التصنيفات » مقالات سياسية

«أرشَفة غزّة»: سَجِّل قبل أن يُمحى الأثَر

«أرشَفة غزّة»: سَجِّل قبل أن يُمحى الأثَر

وصال الوردي
موقع صحيفة الأخبار 
السبت 13 كانون الأوّل 2025

ينطلق كتاب «أرشفة غزّة في الحاضر: الذاكرة، الثقافة، والمحو» (الساقي ـــــ 2025) من ندوة عُقِدَت في جامعة «سواس» في لندن حول أرشفة غزّة أثناء الحرب. يُوَثّق تدمير الثقافة، والتعليم، والذاكرة، عبر مقالات بحثيّة ترصد الفن، والأرشفة الرقميّة، والإبادة الماديّة والرمزيّة بوصفها سياسةً منهجيّة.
في تشرين الثاني (نوفمبر) 2024، انعقَدت ندوة استثنائيّة في جامعة «سواس» في لندن. جمَع اللقاء باحثين وفنّانين وقَيّمين وحقوقيين لبحث سؤالٍ مُحَدّد: كيف يمكن أرشفة غزة الآن؟ كيف تُوَثّق الحياة ما قبل الإبادة، بناسها وفنّانينها وأمكِنتها وأحداثها؟ من إجابات مُتشعّبة عن هذا السؤال، خرَج كتاب «أرشفة غزّة في الحاضِر: الذاكرة، الثقافة، والمحو» (الساقي ـــــ 2025)، الذي يَدرس تدمير الثقافة الماديّة في غزّة عبر مقالات تجمَع بين التاريخ الفنّي، والآثار، والقانون الدولي، والعلوم الرقميّة. أعَدّته وحَرّرته الباحثتان دينا مطر وفينيشيا بورتر.
أوّل حركة مقاومة
لكن ما هي غزّة؟ سؤال يطرحه المؤرّخ والباحث سليمان أبو ستّة في مقاله عن «الأرض التي لم تُنزِل علَم فلسطين قط»: فهي القاعدة التي انطلَقت منها أوّل حركة مقاومة: الفدائيّون الفلسطينيون في خمسينيّات القرن الماضي، الذين تطوّروا لاحقاً إلى منظّمة التحرير الفلسطينية. وفيها تأسّست أوّل منظّمة سياسية للاجئين. وفيها أُعلِن عن قيام حكومة عموم فلسطين في تشرين الأوّل (أكتوبر) 1948. ومنها انطلَقت أوّل فصائل المقاومة الفلسطينية: الإخوان المسلمون، و«حركة القوميين العرب»، و«فتح»، و«الجبهة الشعبية لتحرير فلسطين». ومنها سافرت أوّل بعثة فلسطينية لتمثيل الأمّة في الأمم المتحدة عام 1961، وفيها انتُخِب أوّل مجلس تشريعي فلسطيني عام 1962.
البنية الثقافيّة تحت الحصار
أما فينيشيا بورتر، فترسم في مقالها «فعل المقاومة»، صورةً دقيقةً للمشهد الفنّي في غزّة، مُتَتَبّعةً مجموعات تكوّنت من الفنّانين الغزّيين، مثل «التقاء» و«شبابيك» و«متحف السحاب» الذي أسّسته مجموعة «حواف»، وأعمال الفنّانين شريف سرحان وسهيل سالم وحازم حرب. فالإنتاج الفنّي لم يتوقّف، لكنّه أعاد ابتكار أدَواته. تُقام المَعارِض بتجهيزات بسيطة، وتُدار الورش عبر الإنترنت، وتُستَخرَج المواد من الركام؛ وتلفت إلى قدرة مؤسّسات الفنّ المحلي على إعادة اختراع ذاتها في ظروف تبدو مستحيلة من شدّة الانهيار.
إبادة الذاكرة
حين تُقَدّم دينا مطر تدخّلاً فكرياً في كيفيّة فَهمِنا للذاكرة تحت شروط العنف القصوى، فإنها تقول إنّ ما يُدَمَّر في غزة ليس الأجساد والمَباني فقط، بل شروط التذكّر ذاتها. مفهومها المركزي، «الميموريسايد» (قتل الذاكرة) يُسَمّي هذا العنف بدقّة مُخيفة: القتل المنهجي للذاكرة عبر محو البُنى المادية والاجتماعية والثقافية التي تجعل الذاكرة مُمكنة أصلاً، كأن تعود إلى مكان لم يعد موجوداً، أو إلى بيت الطفولة وقد أصبح رماداً.
كتاب يدرس تدمير الثقافة الماديّة في القطاع
تَتتبّع مطر جينيالوجياً مفهوم «قتل الذاكرة» من أعمال ميركو غريميك حول تدمير التراث الكرواتي، إلى تطويره في كتابات إيلان بابيه ونور مصالحة، اللذين يَصِفان كيف عمل الاستعمار الاستيطاني الإسرائيلي طويلاً على الكتابة فوق الجغرافيا واللغة والتاريخ الفلسطينية.
لكنّ أكثر أسئلة المقال إيلاماً ليس أكاديمياً بل حميمي: من سيَتذكّر حين تُمحى عائلات بأكملها؟ وإذا كان التاريخ الشفهي شريان حياة للذاكرة الفلسطينية، فماذا يحدث حين يُقتَل رواة القصص أنفسهم؟
الاستعمار الرقمي
يُقَدّم نص غادة دمشق «مقاومة المحو: دور وسائل التواصل الاجتماعي في توثيق وأرشفة الحرب على غزة» تدخّلاً راهناً وقوياً في سياسات الذاكرة الرقميّة الناشئة. يجمَع المقال بين البيان والتقرير الميداني، ويلتقط مُفارَقة هذه الحرب: فغزّة هي المكان الأكثر توثيقاً على الأرض، وهي أيضاً من أكثر الأماكن عرضةً للمحو.
خلال أيام الحرب، تابع العالَم غزة لحظةً بلحظة عبر البث المباشر والتغريدات والقصص. إلّا أنّ ما يبدو كمرئيّة غير مسبوقة يترافق مع هشاشة غير مسبوقة. فخوارزميّات المنصّات تخنق الانتشار، والحسابات تختفي، والمنصّات تَمتَثِل بصمت لضغوط الدول... مُمارَسات أطلَقت عليها دمشق مصطلح «الاستعمار الرقمي».
الحرب على الأكاديميا
تُعَدّ مقالة عمر شويكي «التضامن بالفعل: مقاومة الإبادة التعليميّة» تدخّلاً رصيناً ومُلِحّاً في واحدة من أقلّ جبهات الحرب على غزّة اعترافاً بها: التدمير المنهجي للتعليم. فالنصّ يتجاوز كونه مجرّد مقالة سجاليّة، ليَغدو شكلاً من أشكال الشهادة المؤسّسيّة، يُوَثّق ليس فقط الإبادة الماديّة للجامعات والمكتبات والمختبرات، بل المنطق السياسي الذي يجعل من هذا الدمار فعلاً استراتيجياً.
يمنَح المفهوم المحوري في النص «الإبادة التعليمية» )Scholasticide)، 
لغةً لما قد يبدو لولا ذلك أضراراً جانبيّة للحرب. يَتتبّع شويكي المُصطلح منذ أن صاغَته كرمة نابلسي خلال هجوم 2008–2009 على غزة، وصولاً إلى استخدامه اليوم كعدسة لفهم تفكيك منظومة تعليميّة كاملة. ويُقَدّم تفاصيل عن تصفية الحُرُم الجامعيّة الكبرى، واستهداف الطلّاب والأساتذة والإداريين.

