غايات حكومة نتنياهو من تحويل الحرب إلى واقع دائم...
24 نوفمبر 2025
• أنطوان شلحت
قبل إقدام إسرائيل أمس الأحد (23/11/2025) على اغتيال رئيس أركان حزب الله، هيثم علي الطبطبائي (السيّد أبو علي)، الذي كان يقود برأيها جهوداً لتعزيز الحزب وإعادة تسليحه، سادَت في الكثير من التحليلات الإسرائيلية تقديرات فحواها أن إسرائيل تستعدّ لاستئناف الحروب على قطاع غزة ولبنان وإيران. وبحسب ما كتبَت صحيفة "يديعوت أحرونوت" مثلاً، فإن إسرائيل في حالة وقف إطلاق نار مع حركة حماس في قطاع غزة، ومع حزب الله في لبنان، ولكن على الورق فقط (23/11/2025)
كما نوّهت الصحيفة، فيما يخصّ جبهة لبنان، بأن إسرائيل قرّرت، في الآونة الأخيرة، تصعيد الضربات ضدّ حزب الله، في مواجهة ما تعتبره تقاعساً من الجيش اللبناني والحكومة اللذين لا ينجحان في تنفيذ ما عليهما من اتفاق وقف إطلاق النار، ولا في نزع سلاح الحزب. وأساساً، تُرَكّز إسرائيل الضربات على شمال الليطاني والبقاع، وكذلك على الجنوب اللبناني، في وقتٍ يكون الأميركيون أقلّ تورّطاً ممّا كانوا عليه في السابق. وفي حين يُوَجّه المجتمع الدولي انتقادات إليهم، لأنهم لا يُواكِبون تنفيذ الاتفاق عن قُرب، وفي ظلّ الانتقادات، عيّنت الولايات المتحدة سفيراً جديداً لها في لبنان، هو ميشيل عيسى، الذي من المتوقّع أن يُمارِس ضغوطاً على الحكومة اللبنانية. كذلك ألغت الولايات المتحدة زيارة قائد الجيش اللبناني إلى واشنطن، في ضوء تصريح له قال فيه إن إسرائيل هي العدو.
و"المشكلة التي ترصدها إسرائيل"، بموجب ما تؤكّد الصحيفة، هي "أن جزءاً كبيراً من الجيش اللبناني لا يزال قائماً على مسلمين شيعة، وهو ما يجعل من الصعب مواجهتهم مع حزب الله الشيعي نفسه. وهناك مشكلة إضافيّة هي انخفاض رواتب جنود الجيش اللبناني، التي تبلغ نحو 200 دولار لكلّ جندي، في مقابل عناصر حزب الله الذين يتقاضون ثلاثة أضعاف، وهو ما يدفع الجنود إلى العمل في وظائف إضافيّة، ويُقَلّل حافزهم على الاشتباك مع عناصر الحزب".
كذلك أُشير في الصحيفة إلى أنه عموماً، يستمرّ الوضع الاقتصادي في لبنان في التدهور، ويُعيق الخوف الدائم من الانهيار، ومن حرب أهليّة، اتخاذ خطوات راديكاليّة. ويستغلّ حزب الله هذا الضعف لتعزيز ترسّخه، ولا يزال ينجح في تهريب السلاح إلى لبنان، مع العِلم أنه منذ سقوط نظام الأسد، حاولت سورية إحباط بعض عمليّات التهريب، لكنها لا تزال ضعيفة. وفيما يخصّ إسرائيل، جرى تأكيد أنها مُصَمّمة على عدم السماح بعودة الوضع إلى ما كان عليه عشيّة الحرب، وتعتمد سياسة الضربات الاستباقيّة. ولكنها في الأيام الأخيرة، نفّذت سلسلة ضربات واسعة شملت مواقع لحزب الله، بينما يُهَدّد الحزب بعدم تحمُّل مزيد من الضربات من دون رد، في وقتٍ يستعدّ الجيش الإسرائيلي لاحتمال خوض قتال يمتدّ عدّة أيام.
كذلك، أنشأت صحيفة "هآرتس" (23/11/2025) افتتاحيّة شدّدت فيها على أن ما يتراءى في الأفق خلال الأيام الأخيرة هو أن إسرائيل تعمل، كما يبدو، على تهيئة الأرضية لاستئناف الحرب على لبنان وغزة، بهدف عرقلة تنفيذ خطّة النقاط الـ20 التي طرَحها دونالد ترامب. فهذه الخطّة، التي يُعلِن ترامب أنها "مسار للسلام في الشرق الأوسط"، لا تحظى بتطبيق أميركي كافٍ؛ وإسرائيل تستغلّ هذا الفراغ لإيجاد واقع يحول دون تقدُّمها.
