من تحالف الهيمنة إلى شراكة السلام: "رؤية لإعادة صياغة العلاقة الأميركية–الإسرائيلية"
الاتفاق يؤجّل جميع القضايا السياسية الصعبة إلى أجَلٍ غير مُسَمّى في المستقبل، ويلتزم الصمت التام حيال استمرار الجهود الإسرائيلية لالتهام الضفة الغربية تدريجيًا. إنها القصّة القديمة ذاتها...
كتابة: ستيفن والت ورينيه بيلفر (فورين بوليسي) | ترجمة، بتصرّف: أنس أبو سمحان
تحرير:عرب 48
2/11/2025
يُمكننا جميعًا أن نُعَبّر عن امتناننا العميق لتوقّف المذبحة في قطاع غزة، ولو مؤقّتًا؛ ولعمليات تبادل الرهائن الإسرائيليين والأسرى الفلسطينيين؛ ولتَدَفّق المساعدات الإغاثية بحريّة أكبر إلى سكّان القطاع المنكوبين. وليس من المُستَغرَب أن يُعلِن الرئيس الأميركي دونالد ترامب انتصاره، واصفًا اتفاق وقف إطلاق النار بأنه «فجرٌ تاريخيٌّ جديدٌ في الشرق الأوسط». غير أنّه سبَق أن قال مثل ذلك من قبل، كما قاله بعض أسلافه أيضًا. آمل أن يكون محقًا هذه المرّة؛ لكنّي لا أراهن على ذلك.
ثمّة سؤالان عالقان يلوحان في الأفق في أعقاب الاتفاق الحالي. السؤال الأوّل، بالطبع، هو: «هل سيصمد [الاتفاق]؟». أما السؤال الثاني، الذي تعتمد عليه الإجابة على السؤال الأوّل إلى حدٍ كبير، فهو ما إذا كانت علاقات إسرائيل مع بقيّة العالَم، وخاصّة «علاقتها الخاصّة» مع الولايات المتحدة، ستتطوّر بطُرُق قد تجعل السلام الدائم مُمكِنًا أخيرًا.
فيما يتعلّق بالسؤال الأوّل، يصعب التفاؤل. فكما أشار نقّاد آخرون، فإن «خطّة السلام» صيغت على يد «وسطاء» أميركيين مُوالين بشدّة لإسرائيل (ستيف ويتكوف وجاريد كوشنر)، وبمشاركة فلسطينية محدودة إلى أقصى درجة. وفي صيغتها النهائيّة، كانت أقرب إلى إنذارٍ نهائيٍّ منها إلى تسوية تفاوضيّة. وصحيح أنها ترفض بعض الطموحات المتطرّفة لليمين الإسرائيلي (مثل ضم قطاع غزة والطرد الدائم لسكّانها الفلسطينيين)، لكنها تُلزِم الفلسطينيين بإجراء سلسلة من التعديلات الصعبة التي يستحيل تحقيق بعضٍ منها، مثل نزع سلاح حماس بالكامل، وتدمير جميع أنفاقها، واستبعادها من أيّ مشاركة سياسية، وإجراء إصلاحٍ جذري - وغير محدّد المعالم - للسلطة الفلسطينية. وسيتولّى مُراقَبة التنفيذ كيانٌ خارجيٌّ لم يُعلَن عنه بعد، يخضع لإشراف «مجلس السلام» الذي يرأسه ترامب شخصيًا، لتقرير مدى التزام كلّ طَرَفٍ بالاتفاق.
والأهم من ذلك، أن الاتفاق يؤجّل جميع القضايا السياسية الصعبة إلى أجلٍ غير مُسَمّى في المستقبل، ويلتزم الصمت التام حيال استمرار الجهود الإسرائيلية لالتهام الضفة الغربية تدريجيًا. إنها القصّة القديمة ذاتها - قصّة لوسي وتشارلي براون وكرة القدم - إذ ستَظَلّ أمام إسرائيل فُرَصٌ لا نهائيّة لتُعلِن أن التزام الفلسطينيين لم يكن كافيًا، فتَشُدّ الخناق مجدّدًا، أو تستأنف العنف متى شاءت.
ولكي يؤمِن المرء بأن هذه الخطّة ستنجح، فلا بدّ أن يقتنع بأنّ العالَم الخارجي – وخاصّة الولايات المتحدة - سَيُبقي ضغطه المتواصل على إسرائيل لحملها على الالتزام بالاتفاق الحالي، ثم دفعها أخيرًا نحو التفاوض على حلٍّ عادلٍ ودائمٍ لصراعها الطويل مع الفلسطينيين. نعم، يبدو أن ترامب قد سئم أخيرًا من أساليب المُماطلة التي يتّبعها رئيس الوزراء الإسرائيلي بنيامين نتنياهو، وأجبَره على قبول هذه التسوية المحدودة. لكنّ ذلك وحده كافٍ ليَدُلّكَ على حجم النفوذ الذي يمتلكه الرؤساء الأميركيون حين يختارون استخدامه.