لا يُجامِل شويكي الجامعات الغربية؛ بل يتّهم مُبادَراتها الرمزيّة التي تُسَرّع هجرة العقول، وببرامج زمالات تُفرِغ غزة بدَل دعمها، وبشراكات تلتفّ على مؤسّسات غزة نفسها لمصلحة حلول مُصَمَّمة خارجياً. يُشَكّل عَرض «لجنة الطوارئ لجامعات غزة» القلب الأخلاقي للمقال. فبدَل تصوير الفلسطينيين كضحايا سلبيين، يُوَثّق شويكي مُحاوَلةً جماعيّة عالية التنظيم للحفاظ على الحياة التعليمية في ظروف دمار شبه كامل.
ميّت بالنسبة إليك
كتبَت سلمى دبّاغ مقالها هذا وهي تُتابع الدمار المنقول مُباشَرة، ليبدو كأنه لائحة اتّهام للبنية الثقافيّة العالميّة التي طَبّعَت محو الفلسطينيين على مدى عقود. فالفلسطينيون لا يُقتَلون فحسب، بل يُجعَلون غير مَرئيين ثقافياً، ويُصَوَّرون ككائنات قابلة للتخلّص منها قبل وقتٍ طويلٍ من سقوط القنابل.
تُشير الكاتبة إلى أنّ وسائل التواصل جعلت الإبادة الجماعيّة مرئيّةً في الزمن الحقيقي، حتى في الوقت الذي تقمعها فيه الخوارزميّات. وفي الوقت نفسه، تُواصِل الأدبيّات والسينما والتلفزيون في الغرب إعادة إنتاج صورة مُسَطّحَة ومُعَسكَرَة للفلسطينيين. والنتيجة إبادة مُزدوَجة: إلغاء جسدي/ سردي.
ومن أكثر حركات المقال حِدّةً عودة دبّاغ إلى رواية الكاتب الإسرائيلي س. يزهار «خربة خُزَع»، رافضةً أن تُجَمّل النقد الذاتي «الليبرالي» الإسرائيلي، مُتَسائلة عمّا أنجزَه هذا الأدب فعلياً حين أنّ من تَرَبّوا عليه يخدمون اليوم في جيش مُتّهَم بالإبادة. فهل غَذّت هذه الروايات التعاطف لدى هؤلاء، أم أنها وَفّرت لهم أعذاراً أخلاقيّة فقط؟
لقد فشلت الثقافة في أبسط اختبار إنساني. فما قيمة نخبة ثقافية عالميّة ترثي حضارات اندثَرت ببلاغة، بينما تلزم الصمت إزاء ثقافة تُدَمَّر فعلياً في الزمن الراهن؟

2025-12-28 17:47:36 | 18 قراءة

مركز باحث للدراسات الفلسطينية والاستراتيجية