ولدى تطرّقها إلى الهجَمات التي تشنّها إسرائيل على حزب الله، تُشير الصحيفة إلى أن هذه الهجَمات توحي بأجواء حرب وشيكة في الشمال؛ ناهيك عن أنها تُعْرَض كـ"ضرورة أمنيّة لا مَفَرّ منها".
وبرأي "هآرتس"، ازدادت الحاجة إلى يقظة أمنيّة بشكل مأساوي بعد أحداث 7 تشرين الأوّل/ أكتوبر 2023. ولكن هذه الصدمة بالذات قد يستغلّها رئيس الحكومة بنيامين نتنياهو ووزراؤه المتعطّشون إلى الدماء، بغية تحويل الحرب إلى واقع دائم يُرافِق إسرائيل والمنطقة أعواماً طويلة. ومع اقتراب الانتخابات، قد يَستخدم نتنياهو تحويل الحرب إلى واقع دائم لإقناع قاعدته الانتخابية والمُتَرَدّدين بأنه "سيّد الأمن" الذي يضرب أعداء إسرائيل بلا هوادة. وحقيقة أن "سيّد الأمن" هذا مسؤول عن أكبر إخفاق في تاريخ إسرائيل لا تجعله يشعر بالحرَج أو بالخجَل، بل تدفعه "إلى محو العار عبر تشديد قبضته العسكرية".
ما الذي يمكن أن نستخلصه الآن بعد عملية اغتيال الطبطبائي في عمق بيروت؟
أوّلاً، تحصل إسرائيل في كلّ ما تقوم به من عمليّات عدوانيّة في لبنان على ضوء أخضر من الولايات المتحدة، مثلما أكّد رون بن يشاي، المُحَلّل العسكري لموقع صحيفة "يديعوت أحرونوت" (24/11/2025). وبحسب ما يؤكّد، فإن هذا الموقف الأميركي ناجمٌ عن رغبة الرئيس دونالد ترامب بأن يُخَلّد كجالبٍ للسلام في الشرق الأوسط؛ وكذلك ناجم عن رغبته في الفوز بجائزة نوبل للسلام. وهذا هو السبب الذي يدفع ترامب ومبعوثيه إلى لبنان إلى مُطالَبة الحكومة اللبنانية ليس فقط بأن تكون حازمة في تنفيذ عمليّة نزع سلاح حزب الله وتجريده من قدراته العسكرية، إنّما أيضاً أن تنخرط في مفاوضات مباشرة مع إسرائيل بغية التوصّل إلى اتفاق يضع حداً لاستمرار القتال؛ وربما يدفع قُدُماً نحو سلام بين الدولتين، أو نحو تهدئة طويلة الأمَد في منطقة الحدود الشمالية.
ثانياً، تُشَدّد أبواق رئيس الحكومة الإسرائيلية نتنياهو على أن هذا الهجوم الإسرائيلي في بيروت يُوَضّح بجلاء أن حَيّز العمل العسكري الإسرائيلي في لبنان ما زال مضموناً من جانب إدارة الرئيس الأميركي دونالد ترامب، على ما يؤكّد مستشار الأمن القومي السابق مئير بن شبات ("يسرائيل هيوم"، 24/11/2025).
ويُضيف بن شبات أن ترامب غير معنيّ بتجدّد الحرب الكثيفة؛ لكنه يُبدي تفهّماً، بل وحتى يمنح غطاءً لعمليات موضعيّة تقوم بها إسرائيل بعد استنفاد الجهود الأخرى الرامية إلى منع تعاظم قوّة أعدائها. والتقديرات السائدة لدى الإدارة الأميركية هي أن مثل هذه العمليّات لا تُفشِل الجهود المبذولة في المسار السياسي، بل وربما تُساعِد على الدفع قُدُماً بها.
ثالثاً، ينبغي إعادة التذكير أنه منذ ذيوع نبأ التوصّل إلى اتفاق وقف إطلاق النار مع لبنان بعد نحو 14 شهراً من الحرب الإسرائيلية في الشمال، والذي بدأ سرَيان مفعوله فجر يوم 27/11/2024، تشنّ أبواق رئيس الحكومة الإسرائيلية نتنياهو هجوماً حادّاً على الاتفاق لأسباب شتّى. والمُلفِت أكثر شيء أنها تَخلُص إلى نتيجة وحيدة مؤدّاها أنه بالرغم من أن الاتفاق أعلن نهاية حرب لبنان الثالثة، إلّا إنه لم يُزِل الأسباب التي تُعَدّ بمثابة مقدّمة لحرب لبنان الرابعة؛ وستكون، برأي البعض، أصعب. ولا يتم إغفال العوامل التي دفعت الحكومة الإسرائيلية إلى الموافقة على وقف إطلاق النار، وأبرزها أن جنود الجيش الإسرائيلي مُنهَكون، وهناك نقص في الذخيرة. كما أن الرئيس الأميركي جو بايدن، الذي يتطلّع إلى إنهاء ولايته بإنجاز دبلوماسي، ضغَط على إسرائيل وهَدّدها بمنع وصول شحنات عتاد عسكري، والسماح بإصدار قرار ضدّها في مجلس الأمن. ومن أبرز أسباب الهجوم أن بنود اتفاق وقف إطلاق النار لا تختلف في جوهرها عن بنود القرار 1701 المُقَرّ في العام 2006، في إثر انتهاء حرب لبنان الثانية، والذي اعتبَرت تلك الأبواق أن إسرائيل أُجبِرت عليه نظَراً إلى خوضها تلك الحرب من دون أن تمتلك معلومات استخباراتيّة دقيقة عن حزب الله، ومن دون أن تتوفّر لديها دفاعات ضدّ الصواريخ التي أطلَقها الحزب عليها، ومن دون إيمانها بقدرة القوّات البريّة على مواجهته؛ وكان في قراءتها قراراً مليئاً بالثغرات. وبدا واضحاً في حينه أن حزب الله لن يلتزم به.
