التصنيفات » مقالات سياسية

تقرير إسرائيلي: "عن النصر والحسم وتحدّي تحقيق أهداف الحرب على حماس"

تقرير إسرائيلي: "عن النصر والحسم وتحدّي تحقيق أهداف الحرب على حماس"

24  نوفمبر 2025

هذه المُساهَمة تُقَدّم قراءة في تقرير صادر عن "معهد أبحاث الأمن القومي" في جامعة تل أبيب، أعَدّه رئيس المعهد تامير هايمن، والذي يُقَدّم فيه قراءة معمّقة لإعادة تعريف مفهومي "النصر" و"الحسم" في العقيدة العسكرية الإسرائيلية، حيث يطرح هايمن مُجادَلة تُظهِر أن الحروب التي خاضتها إسرائيل خلال العقود الأخيرة، وبخاصّة حرب الإبادة على غزة، والتي امتدّت وشملت جبهات وساحات عديدة أخرى، كشفت حدود الفاعليّة التقليديّة للقوّة العسكرية، وعجز نموذج "الحسم الكامل" أمام تنظيمات غير دولانيّة قادرة على التكيّف والاستمراريّة؛ ويؤكّد أن النصر لم يَعُد يُقاس بتدمير العدو، بل بقدرة المستوى السياسي على صياغة أهداف واقعيّة وقابلة للقياس، وأن ترجمة الإنجازات التكتيكيّة إلى نتائج استراتيجيّة تتطلّب ترتيبات سياسية وإقليمية أوسع. ومن المهم الإشارة إلى أن المُصطَلَحات والأفكار الواردة أدناه لا تُعَبّر عن وجهة نظَر كاتب المساهمة أو عن مركز مدار.

*****

يسعى هايمن في هذا التقرير إلى إعادة بناء المفاهيم الأساسيّة في العقيدة العسكرية الإسرائيلية، وبخاصّة مفهومي "النصر" و"الحسم"، في ظلّ التحوّلات الكبرى التي شهِدتها ساحات الصراع مع الفلسطينيين والعرب منذ سبعينيّات القرن الماضي وحتى حرب الإبادة على غزة، والحرب على لبنان وإيران واليمن وسورية والضفة الغربية منذ 7 تشرين الأوّل/ أكتوبر 2023، حيث يُحاوِل التطرّق إلى التحوّلات الفكرية داخل المؤسّسة الأمنيّة الإسرائيلية، المَبنِيّة على إدراك مُتَزايد بأن الأدوات الكلاسيكية للحسم العسكري لم تَعُد تصلح في الحروب الحديثة أمام تنظيمات مسلّحة غير دولانيّة؛ وهو ما يُحَوّل الأنظار باتجاه مفاهيم "النصر السياسي" و"النصر الاستراتيجي" بدَلاً من "النصر العسكري"؛ وهو ما يعكس أزمة عميقة في قدرة إسرائيل على فَرْض إرادتها في حروب طويلة ومعقّدة.

يُشير التقرير إلى أن أشكال المواجهة المتجدّدة والمختلفة تفرض إعادة النظر بشكل جذري في مفهوم النصر، حيث لا بُدّ من إخراجه من إطاره التقليدي الذي يقوم على هزيمة عسكرية كاملة للطرف الآخر، وفقدانه القدرة على القتال والإرادة للاستمرار، وإعادة صياغته بشكل جديد باعتباره (أي النصر) يتمثّل في تحقيق للأهداف التي يُحَدّدها المستوى السياسي قبل الحرب؛ وهي أهداف غالباً ما تكون محدودة وقابلة للقياس نسبياً، بما يسمح للقيادة الإسرائيلية بتبرير إنهاء العمليّات العسكرية حتى مع بقاء "العدو" في حالة تماسك نسبي أو احتفاظه بأدوات قوّة. إنّ هذا التحوّل، برغم طابعه النظَري كما يطرح هايمن، يُعَدّ اعترافاً بأن السياقات التي خاضت فيها إسرائيل حروبها منذ عقود لم تَعُد تُتيح إمكانيّة الحسم العسكري الكامل، وأنّ مفهوم النصر الخالص لم يَعُد مُتاحاً إلّا في مساحة ضيّقة من المواجهات التي لا تتطلّب قتالاً ضدّ تنظيمات مُندَمجَة داخل مجتمعات مدنيّة كثيفة.

