التصنيفات » دراسات

الوضع الاستراتيجي في القدس يستوجب




تغيير في السياسات *
بقلم: اودي ديكل
   
    مع اندلاع موجة الارهاب التي وقعت في الاسابيع الاخيرة، تقف القدس في مركز الاحداث على الرغم من توسع وانتشار الاحداث الى جميع مناطق الضفة الغربية، التي وقعت فيها اعمال إطلاق نار، وطعن، ورشق بالحجارة وإلقاء الزجاجات الحارقة. وانتقل التصعيد كذلك الى حدود قطاع غزة، حيث حاول المئات هناك من سكان القطاع اقتحام الجدار الامني والتسلل الى اسرائيل. طبيعة الاحداث تظهر، ان الدوافع وراء جميع اعمال الارهاب الاخيرة هو خليط من الدوافع - الدينية، القومية ،السياسية والاجتماعية.
          وما يميز هذه الاعمال يبدو انه يتمثل، في ان القوة المحركة لها هو الشبان الفلسطينيين من سكان القدس الشرقية، والذين يظهرون استعدادا لاعمال التضحية من خلال الاستعداد للوقوف في وجه قوات الجيش والشرطة الاسرائيلية، هم جميعم بلا خوف، كما انهم لم يعاصروا الانتفاضة الثانية. والعنصر الذي اشعل الوضع الحالي هو الصراع على المسجد الاقصى، ومحيطه، وبفضل التحريض، الذي اساسه كاذب، والذي يدعي، ان اسرائيل تخرق الوضع القائم في المكان وتحدد بصورة متراكمة وقائع جديدة في المكان، بهدف اقامة البيت المقدس على مساحة المسجد. يرتكز التحريض على النشاطات، التي تدور في المسجد ومحيطه، والتي تقوم بها عناصر متطرفة اسرائيلية، الذين يمارسون في المكان ممارسات دينية في الخفاء. لقد اخرجت الاحداث في المسجد الاقصى المارد الديني من القمقم واندمجت مع موجة من التحريض، شملت حملات واسعة على شبكات التواصل الاجتماعي من انتاج الحركة الاسلامية – الجناح الشمالي في اسرائيل، ووكلائها في السلطة الفلسطينية ومن ضمنهم حركة فتح. وهؤلاء يقولون ان اسرائيل سوف تطبق في المسجد الاقصى تلك الاجراءات المطبقة في الحرم الابراهيمي في الخليل، وانها ستخصص اوقات محددة لصلاة اليهود والمسلمين. وفي المقابل، الدعوات لطعن الاسرائيليين التي تبثها حركة حماس من قطاع غزة.
          العنصر الاكثر راحة من اجل تحريض الشبان في القدس الشرقية ولتحريكهم من اجل المشاركة في العملية الارهابية، هو الاحباط المتواصل، وفقدان الامل واليأس، وكذلك الدليل الواضح امامهم، ان جميع الطرق مغلقة في وجوههم. ويشار هنا، الى انه ما يزيد عن 30 بالمئة من الشبان من سكان القدس الشرقية متسربون من المدارس بسبب النقص في الغرف الصفية، وجزء منهم يعمل في اعمال الخدمات وجزء آخر عاطل عن العمل ( في السنتين الاخيرتين طرأ تراجع بنسبة 20 بالمئة على معدلات التشغيل في اوساط العرب في القدس). وهذا ما يغذي في اوساطهم الشعور بأن ليس هناك ما يمكن خسارته ويعزز التطرف الديني والقومي لديهم. وما يغذي هذه المشاعر هو تلك المواد التي تبث عبر وسائل التواصل الاجتماعي، وبضمنها حملات "الدولة الاسلامية". ومن المعروف انه في هذه المرحلة فإن الشبان يشعرون انهم منتصرون – فهم الذين يبادرون ويتسببون بالخوف والهلع في اوساط الجمهور الاسرائيلي – وهذا الشعور الذي يؤثر سلبا على النشاطات التجارية في اسرائيل. وفي اوساط العناصر التي تشارك في هذه الاعمال يتبلور فهم مفاده ان العنف بدأ يعطي مردودا: فقد تم تسجيبل تراجع كبير في اعداد اليهود الذين يحضرون الى المسجد الاقصى،  وعلى هذه الخلفية تم سماع تصريحات حكومة اسرائيل بأنها لا تعتزم تغيير الوضع القائم في المسجد الاقصى.
