كازاخستان على خطّ «أبراهام»: التطبيع الآسيوي «مطلوب» أيضاً
لينا بعلبكي
موقع صحيفة الأخبار
السبت 13 كانون الأوّل 2025
لم يكن إعلان كازاخستان التحاقها برَكب «اتفاقات أبراهام»، الشهر الماضي، مجرّد إضافة جديدة إلى سجلّ الدول التي قرّرت الانخراط في الهندسة الأميركية الهادفة إلى إعادة تشكيل منطقة غرب آسيا، ومَحورتها حول مركز ثقل إسرائيلي - أطلسي، إذ مَثّل هذا الإعلان دليلاً جديداً على عمق التحوّلات التي ضرَبت الفضاء ما بعد السوفياتي في آسيا الوسطى، حيث تتزايد قابليّة بعض الأنظمة لدمج مصالحها بالاستراتيجيّة الأميركيّة العالميّة، حتى وإن أخضعتها، في الوقت نفسه، لضرورات التوازن بين قوى إقليميّة كبرى، من مثل روسيا والصين وإيران.
وعلى الرّغم من أن العلاقات الدبلوماسية بين أستانا وتل أبيب قائمة منذ عام 1992، فإنّ الإخراج السياسي العلَني لهذه الخطوة، وفي هذا التوقيت تحديداً، يجعلها جزءاً من استراتيجيّة أشمل، تستهدف توسيع النسيج التطبيعي خارج الإطار العربي التقليدي، ضمن مشروع تشديد الطوق على الخصوم الإقليميين لواشنطن وتل أبيب، وفي مقدّمتهم طهران. ولَئن كانت كازاخستان دولة ذات غالبيّة مُسلمة «مُعتدلة» من دون إرث أيديولوجي متّصل بالصراع العربي - الإسرائيلي، ما يجعل كلفة انضمامها الرمزي مُنخفضة في حساباتها الداخلية، فإنّ قيمتها الحقيقية بالنسبة إلى أميركا وإسرائيل مُرتَبطة بحجم اقتصادها وموقعها في آسيا الوسطى؛ أي في منطقة تتقاطع فيها خطوط الغاز واليورانيوم.
ولذا، بدا واضحاً أنّ إدراج كازاخستان في «منظومة أبراهام» يأتي كترجمة للتفاهمات التي تبلورت خلال زيارة الرئيس الكازاخي، قاسم جومارت توكاييف، لواشنطن ومُشاركته في قمّة «C5+1»
حيث جرى الإعلان عن الانضمام إلى «أبراهام»، وتوقيع عقود تُقَدَّر بنحو 17 مليار دولار، بينها اتفاقات لتطوير معادن استراتيجيّة. ويجعل ذلك من خطوة التطبيع جزءاً من مُقايضة واضحة، طرَفها الثاني إدماجٌ أعمق في المنظومة الاقتصادية والتقنيّة الأميركية والإسرائيلية.
وفي هذا السياق، يرى خبراء «المركز الأطلسي» للأبحاث - الذي يُعَدّ مؤثّراً في صناعة القرار كونه جزءاً من «منظومة التفكير» المُحيطة بالحكومة الأميركية - أنّ «جذْب» كازاخستان إلى الفلك الأميركي - الإسرائيلي من شأنه أن يمنح الولايات المتحدة وإسرائيل «قدرة إضافيّة» على «مُوازَنة النفوذ الروسي والإيراني»، خصوصاً أن ذلك البلد «محصور بين روسيا والصين ويبحث عن أكبر عدد من الشركاء». ويعتقد الخبراء أن كازاخستان «ليست سوى البداية»؛ فعِدّة دول في القوقاز وآسيا الوسطى، مثل أذربيجان وأوزبكستان، أبدَت أيضاً اهتماماً بالانضمام إلى «اتفاقات أبراهام».
ويعكس الانشغال الأميركي بتلك المنطقة رغبة في تشكيل «قوس» يمتد من جنوب القوقاز إلى آسيا الوسطى مروراً عبر بحر قزوين، يكون بمثابة فضاءٍ آمنٍ جيوسياسياً لها، في مناطق هي في الأساس واقعة في الفضاء الجيوسياسي لروسيا وإيران؛ مع ما يحمله ذلك من تداعيات سياسية واقتصادية وأمنيّة على الإقليم برمّته. أمّا على المستوى الثنائي، فلا تحتاج إسرائيل إلى «سلام جديد» مع كازاخستان؛ لكنها، بلا شك، ستَستَفيد من الإطار المؤسّسي الذي يُوَفّره انضمام الأخيرة إلى «اتفاقات أبراهام»، وذلك من أجل تعميق التعاون الاقتصادي والتقني في مجالات من مثل الزراعة الدقيقة والري وإدارة المياه والأمن السيبراني والطاقة، إذ إن إسرائيل تمتلك في تلك القطاعات مَكانة رياديّة عالمياً، وهي تبحث عن مَنافذ جديدة لتوسيع حضورها فيها، بعيداً عن أيّ «أعباء» تتعلّق بالقضية الفلسطينية، وبما يخدم استراتيجيّة «تَجاوز الصراع» التي تبنّتها حكومة بنيامين نتنياهو منذ توقيع الاتفاقات.