بالإضافة إلى ذلك، يُقَدّم التقرير تفسيراً للتحوّل في العلاقة بين المستوى السياسي والمستوى العسكري في صياغة مفهوم النصر. وبحسب هذا التفسير، فإنّ المستوى السياسي هو الجهة التي تُعَرّف الهدف، بينما يكتفي الجيش (المستوى العسكري) بتحديد الطريقة لتحقيق هذا الهدف. وعلى الرغم من أن هذا التوصيف يبدو بديهياً، إلّا أنه يكتسب أهميّة مُضاعَفة في السياق الإسرائيلي، لأن القيادة السياسية تتجنّب منذ السبعينيّات مُطالَبة الجيش بتحقيق "الحسم" أمام كيانات لا دولانيّة، مثل منظّمة التحرير الفلسطينية (سابقاً)؛ واليوم مثل حماس وحزب الله. وبدَلاً من ذلك تُحَدّد أهدافاً يمكن تحقيقها من دون الغرق في مستنقع قتال طويل أو حرب استنزاف مفتوحة. إن المُفارَقة التي يطرحها هايمن هي أنّ تَجَنّب الحسم لم يكن فقط قراراً سياسياً بل أيضاً عسكرياً، إذ يَعرض الجيش نفسه على القيادة السياسية تقديرات تُظهِر أن تكلفة الحسم ستكون غير مُحتمَلة في سياق قتال داخل تجمّعات بشرية مكتظّة، وأن أيّ مُحاوَلة للسيطرة الكاملة ستفرض أثماناً بشرية ضخمة لن يكون الجمهور الإسرائيلي قادراً على تحمّلها.

وبناءً على ذلك، يربط هايمن التحوّل المفاهيمي في الحروب الإسرائيلية ضدّ التنظيمات غير الدولانيّة، وبخاصّة منذ حرب 1973، إذ إنّ كلّ الحروب التي خاضتها إسرائيل تقريباً منذ ذلك الحين، باستثناء المواجهة المحدودة مع الجيش السوري عام 1982، كانت ضدّ تنظيمات ومجموعات غير نظاميّة، ما نقَل ساحة القتال من صراع جيش- جيش إلى صراع جيش- تنظيم؛ وهو ما تآكل فيه  مفهوم الحسم على المستويين التكتيكي والاستراتيجي، وبات أقرب إلى هدَف نظَري لا يمكن تحقيقه من دون تحمّل أثمان مفرطة، أو ارتكاب جرائم واسعة النطاق، من شأنها أن تُهَدّد "شرعية" إسرائيل الدولية.

يُشير هايمن إلى أن الحرب منذ 7 أكتوبر 2023 تُعَدّ الحالة الأبرز التي اختُبِرَت فيها هذه التحوّلات المفاهيمية. فهي تُظهِر إسرائيل وكأنها نجحت في القضاء على القدرات العسكرية المنظّمة لحماس، وتصف الحركة بأنها تحوّلت من "جيش عدو" مُنضبط إلى مجموعات صغيرة مفصولة عن القيادة ومحصورة في إطار حرب العصابات؛ ويستند في ذلك إلى مؤشّرات واضحة تتعلّق بتدمير البنية التحتيّة العسكرية للحركة، وتصفية جزء كبير من قادتها، وتفكيك وحداتها العسكرية. ومع ذلك، يعترف هايمن بأن الحركة ما تزال قادرة على التعافي، وأنها تُسَيطِر فعلياً على نصف مساحة القطاع، وتَستَعيد تدريجياً بعض قدراتها، وتفرض سلطتها المدنيّة الكاملة على أغلب سكّان غزة. هذا الاعتراف يخلق تناقضاً جوهرياً في السرديّة الإسرائيلية: فإذا كانت حماس قد هُزِمَت، فلماذا ما تزال قادرة على فرض نظامها؟ وإذا كانت قدراتها أُعيدَت ثلاثين عاماً إلى الوراء، فلماذا تتحدّث المؤسّسة العسكرية عن خطَر عودتها إلى التشافي وتعاظم القوّة؟