          تقوم اسرائيل بسلسلة من الجهود من اجل استقرار الوضع وتهدئة الاجواء، والتي تم التعبير عنها من خلال نشر المزيد من قوات الشرطة، وحرس الحدود والجيش في القدس، برقابة استخبارية وجسمانية على الخارجين من الاحياء العربية في القدس الشرقية، وبتغيير تعليمات فتح النار ضد المهاجمين بالسكاكين او الحجارة، بالاضافة الى الخطوات العقابية – كهدم بيوت المنفذين وسحب بطاقات الهوية الزرقاء، التي تتيح لهم حرية الحركة والتنقل . ولكن هذه الاجراءات لم تخفف من الدافع الذي يدفع اولئك الشبان بالاضافة الى انها خلقت الشعور بالعقاب الواسع في اوساط السكان العرب في المدينة من غير المشاركين (50 بالمئة من المشاركين في دائرة العمل من اوساط سكان القدس الشرقية يعملون في القدس الغربية او في اسرائيل). كما يعتقد، ان لاسرائيل روافع تأثير محدودة جدا على الشبان في القدس الشرقية. وفي اوساط العرب في المدينة لا توجد قيادة مؤثرة على المستوى السياسي- القومي، المحلية والاجتماعية، وكذلك على المستويات العائلية والتعليمية. وبهذا الخصوص من الممكن ان نتطرق الى ان اسرائيل وكذلك السلطة الفلسطينية عملتا على مدار سنوات على تحييد الفئات القيادية في الاحياء العربية من المدينة ولم يسمحوا بنمو قيادة محلية قوية.
          لقد فندت الاحداث في القدس ثلاثة افتراضات اساسية، والتي عملت حكومة اسرائيل على اساسها لغاية الان. الافتراض الاول – انه من الممكن المحافظة على الوضع القائم، ليس فقط في المسجد الاقصى، بل في الوضع الاستراتيجي الاقليمي لاسرائيل على مدار الوقت.وان لأي بديل آخر سوف تكون عواقب سلبية اكثر من تلك الموجودة في الوضع الحالي. وقد تبين ثانية، كما حصل في صيف 2014 خلال عملية "الجرف الصامد" وبتزايد اعمال العنف في المدينة انه لا يمكن المحافطة على الوضع القائم وان وضع اسرائيل الامني والسياسي يسوء تدريجيا. الافتراض الثاني – والذي يكمل الافتراض الاول، والذي يقول انه من الممكن عزل اسرائيل عن تأثير الاضطرابات الحاصلة في الوطن العربي، وتحديدا عن تعزيز مكانة الجهات المتطرفة بتأثير من "الدولة الاسلامية" والمنظمات الجهادية السلفية الاخرى. واليوم لا يمكن تجاهل تسلل الافكار والمنطق الراديكالي الى الساحة الفلسطينية ايضا الميل المتزايد في اوساط الفلسطينيين للتمسك بنظرة الدين. والافتراض الثالث – وهي سياسية في جوهرها، والتي تحددت من خلال التصريحات وليس الاعمال، بان القدس موحدة بحدودها الواسعة وهكذا ستظل. ان من يستمرون بهذا الادعاء هم منفصلون عما يدور عمليا في القدس، وخاصة في الاحياء والقرى التي تم ضمها للمدينة – حيث يسود هناك اهمال عمره 40 عاما في جميع المجالات. فتقريبا لا يوجد هناك دخول للاسرائيليين الى هذه المناطق في الايام الاخيرة، كما ان اسرائيل وضعت الحواجز ونقاط التفتيش لمنع التنقل الحر لسكان القدس الشرقية الى القدس الغربية وتدرس إمكانية إقامة جدار حماية بين بيوت الاحياء العربية والاحياء اليهودية.
          من اجل مواجهة الوضع، وبالاضافة الى تعدد الاقتراحات التي طرحت مؤخرا، فإننا نعرض اربعة خطوات تكوينية مطلوبة، ثلاثة منها على المدى المتوسط وواحد على المدى الابعد.
1 – تقديم اقتراح اسرائيلي لاقامة لجنة تنسيق لتقييم ودراسة الوضع القائم في المسجد الاقصى – وذلك بمشاركة كل من اسرائيل، الاردن، الولايات المتحدة، ومندوبون عن السكان الفلسطينيين في القدس. كما انه بالامكان المبادرة لدعوة دول عربية اخرى مثل العربية السعودية، مصر والمغرب، للمشاركة (وليس للعضوية) في هذه اللجنة. وعلى عكس الاقتراح الفرنسي، بنشر قوات دولية في المسجد الاقصى، لمراقبة ما يحدث في المكان. ان دعوة دول عربية قيادية، من الممكن ان يستند على اساس المصالح المشتركة مع جزء منهم مع اسرائيل، على ضوء التحديات المشتركة الماثلة في الشرق الاوسط وكذلك الحاجة الى تحريك العملية السلمية مجددا بين اسرائيل والفلسطينيين. ان هذه الخطوة الاولية من شأنها ان تشكل اساسا لتوسيع التعاون في مجالات اخرى اضافية.
