التصنيفات » مقالات سياسية

اقتصاد الضفة الغربية رهينة السياسات العقابيّة الإسرائيليّة

اقتصاد الضفة الغربية رهينة السياسات العقابيّة الإسرائيليّة

لا تستطيع البنوك الفلسطينية العاملة في مناطق السلطة الفلسطينية التواصل ماليًا مع العالم من دون المرور عبر البنوك الإسرائيلية، وذلك بموجب الاتفاقيّات الاقتصادية والمالية المُوَقّعة بين إسرائيل والسلطة الفلسطينية...
امطانس شحادة
تحرير:عرب 48
2/12/2025

انتهت مساء الأحد، 30 تشرين الثاني/نوفمبر، مدّة الضمانات التي تُقَدّمها وزارة الماليّة الإسرائيلية لبنكَي "هبوعليم" و"مركنتيل"، وهما القناة الأساسية لارتباط البنوك الفلسطينية العاملة في مناطق السلطة الفلسطينية بالنظام المالي الدولي. ومن المُتَوَقّع أن تُمَدّد وزارة الماليّة هذه الضمانات لمدّة أسبوعين إضافيين قبل اتخاذ قرارها النهائي بشأن الاستمرار في توفيرها أو إلغائها.
تأتي هذه الضمانات بهدف حماية هذين البنكيْن من أيّ تبعات قد تنشأ جرّاء علاقتهما بالمصارف الفلسطينية، لا سيّما في ما يتعلّق باتهامات "غسل الأموال"، أو ما تُسَمّيه إسرائيل بـ"دعم الإرهاب"، خصوصًا في ما يرتبط بحسابات الأسرى الفلسطينيين في السجون الإسرائيلية. ومن دون هذه الضمانات، سيقوم البنكان الإسرائيليان بقطع علاقاتهما مع البنوك الفلسطينية، ما سيؤدّي تلقائيًا إلى فصل البنوك الفلسطينية عن النظام المصرفي العالمي - وبالتالي عزل الاقتصاد الفلسطيني عن العالم فعليًا.
لا تستطيع البنوك الفلسطينية العاملة في مناطق السلطة الفلسطينية التواصل ماليًا مع العالم من دون المرور عبر البنوك الإسرائيلية، وذلك بموجب الاتفاقيّات الاقتصادية والمالية المُوَقّعة بين إسرائيل والسلطة الفلسطينية. ونتيجة لذلك، تصبح هذه البنوك مُرتهَنة بالكامل لقرارات وموافقة الحكومة الإسرائيلية، وخاضعة لسياسات بنك إسرائيل ووزارة الماليّة الإسرائيلية، الأمر الذي يجعل النظام المصرفي الفلسطيني مُعتَمِدًا كلّيًا على الإرادة السياسية والاقتصادية الإسرائيلية.
منذ تَوَلّيه منصب وزير الماليّة، استغلّ بتسلئيل سموتريتش في عدّة مناسبات اعتماد الجهاز المصرفي الفلسطيني على الضمانات التي تُقَدّمها وزارة المالية الإسرائيلية، ليُهَدّد بقطع ارتباط البنوك الفلسطينية بالنظام المصرفي العالمي؛ وبالتالي توجيه ضربة مباشرة للاقتصاد الفلسطيني قد تؤدّي إلى انهياره.
وفي المرّة الأخيرة التي استخدم فيها سموتريتش هذه الصلاحيّة كانت قبل نحو عام، حين تقرّر تمديد الضمانات لمدّة سنة إضافيّة. وخلال هذه السنة، كان من المفترض أن تُنجِز لجنة مهنيّة عملها بهدف إجبار البنوك الفلسطينية على الموافقة على تطبيق سياسات تمنع غسل الأموال و"تمويل الإرهاب"، أي الخضوع الكامل لشروط الرقابة الإسرائيلية.
موقف بنك إسرائيل يُعارِض وقف الضمانات للبنوك الإسرائيلية، ويؤيّد استمرار عمل البنوك الفلسطينية عبر قناة البنوك الإسرائيلية؛ وكذلك استمرار ارتباط السلطة الفلسطينية بالشيكل الإسرائيلي. هذا كان أيضًا موقف جهاز المخابرات العامّة (الشاباك)، الذي حَذّر من التداعيات الأمنية والاقتصادية لوقف الضمانات ومن انهيار الاقتصاد الفلسطيني. كما مارَست الإدارة الأميركية ضغوطًا على الحكومة الإسرائيلية من أجل استمرار هذا الترتيب ومنع انهيار الاقتصاد الفلسطيني. وعلى ما يبدو، ستقوم الحكومة الإسرائيلية بتمديد الضمانات، ولو بشكل مؤقّت، تجنّبًا لانهيار اقتصاد السلطة الفلسطينية.