ويَكمُن الفارق الوحيد بين مُنتهى الحرب السابقة واتفاق نهاية الحرب الحالية في إضافتيْن:
الأولى، إنشاء آليّة رقابة دولية بقيادة أميركية للتبليغ بشأن خروقات حزب الله؛ أي إعادة انتشاره جنوبي الليطاني وتعزيز قوّاته في شماله.
والثانية، وهي الأهم، مُوافَقة أميركية مُرفَقة برسالة جانبيّة تقرّ بـ"حقّ الدفاع عن النفس" الذي يسمح لإسرائيل بحُريّة العمل ومُهاجَمة الأراضي اللبنانية، في حال وجود تهديد مباشر، أو خرق لم تعالجه الآليات المُعتَمَدَة.
كذلك، من أسباب هذا الهجوم تنويه تلك الأبواق أنه بالإضافة إلى الأنفاق في الجنوب اللبناني، بنى حزب الله بنية تحتيّة واسعة في عُمق المنطقة الواقعة في جنوب الليطاني وحتى شماله. وتعرّضت هذه البنى التحتيّة إلى قصف جزئي حتى الآن؛ ولكنها لا تزال قائمة من دون وجود جهة فعّالة تتولّى تفكيكها. ومن غير المرجّح أن يتولّى الجيش اللبناني، أو قوّات الـ"يونيفيل" مهمّة تفكيك البنى التحتيّة للمقاومة، خصوصاً وأن هناك وحدات من الجيش اللبناني تُظهِر تعاوناً مع حزب الله. وبالتالي، فإن الجهة الوحيدة القادرة على تفكيك هذه البنى هي الجيش الإسرائيلي. كما عابت الأبواق على أنه في أيّ اتفاق كان ينبغي على إسرائيل أن تصرّ على إنشاء منطقة أمنيّة عازلة خالية من السكّان الشيعة حتى حدود الليطاني.
وفيما يخصّ ما يوصَف بأنه "توكيل أمن الحدود إلى عناصر أجنبيّة"، يُشار إلى أن الجهود التي بذلَتها لجان الإشراف على اتفاقيّات الهدنة، التي شُكّلَت للرقابة الدولية مع مصر وسورية والأردن في العام 1949، فشلت تماماً، من وجهة نظر إسرائيل. وكذلك مُنِيَت بالفشل قوّات حفظ السلام في شبه جزيرة سيناء وفي لبنان. وفي هذا السياق، يمكن العثور على تسخيف للوعود التي قطَعها زعماء إسرائيل عند أيّ انسحابات، والتي تؤكّد إمكانيّة العودة إلى التواجد في حال تجدّد إطلاق النار. وبحسب ما أعاد إلى الأذهان السفير الإسرائيلي السابق في واشنطن، مايكل أورن، هذا ما وعَد به رئيس الحكومة السابق إيهود باراك العام 2000 عندما انسحب الجيش الإسرائيلي من لبنان. وهذا ما تعهّد به رئيس الحكومة السابق أريئيل شارون العام 2005 خلال الانفصال عن قطاع غزة. ولقد ذكَر رئيس الحكومة نتنياهو هاتين السابقتيْن عندما شرَح سبب رفضه الانسحاب من محور فيلادلفيا، مؤكّداً "أن العالَم لن يسمح لنا بالعودة قطّ". ومع هذا تعهّد بالعودة مع الانسحاب الجديد المُرتَقَب من لبنان.
رابعاً، ثمّة شبه إجماع في إسرائيل على أن مفتاح وقف التدهور إلى ما هو أشدّ وأدهى هو في يد الرئيس الأميركي دونالد ترامب "الذي يجب عليه أن يوضِح لنتنياهو الخطوط الحمراء"، مثلما كتبت "هآرتس" في افتتاحيّتها المُشار إليها أعلاه.