إن هذا التناقض بين السرديّة العسكرية والواقع السياسي يوضِح إحدى أهم أزمات العقيدة الإسرائيلية المُعاصِرة، إذ يُظهِر أن إسرائيل تستطيع أن تحقّق إنجازات تكتيكيّة واسعة، لكنها تفشل في ترجمتها إلى إنجازات استراتيجيّة دائمة. ويَبرز هذا الفشل في غياب بديل سياسي قادر على حُكم قطاع غزة، وفي اعتماد إسرائيل على خطّة دولية، مثل الخطّة التي يطرحها الرئيس ترامب، لضمان استدامة "الإنجازات المُتَحَقّقة" ميدانياً، حيث يربط هايمن بين اكتمال "الحسم" وبين تشكيل حكومة تكنوقراط مدعومة بقوّة استقرار دولية؛ أي أنه يُعَلّق نتائج الحرب على عوامل خارجية لا تملك إسرائيل التحكّم المباشر بها؛ وهذا الربط يعترف ضمنياً بأنّ إسرائيل ليست قادرة على فرض نتيجة الحرب من داخل القوّة العسكرية وحدها، وأن الحرب من أجل هزيمة حماس تعكس أزمة أعمق تتعلّق بغياب القدرة على توليد نظام سياسي بديل يحظى بشرعية داخلية في القطاع. يتعمّق هذا الاعتراف مع تأكيد هايمن على أن الإنجازات الإسرائيلية، مهما كانت واسعة، ستظلّ مؤقّتة ما لم يتم تفكيك قدرات حماس نهائياً ومنعها من إعادة بناء قدراتها، حيث يُشير بوضوح إلى أن الحركة تتعافى بسرعة في مجالات متعدّدة، مثل إنتاج العبوات الناسفة وإعادة بناء وحدات القيادة، وأن قدرتها على التجنيد ما تزال قائمة؛ وبذلك يطرح هايمن فكرة واضحة: "إسرائيل انتصرَت عسكرياً لكنها فشلَت سياسياً. ومن دون مُعالَجة هذه الفجوة سيظلّ مفهوم النصر الإسرائيلي هشاً وعُرضَة للتراجع".

إجمالاً، يُشير هايمن في هذه المادّة إلى الأزمة الداخلية العميقة في التفكير الأمني الإسرائيلي، إذ لم تَعُد إسرائيل قادرة على تصوّر انتصار كامل في الحروب الحديثة، وباتت تعتمد على مفهوم سياسي للنصر يقوم على تحسين البيئة الأمنيّة بدَلاً من تدمير العدو. وهذا التحوّل يحمل آثاراً استراتيجيّة بعيدة المدى؛ فهو ينقل مركز الجهد من الحسم العسكري إلى ترتيب سياسي خارجي، ويُعيد تعريف القوّة الإسرائيلية على أنها قوّة مؤقّتة وغير مُكتَملَة ما لم تُصاحِبها هندسة سياسية لنظام الحُكم في مناطق المواجهة والصراع، مثل غزة ولبنان وإيران؛ وهو ما يكشف حقيقة أن إسرائيل تُواجِه حدود القوّة العسكرية في عصر التنظيمات غير الدولانيّة، وتعترف ضمنياً بأن النصر الاستراتيجي لا يمكن أن يتحقّق بالقوّة وحدها، وأنّ بقاء "حماس" فاعلاً سياسياً واجتماعياً يجعل أيّ انتصار عسكري قابلاً للتآكل مع الزمن. ومن هنا، فإنّ "النصر" في الخطاب الإسرائيلي  هو عمليّة سياسية طويلة تعتمد على ترتيبات خارجية، وعلى قدرة على إعادة تشكيل البيئة الإقليمية، أكثر منه نتيجة مضمونة تُنتِجها الآلة العسكرية.

 

2025-12-15 08:31:22 | 15 قراءة

مركز باحث للدراسات الفلسطينية والاستراتيجية