إن ارتباط عمل وأداء البنوك الفلسطينية بقنوات البنوك الإسرائيلية، واعتماد الشيكل كعملة رسمية في مناطق السلطة الفلسطينية، يُثقِل كاهل الاقتصاد الفلسطيني ويُعَمّق تبعيّته للاقتصاد الإسرائيلي. غير أنّ هذه ليست الجوانب الوحيدة التي تُتيح لإسرائيل التحكّم بالاقتصاد الفلسطيني؛ فإلى جانب ذلك، حَدّدت اتفاقيّة باريس الاقتصادية إطارًا جمركيًا مشتركًا بين إسرائيل ومناطق السلطة الفلسطينية، وربطَت السوق الفلسطينية بالكامل بآليّات إدخال السّلع والمُنتجات والخدمات عبر البوّابة الإسرائيلية. كما جعلت سوق العمل الإسرائيلي السوقَ المركزي المُتاح أمام القوى العاملة الفلسطينية. وفوق ذلك، يدفع المواطن الفلسطيني ضريبة قيمة مُضافة مُساوية لتلك المفروضة في إسرائيل، ما يرفع أسعار السّلع والخدمات داخل الاقتصاد الفلسطيني، ويزيد من العبء المالي على الأُسَر والقطاعات الاقتصادية المختلفة.
تُحَوّل هذه الشروط الاقتصادَ الفلسطيني إلى رهينة للسياسات الإسرائيلية، إذ تتحكّم إسرائيل بمستوى التطوّر والنمو، وبمعدّلات البطالة والفقر، وبمستويات الدخل. وقد ظهَر ذلك جليًا في العديد من المحطّات منذ توقيع اتفاقيّة باريس الاقتصادية عام 1995؛ وبصورة أكثر حِدّة منذ السابع من تشرين الأوّل/أكتوبر 2023.
اقتصاد الضفة الغربية بعد السابع من تشرين الأوّل/أكتوبر 2023
بطبيعة الحال، فإن الحديث عن الاقتصاد الفلسطيني بعد السابع من تشرين الأوّل/أكتوبر ينصرف أساسًا إلى الوضع الاقتصادي في الضفة الغربية، إذ دَمّرَت إسرائيل بشكل كامل الاقتصاد الفلسطيني في قطاع غزة، ما يجعل تقييم الحالة الاقتصادية الفلسطينية محصورًا اليوم تقريبًا في الضفة الغربية وحدها.
وفقًا لبيانات أمانة مؤتمر الأمم المتحدة للتجارة والتنمية (الأونكتاد — )UNCTAD
 انكمش اقتصاد الضفة الغربية في عام 2024 بنسبة 17%، ما يعني انخفاضًا يُقارِب 18.8% في نصيب الفرد من الناتج المحلّي الإجمالي. وقد محا هذا الانكماش 17 عامًا من التطوّر الاقتصادي، وأعاد الاقتصاد إلى مستويات عام 2014، وإلى مستويات عام 2008 فيما يتعلّق بنصيب الفرد من الناتج المحلّي.
ووفقًا لمعطيات معهد "ماس" (معهد أبحاث السياسات الاقتصادية الفلسطينية)، شهِد الربع الأوّل من عام 2024 - أي الأشهر الأولى للحرب على غزة - تراجعًا حادًا في الناتج المحلّي الفلسطيني، إذ بلغ نحو 64% فقط من مستوى الناتج المحلّي في الرّبع الثالث من عام 2023؛ أي قبل حرب الإبادة على غزة. وفي الرّبع الثاني من عام 2025، ارتفع الناتج المحلّي قليلًا ليصل إلى نحو 70% من مستواه قبل الحرب. وبالمعدّل العام، خسر الاقتصاد الفلسطيني قرابة ثلث ناتجه المحلّي سنويًا منذ نهاية عام 2023، في ظلّ استمرار الحرب والإغلاق والقيود الاقتصادية الإسرائيلية.
وتعكس هذه الأرقام الضرَر التراكمي الناجم عن العنف والقيود الأمنيّة التي تُمارِسُها إسرائيل منذ سنوات طويلة. فبحسب المنظّمة، لولا القيود المفروضة منذ الانتفاضة الثانية عام 2000، لكان الاقتصاد الفلسطيني قد حَقّق ناتجًا محلّيًا إجماليًا إضافيًا تراكميًا بقيمة 170.7 مليار دولار - وهو مبلغ يُعادِل 17 ضعفًا الناتج المحلّي الإجمالي للضفة الغربية في العام الماضي.
أسواق العمل
لم يَتَعافَ سوق العمل في الضفة الغربية من التداعيات السلبيّة التي لحقت به منذ بداية الحرب على غزة، والاقتحامات المُتَواصِلَة في الضفة، وإغلاق أسواق العمل في إسرائيل أمام العمّال الفلسطينيين.
فقد بلغ معدّل البطالة في الضفة الغربية في الرّبع الثالث من عام 2023 - أي قبل الحرب - نحو 13%. ثم ارتفع في الرّبع الرابع من العام ذاته، أي بعد الحرب، إلى 33.2%. وفي الرّبع الأوّل من عام 2024 ازدادت معدّلات البطالة لتصل إلى 35.2%، قبل أن تتراجع في الرّبع الرابع من العام ذاته إلى 28.8%. وفي النصف الأوّل من عام 2025، تراوحت البطالة بين 29% و30%. وتُشير هذه الأرقام إلى أن معدّلات البطالة ما تزال مُرتَفعة جدًا، إذ تصل إلى نحو ثلث القوّة العاملة في الضفة الغربية.