وبذلك، قد تتحوّل كازاخستان إلى سوق مَرِنَة لاستثمارات إسرائيلية - أميركية، وإلى قناة لعبور هذه التقنيّات إلى عموم آسيا الوسطى. كما أن تكامل تلك الخطوات مع اتفاقات أوسع تشمل دول الخليج المُمَوِّلة للمبادرة، يمكن أن يجعل أستانا جزءاً من شبكة مُتداخلة تهدف إلى إعادة صياغة البنية الاقتصادية الإقليمية تحت سقف واحد.
غير أن البُعد الأكثر حساسيّة في هذا المشهد هو تأثير الخطوة على علاقة كازاخستان بإيران، الدولة التي تتقاسم معها حدوداً بحريّة في بحر قزوين وتاريخاً من التعاون النفعي في مجالات الطاقة والتجارة. فبالنسبة إلى إيران، من شأن «شراء» الولايات المتحدة وإسرائيل «نقطة ارتكاز» جديدة في شمالها، أن يُضيف طبقة أخرى إلى الضغوط الاستراتيجيّة عليها، وهو ما يُفَسّر إدانتها الخطوة واعتبارها إيّاها «مُقلِقة». ومع ذلك، يُجادِل مُراقِبون في أنّ طهران، وبحُكم إدراكها طبيعة السياسة الخارجية الكازاخيّة المَبنيّة على التوازن، تَعي أن الخطوة لا تعكس «تحوّلاً جذرياً» في تموضع أستانا، ولا تستبطن انخراطها في مشروع أمني يستهدف إيران مُباشَرة، خصوصاً في ظلّ غياب حدود بريّة بين البلَدين.
وبينما يُشَكّل النموذج الأذربيجاني المثال الأكثر تطرّفاً في كيفيّة استخدام إسرائيل لدولة ذات غالبيّة مُسلمة مُجاورة لإيران (يُمَثّل المسلمون حوالي 96% فيها) ــ كقاعدة لوجستيّة واستخباراتيّة، بما في ذلك اعتماد باكو، خلال السنوات الماضية، على تل أبيب بوصفها مُوَرّدها العسكري الأهم الذي يُزَوّدها بنحو 60% من وارداتها الدفاعية، ونَشْر عملاء «الموساد» على حدود إيران، وصولاً إلى استفادة إسرائيل من التركيبة الديموغرافيّة الأذريّة داخل الجمهورية الإسلامية نفسها -، يُجادِل مُراقِبون في أنّ كازاخستان «لا تملك مُقَوّمات أذربيجان» التي تجعلها قابلة للعب الدور نفسه.
فحتى الآن، تبدو أذربيجان في قلب صراع حدودي تتّخذ إسرائيل موقع الظهير فيه، فيما كازاخستان دولة حذِرة، تشتري «الانفتاح» ولا تُفَرّط في جوارها الإقليمي؛ فضلاً عن أنها لا تُواجِه صراعاً حدودياً مع إيران. ولذا، فهي تُفَضّل الحفاظ على «العلاقة الوظيفيّة» مع الأخيرة، واستثمارها حين تدعو الحاجة، من مثل اتفاقيّات مُقايَضة النفط؛ عِلماً أن إيران أعلنَت في عام 2020 إعادة تفعيل «اتفاق تبادل النفط»
(oil swap)
مع كازاخستان بعد نحو 10 سنوات من تجميده. كذلك، فإن أيّ تحوّل لكازاخستان إلى «منصّة متقدّمة» ضدّ إيران قد يُفَجّر خلافات مع روسيا والصين، اللتين تَحِدّان الأولى من الشمال والشرق، وتُشَكّلان بالنسبة إليها ضمانة أساسيّة للاستقرار.
مع ذلك، ثمّة ما يجمع بين باكو وأستانا بموجب منطق واشنطن وتل أبيب؛ إذ تُريد الأخيرتان أن تتحوّل الدول ذات الأغلبية المسلمة تدريجياً إلى «حقول اختبار» لمدى قابليّة انخراطها في معسكر العداء ضدّ إيران من جهة، ومحاولة تطويق الأخيرة اقتصادياً، عبر التمدّد نحو فضائها الجيوسياسي من جهة أخرى. وهما تُعَوّلان في هذا على «التوجّه البراغماتي» للدول التي ترى العلاقة مع إسرائيل وأميركا مدخلاً لتعزيز موقعها الاقتصادي عالمياً. وهذا التوجّه بالتحديد هو الذي تسعيان لتكريسه الآن، وذلك بهدف توسيع دائرة التطبيع لتشمل فضاءً إسلامياً غير عربي، وانتزاع مكسب دبلوماسي لإسرائيل في لحظة عزلة سياسية نسبياً بعد حرب الإبادة في قطاع غزة. كما أن تحوّلاً من النوع المذكور يُمكِن أن يُمَثّل، من وجهة نظر الولايات المتحدة، ورَقة إضافيّة في مواجهة إيران وروسيا، وحتى الصين، ومن ثمّ في إبطاء المسار التراجعي لهيمَنتها على العالَم، ومُعاكَسة ديناميّات تُشَكّل عالم متعدّد الأقطاب.
2025-12-28 17:44:56 | 17 قراءة