ولكن لا توجد أي مؤشّراتٍ تدلّ على أنّ نتنياهو أو داعميه من اليمين الإسرائيلي، أو حتى المجتمع الإسرائيلي نفسه، مُستَعِدّون لتبنّي حلّ الدولتين الحقيقي، أو أيّ صيغةٍ من صيغ الاتحاد السياسي الواحد، حتى في حال تهميش حركة حماس والفصائل الفلسطينية المتشدّدة بالكامل. وبالنظَر إلى طبيعة ترامب المعروفة بقصر انتباهه، وتقلّب مزاجه، وعدم اكتراثه بالتفاصيل، فهل يمكن لأحد أن يعتقد بجديّة أنّ هناك مُتابَعةً مستمرّةً ومُمَنهَجة ستتحقّق هنا؟
ولا تقتصر المشكلة على ترامب فحسب. لطالما كانت القوى الخارجية مستعدّة للضغط على الأطراف المُتَحارِبة لوقف القتال مؤقّتًا - كما فعلت الولايات المتحدة والاتحاد السوفييتي خلال الحروب العربية - الإسرائيلية في أعوام 1956 و1967 و1973، وكما فعلت واشنطن في مناسبات عديدة منذ ذلك الحين - لكنها لم تُبدِ في أيّ وقتٍ استعدادًا لاستثمار ما يكفي من الوقت والانتباه ورأس المال السياسي، أو لاستخدام كلّ ما تملكه من أدوات ضغطٍ لتحقيق تسوية سياسية عادلة ودائمة. وهذا هو سبب فشل اتفاقيّات أوسلو وقمّة كامب ديفيد عام 2000 ومؤتمر أنابوليس عام 2007 واللجنة الرباعيّة للشرق الأوسط المشؤومة، وغيرها من مبادرات السلام التي حظِيت بتغطية إعلامية واسعة.
وإذا كان تحقيق السلام يتطلّب ضغطًا أميركيًا متواصلًا، فإن السؤال الثاني يصبح هو الجوهري: هل يمكن أن تكون العلاقات بين الولايات المتحدة وإسرائيل في طَور تحوّلٍ يجعل احتمال السلام أكثر واقعية - بصَرْف النظر عن ميول ترامب الشخصية؟
لقد كلّف هجوم 7 تشرين الأوّل/أكتوبر 2023 حماس ثمنًا باهظًا في نظَر العالَم الخارجي. كما ألحَق الردّ الإبادي الإسرائيلي ضرَرًا مُماثلًا بصورة إسرائيل نفسها؛ فقد اعترفت بريطانيا وفرنسا وكندا وأستراليا وبعض الدول الأخرى رسميًا بدولة فلسطين؛ وهي لفتة رمزية بلا شك؛ إلّا أنها تُعَبّر بوضوح عن مدى تغيّر المواقف الدولية. كما توقّفت جهود إسرائيل لتطبيع العلاقات مع العالَم العربي. أما في الولايات المتحدة، فتُظهِر استطلاعات الرأي العام تحوّلًا كبيرًا في المزاج العام، إذ أصبح عدد مُتزايد من الأميركيين يُعَبّرون عن تعاطف أكبر مع الفلسطينيين مُقارَنةً بإسرائيل، فيما يرى 41 في المئة أن أفعال إسرائيل ترقى إلى مستوى الإبادة الجماعيّة (أو ما يُشبهها)، في حين لا يرى سوى 22 في المئة أن تلك الأفعال مُبَرّرة.
وقد تراجع التأييد بشكلٍ حادٍ بين الديمقراطيين والمستقلّين. لكن شخصياتٍ مُحافِظة بارزة - مثل ستيف بانون، وتاكر كارلسون، والعضو في الكونغرس مارجوري تايلور غرين - وجّهت أيضًا انتقاداتٍ حادّة. فالديمقراطيون تُحَرّكهم اعتبارات حقوق الإنسان، بينما يرى المُحافِظون أن الدعم الأميركي غير المشروط لإسرائيل، التي باتت أكثر تمرّدًا على القواعد الدولية، يتناقض مع شعار «أميركا أوّلًا».
