَّر، خصوصًا في الخليج، لكنه لا يُغني عن الحاجة إلى خبرة سياسية وفهم معمّق عند إدارة الملفّات الحرِجة. ويمكن تلخيص الفارق في جملة: “رجال الأعمال قد يُنجزون الصفقة، لكن الدبلوماسي التقليدي يحمي العلاقة والمصلحة على المدى الطويل”.
***
من فرنكلين وكسينجر وحبيب، خُبراء السياسة والدبلوماسية، إلى توم برّاك ومارك سافايا وميشال عيسى، رجال الأعمال والمُقَرّبين، يظهَر التحوّل الجذري في العقليّة الأميركية تجاه الشرق الأوسط. فالدبلوماسية لم تعُد فنًا ومُمارَسة مؤسّسيّة، بل إدارة صفقات وشخصنة للسلطة. فأصبح الولاء والقدرة على إتمام الصفقة هما المعيار الرئيس، بينما أصبحت الخبرة والتاريخ السياسي ثانويين. فالدولة ليست مؤسّسة بعد الآن، بل شركة ضخمة، والمُمَثّلون مُستَثمرون، والعالَم الخارجي مجرّد سوق مفتوح للصفقات والرموز. قد تُحَقّق هذه العقليّة بعض النجاحات القصيرة المدى، لكنّها تُخضِع السياسة الأميركية لمَخاطِر طويلة الأمَد، من فقدان الاحترافيّة، وضعف المصداقيّة الدوليّة، وتحويل السياسة إلى لعبة صفقات شخصية أكثر منها استراتيجيّة حقيقيّة. ويبدو أن الإدارة الأميركية في عصر ترامب حَوّلت الشرق الأوسط إلى مكتب فرعي لمؤسّسة الأعمال الكبرى، حيث لا يكفي فهم التاريخ أو السياسة، بل يجب أن تعرف كيف تُغلِق الصفقة وتسعى لأخرى، وتُرضي المدير التنفيذي الأعلى.. أي الرئيس ترامب نفسه.
2025-11-14 14:34:32 | 20 قراءة