حتى نهاية العام الحالي، ما تزال الغالبيّة العظمى من العمّال الفلسطينيين ممنوعين من دخول أسواق العمل في إسرائيل؛ ولا يعمل سوى عدد محدود منهم في المستوطنات الإسرائيلية في الضفة الغربية، خصوصًا في المناطق الصناعية. ووفقًا لمُعطَيات معهد "ماس"، ارتفع عدد العمّال الفلسطينيين في المستوطنات من 27.3 ألف عامل في الرّبع الثاني من عام 2024 إلى نحو 39.1 ألف عامل في الرّبع الثاني من عام 2025 - أي ارتفاع بنسبة 40%.
وفي حين بلغت نسبة العمّال الفلسطينيين الذين كانوا يعملون داخل إسرائيل في عامَي 2022 و2023 نحو 20% من مجمل القوّة العاملة الفلسطينية، أي ما يُقارِب 160 ألف عامل. فقد تراجعت هذه النسبة منذ نهاية عام 2023 إلى نحو 5% فقط.
بين عامَي 2010 و2023 تضاعف عدد العمّال الفلسطينيين في إسرائيل، فيما قفزت مداخيلهم من العمل هناك ستّة أضعاف، من نحو 700 مليون دولار في عام 2011 إلى حوالي 4.3 مليارات دولار في عام 2022. وفي الوقت نفسه، كان متوسّط الأجر الشهري للعامل الفلسطيني في إسرائيل يُقارِب ضعف متوسّط أجر العامل في الضفة الغربية، ويفوق بأكثر من خمسة أضعاف متوسّط الأجر في قطاع غزة.
منْع دخول العمّال الفلسطينيين إلى أسواق العمل الإسرائيلية يعني خسارة دخل بنحو 4 مليارات دولار للاقتصاد الفلسطيني في العام.
التعلّق بالسّلع والمُنتَجات الإسرائيلية
حتى السابع من تشرين الأوّل/أكتوبر 2023، كانت مناطق السلطة الفلسطينية ثاني أكبر سوق تصدير لإسرائيل بعد الولايات المتحدة. وكانت إسرائيل تُزَوّد نحو 75% من الواردات الفلسطينية، بينما وصلت نسبة الـ25% المتبقّية تقريبًا بالكامل عبر الموانئ الجويّة والبحريّة الإسرائيلية.
وقد مالَ الميزان التجاري بشكل ثابت لمصلحة إسرائيل، إذ بلغ حجم التجارة بين الجانبين نحو 5 مليارات دولار سنويًا قبل الحرب، وهو مبلغ يُعادِل ربع الناتج المحلّي الإجمالي الفلسطيني.
وبذلك، فإن غالبيّة السّلع والمُنتَجات المُتوافرة في الأسواق الفلسطينية مصدرها الصناعات الإسرائيلية، أو أنها تدخل عبر الموانئ والبوّابات الإسرائيلية. وبهذا لا تتحكّم إسرائيل فقط في حجم العمالة وفي الأوضاع المعيشية الفلسطينية، بل تتحكّم أيضًا في توفير السّلع والمُنتَجات الاستهلاكيّة الأساسيّة داخل الأسواق الفلسطينية.
التحكّم في إيرادات السلطة الفلسطينية
يزداد الضرَر الاقتصادي في الضفة الغربية حِدّة نتيجة تحكّم إسرائيل في تحويل أموال المقاصّة المستحقّة للسلطة الفلسطينية، بما يشمل ضرائب الاستيراد وضريبة القيمة المُضافة. وتستخدم إسرائيل أموال المقاصّة كأداة عقاب سياسي واقتصادي للسلطة الفلسطينية وللفلسطينيين عمومًا؛ فامتناعها عن تحويل هذه الأموال يخلق أزمة خانقة في مُوازَنة السلطة، ويؤدّي إلى عجز مالي ونقص في السيولة يمنعان دفع أجور الموظّفين والمستحقّات الماليّة الأخرى.
وينعكس ذلك مباشرة على ارتفاع البطالة، وتراجع الدخل والاستهلاك في مناطق الضفة الغربية، ممّا يُعَمّق الأزمة الاقتصادية. وبذلك تتحكّم إسرائيل في كافّة مفاصل الاقتصاد الفلسطيني:
- منع دخول العمّال يؤدّي إلى ارتفاع البطالة وتراجع الاستهلاك والدخل، وإلى انخفاض جباية الضرائب.
- احتجاز أموال المقاصّة يزيد من حِدّة الأزمة ويُعَمّق الانكماش الاقتصادي.
وفي المقابل، لا تملك السلطة الفلسطينية ولا القطاع الخاص الفلسطيني الأدوات اللازمة للتعامل مع هذا الوضع البنيوي، في ظلّ فقدان السيطرة على المَوارِد الماليّة الأساسيّة والاعتماد القسري على القرارات الإسرائيلية.

 

2025-12-10 11:28:00 | 30 قراءة

مركز باحث للدراسات الفلسطينية والاستراتيجية