كانت الكلفة المباشرة لهذه «العلاقة الخاصّة» جليّة منذ زمنٍ طويل. فإسرائيل هي أكبر مُتَلَقٍ للمساعدات العسكرية الأميركية؛ والحكومة الأميركية مُلتَزمة رسميًا بالحفاظ على «تفوّقها العسكري النوعي»، رغم أنّ إسرائيل اليوم دولة مُزدَهرة تحتلّ المرتبة السادسة عشرة عالميًا في نصيب الفرد من الدخل، وتمتلك ترسانة نووية ضخمة. وقد ارتفع حجم المساعدات العسكرية الأميركية المُعتاد، البالغ نحو 4 مليارات دولار سنويًا، إلى حوالي 22 مليار دولار خلال الحرب بين إسرائيل وحماس - وهو مبلغٌ تكفّل به دافعو الضرائب الأميركيون. هذا الدعم غير المشروط هو السبب الرئيس وراء بقاء الولايات المتحدة في حالة من عدم الشعبية في معظم دول الشرق الأوسط، حتى مع استمرار حكّامها في التقرّب من الحكومة الأميركية للحصول على الأسلحة والاستثمارات والوصول إلى الأسواق. إنّ الدعم غير المشروط لإسرائيل يُضعِف القوّة الناعمة الأميركية من خلال تقويض ادّعاءات واشنطن بأنها مُدافِعة شرِسة عن حقوق الإنسان؛ وبالتالي متفوّقة أخلاقيًا على مُنافِسيها من القوى العظمى، مثل روسيا أو الصين. قد لا يُثير هذا النوع من النفاق قلَق إدارة ترامب، نظرًا للأولويّة المنخفضة التي توليها لمثل هذه المُثُل العليا، لكنه يظلّ مُتناقضًا مع القِيَم الليبراليّة التي تزعم الولايات المتحدة تمثيلها.
تعني هذه العلاقة الخاصّة أيضًا أن دولة صغيرة يقلّ عدد سكّانها عن عشرة ملايين نسمة تستهلك قدرًا غير مُتَناسبٍ من نطاق التغطية الإعلامية في الحياة السياسية لأقوى دولة في العالم. تأمّل حجم التغطية الإخبارية التي تحظى بها هذه الدولة الصغيرة، مُقارَنةً بحجم أعمدة الصحف ووقت البث المخصّص لدول أكبر وأكثر أهمية استراتيجية، مثل الهند واليابان وإندونيسيا ونيجيريا والبرازيل. لدى النمسا تقريبًا نفس عدد سكّان إسرائيل ونفس ناتجها المحلّي الإجمالي، وتستضيف العديد من الوكالات الدولية؛ ومع ذلك لا يسمع الأميركيون عنها إلّا نادرًا. أو انظر إلى عدد مراكز الأبحاث وجماعات الضغط المُكَرّسة لهذه الدولة الصغيرة، وكميّة الوقت الذي يُخَصّصه السياسيون الأميركيون لمشاكلها.
والأدهى من ذلك، هو أن القضايا المتعلّقة بهذه الدولة الصغيرة تتسرّب روتينيًا إلى الحياة الثقافية والفكرية الأميركية الأوسع؛ فالهجوم الحالي على الجامعات له جذور متعدّدة، لكنه تفاقم بسبب اتهامات مُبالَغ فيها بمُعاداة السامية نابعة من احتجاج الطلّاب (وكثير منهم يهود) على الإبادة الجماعيّة في قطاع غزة ودور الولايات المتحدة في دعمها. إن الهجَمات على الحريّة الأكاديمية وحريّة التعبير عمومًا لا تنبع فقط من رغبةٍ مضلّلة في حماية إسرائيل من النقد أو في الحفاظ على «العلاقة الخاصّة»، لكنها تظلّ عنصرًا أساسيًا في معادلةٍ معقّدةٍ كهذه لدى بعض الأطراف.
أخيرًا، لنتأمّل مقدار الوقت والاهتمام الرئاسي الذي تستهلكه هذه الدولة الصغيرة. فقد كرّس الرئيس جيمي كارتر ما يقرب من أسبوعين من فترة رئاسته للتفاوض شخصيًا على اتفاقات كامب ديفيد عام 1978، وحاول بيل كلينتون القيام بشيءٍ مُماثل، دون احتساب الساعات الطويلة التي أمضاها كلاهما في مُتابعة هذه القضايا خارج القمَم نفسها. وخصّص كلٌّ من جورج بوش الابن وباراك أوباما وجو بايدن أيامًا، إن لم تكن أسابيع، لقضايا تتعلّق بإسرائيل، بينما قام وزير الخارجية أنتوني بلينكن بست عشرة زيارة إليها خلال أربع سنواتٍ في منصبه، مقابل أربع زياراتٍ فقط إلى القارّة الأفريقية بأكملها.