2 -  خطوات اقتصادية – هناك تأثير سلبي خطير للاحداث الاخيرة من شأنه ان ينشأ نتيجة التراجع الكبير في اعداد المتسوقين وبمعدلات البيع في اعقاب المس بالشعور بالامن الشخصي. وهذا من شأنه ان يجر وراءه الحاق الضرر بالاعمال الصغيرة، وعليه يتوجب دراسة خطوات سياسية مؤقتة، التي تضم تسهيلات على الاعمال (تخفيض الارنونا، تسهيلات ضريبية)، وخاصة في القدس، التي طرأ تراجع ملموس على مستوى الاعمال التجارية فيها، وذلك الى جانب خطوة تنفيذ اعمال شراء فعلية لتشجيع نشاطات المستهلكين. وفي المقابل، من الحيوي تحقيق مشاريع تأهيل وتشغيل للشبان العاطلين عن العمل في القدس الشرقية، وتوجيه المؤهلين العرب الى اماكن العمل المناسبة. 
3 – دمج القيادات العربية في التفكير واتخاذ القرارات – ان القيادات العربية في اسرائيل تظهر لغاية الان مسؤولية ويمنعون اشتعال الاوضاع الى درجة اكثر خطورة. فالمطلوب زيادة وتسريع الحوار معهم، والتشاور معهم والقيام بخطوات منسقة معهم من اجل تهدئة الوضع. ومطلوب من رئيس الحكومة او وزير الداخلية ان يجري حوارا دائما مع القيادات العربية ورؤساء المجالس المحلية العربية في اسرائيل. كما نوصي بتوجيه قنوات الحوار بين الحاخامات والشيوخ المسلمين، من اجل تهدئة الخطاب الديني في الاحداث.
4 – على المدى الاكثر بعدا – تأسيس سلطات محلية منفصلة للاحياء والقرى العربية في القدس الشرقية – والذين الحقوا الى القدس الشرقية الاردنية عند توسيع الحدود البلدية للقدس في العام 1967، (لا يشمل ذلك البلدة القديمة وشرق القدس الاردني ويشمل فقط الاحياء الموجودة خارج الجدار الامني). ومن الممكن تسمية هذه السلطات " بلديات القدس الشرقية" وتشجيع الادارة الذاتية فيها واختيار المواطنين. والسلطة الجديدة تكون تابعة لوزارة الداخلية وتحظى بالميزانيات المطلوبة، من اجل تطويرها وزيادة رفاهية السكان. (حوالي 40 بالمئة من سكان القدس اليوم هم من عرب شرق المدينة، والميزانية الموجهة اليهم تقدر بـ 15 بالمئة فقط من ميزانية البلدية). تشكيل سلطة "بلديات القدس الشرقية"، والتي تمارس دورها بفاعلية وتحسن من ظروف معيشة السكان العرب، يخدم مصالح الاسرائيليين سواء استمر الوضع السياسي الحالي، وسواء تم تحقيق تسوية سياسية على اساس دولتين وعاصمتين في القدس الشرقية. وفي مرحلة متقدمة من الممكن تشجيع اقامة وتعزيز ادارة مجتمعية في احياء القدس الشرقية، يقومون بإلادارة الذاتية للسكان، وتعيين السكان في وظائف عامة وتخصيص الميزانيات للمساعدة ودعم المشاريع لمستثمرين محليين، وكذلك السماح بنمو قيادة محلية في الاحياء والقرى. وهذه القيادة المحلية، والتي تنمو من داخل المنطقة ولا يتم فرضها من الاعلى، من شأنها ان تتسلم بالتدريج المسؤولية عن احتياجات السكان – البنى التحتية ، التعليم، المجتمع، الاقتصاد، مراكز التأهيل والتشغيل، والثقافة وغير ذلك. هذه القيادة هي غائبة اليوم في المنطقة، وهي بإمكانها كبح جماح الشبان ومنع التصعيد في الاعمال العنيفة، والتي يعاني منها الطرفين. ليس لاسرائيل ما تخسره في تحقيق هذه الفكرة، والذي من شأن رفض القيادة الفلسطينية لها واحباطها، ان يثبت انها تحبط جميع المساعي العملية من اجل تحسين الاوضاع في منظومة العلاقات المركبة بين اسرائيل والفلسطينيين.
          حتى ولو ثبتت التوقعات القائلة ان العاصفة ستهدأ في وقت قريب، وبدون اي رابط بذلك في العلاقات بين اسرائيل والفلسطينيين، فإنه من  السليم القيام بهذه الخطوات على اية حال، وذلك من اجل زيادة الاحتمال بمنع وقوع اضطرابات قادمة في العاصمة وتأثير ذلك على جميع انحاء الدولة.      
               
* "نظرة عليا"، مركز بحوث الامن القومي، جامعة تل أبيب، تشرين الأول 2015


2015-11-03 11:27:27 | 10513 قراءة

التعليقات

الإسم
البريد الإلكتروني
عنوان التعليق
التعليق
رمز التأكيد
مركز باحث للدراسات الفلسطينية والاستراتيجية