حتى ترامب نفسه لم يستطع البقاء على الحياد أو تفويض ملف إسرائيل بالكامل إلى مُساعِديه. وكلّ ساعةٍ يقضيها الرئيس أو مُستَشاروه الكبار أو كبار المسؤولين في معالجة هذه القضايا هي ساعة تُقتَطَع من الوقت المخصّص لمشكلاتٍ أشدّ مساسًا بأمن الولايات المتحدة وازدهارها المباشر.
لهذا السبب، دَعَوتُ أنا وآخرين، مرارًا وتكرارًا، إلى إقامة علاقة طبيعية بين الولايات المتحدة وإسرائيل، تتناسب مع حجمها وأهميّتها الاستراتيجيّة، وتتوافق مع المصالح الأميركية. في هذه العلاقة الطبيعية، لن تتظاهر واشنطن بتطابق المصالح الأميركية والإسرائيلية. فعندما تتصرّف إسرائيل بما تراه الولايات المتحدة مُناسبًا، ستحظى بدعمها. أما إذا تصرّفت بما يُخالِف رغباتها - كما في حالة توسيع المستوطنات في الأراضي المحتلة - فسَتُواجِه معارضة أميركية حازمة.
قد يُجادِل بعض المُراقِبين بأن العلاقة الطبيعية لا معنى لها لأن إسرائيل ليست دولة طبيعية، نظَرًا لظروف نشأتها التاريخية، والتاريخ الطويل والمأساوي لمعاداة السامية المسيحية، وإرث الهولوكوست، ووجودها في منطقة شديدة الاضطراب. وربما كان ذلك صحيحًا جزئيًا؛ لكن في عام 2025، فإنّ العوامل التي تجعل إسرائيل غير «طبيعية» هي بالذات الأسباب التي تُبَرّر الحدّ من الدعم الأميركي لا الإبقاء عليه. وكما أشار إيان لوستك مؤخّرًا، فإن إسرائيل تزداد انطباقًا على تعريف عالِم السياسة الإسرائيلي حزقيال درور لما سمّاه «الدولة المجنونة»، وهي الدولة التي: 1) تسعى وراء أهداف عدوانيّة تُلحِق الضرر بالآخرين، 2) تُظهِر التزامًا جذريًا وشديدًا بتلك الأهداف، 3) تعيش في غمرة شعورٍ طاغٍ بالتفوّق الأخلاقي رغم استعدادها للتصرّف على نحوٍ غير أخلاقي، 4) تمتلك القدرة على اختيار الأدوات المنطقيّة بعقلانيّة لتحقيق هذه الأهداف، و5) لديها القدرات الكافية لتحقيقها. في رأي لوستك، فإن أحد العوامل الحاسمة في المسار الحالي لإسرائيل كان الدعم غير المشروط تقريبًا الذي قدّمته الإدارات الأميركية للحكومات الإسرائيلية، وهو السلوك الذي يعزوه إلى «القوّة السياسية الهائلة التي تتمتّع بها جماعات الضغط الإسرائيلية في واشنطن».
هل هذا الموقف «مُعادٍ لإسرائيل»؟ قطعًا لا. فالدعم غير المشروط كان مُضِرًا بالولايات المتحدة وكارثيًا على إسرائيل نفسها، التي تفقد دعمًا دوليًا مُتزايدًا، وتزداد انقسامًا داخليًا، وتنزاح أكثر فأكثر نحو اليمين التوراتي المتطرّف، وتُعاني من هجرةٍ مستمرّةٍ للنخب المتعلّمة والفاعلة اقتصاديًا. إن سياسة «التعاطف العادي» ستكون أفضل للولايات المتحدة وإسرائيل معًا على المدى الطويل، حتى لو لم تكن في مصلحة منظّماتٍ مثل أيباك و«المنظمة الصهيونية الأميركية» و«المسيحيين المتّحدين من أجل إسرائيل»، وغيرها من الجماعات التي أبقَت على «العلاقة الخاصّة» حيّة، وساهمت في إيصال إسرائيل إلى مأزقها الحالي، ومَكّنتها من إيقاع مُعاناةٍ هائلة بملايين الفلسطينيين الواقعين تحت سيطرتها القسريّة. باختصار، إن كنتَ تريد سلامًا دائمًا، فلا بدّ من إقامة علاقةٍ أكثر طبيعيةٍ مع إسرائيل.
المقال مُتَرجَم عن "فورين بوليسي" ولا يُعَبّر بالضرورة عن رأي عرب 48.
2025-11-14 14:36:49 | 18 قراءة