التصنيفات » الكتب

الانتهاك الأميركي للسيادة السورية: بين القانون والسياسة



قراءة في كتاب


لم يتطرّق الباحثون والمحلّلون الاستراتيجيون أو المتابعون لمجريات الأزمة السورية المستمرة منذ العام 2011، بالمستوى اللازم، إلى الانتهاك الأميركي السافر للسيادة السورية، والذي شكّل غطاء أو قاعدة صلبة ارتكزت عليها كلّ أشكال التدخل الإقليمي والدولي الأخرى في مسار هذه الأزمة الخطيرة، وذلك بفعل تمكن صانع القرار الأميركي من تغطية هذا الانتهاك بوسائل سياسية وإعلامية ونفسية مدروسة، أوحت للمراقبين بأن إدارة باراك أوباما لا تتدخل بشكل مباشر وواسع في ما يجري على الأرض السورية، وأنها تشنّ فقط غارات جويّة [منذ عدّة أشهر] ضدّ تنظيم داعش الإرهابي، وأنها تدعم فحسب المعارضة السورية «المعتدلة» لإسقاط النظام السوري، الذي لا يعبّر عن تطلّعات الشعب السوري، حسب زعم مسؤولي هذه الإدارة.
لكن الانتهاك الأميركي لسيادة الدولة السورية، والتدخل في كلّ ما جرى ويجري، هو أكبر وأخطر ممّا يعلنه المسؤولون الأميركيون بمناسبة ومن دون مناسبة.
لقد شكّل التدخل الأميركي في سورية، على مختلف مستوياته، السياسية والعسكرية والأمنية والإعلامية وغيرها، سابقة خطيرة في إطار العلاقات الدولية وعلى صعيد الالتزام بمبادئ القانون الدولي والإنساني العام، وممّا قد يطيح ـ إذا ما انساقت الدول الكبرى  أو الصغرى وراء هذه السابقة ـ بسيادة الدول وبكلّ ما توصلت إليه الإنسانية من تقدّم على مستوى ترسيخ سيادة الدول والشعوب ومحافظتها على قرارها المستقل، بعد حروب ونزاعات دامية أزهقت أرواح ملايين الناس، وخصوصاً خلال الحربين العالميتين اللتين نشبتا خلال القرن الماضي (1914 ـ 1918) و(1939 ـ 1945).
من هنا كانت فكرة هذا الكتاب، وهو عبارة عن رسالة جامعية (ماجستير بالعلوم السياسية) تطرّقت بشكل منهجي وأكاديمي إلى قضية الانتهاك الأميركي للسيادة السورية، بالبعدين القانوني والسياسي، ومن عدّة جوانب ومسارات، لتخلص إلى مقترحات وتوصيات حول كيفية مواجهة وإسقاط هكذا تدخلات أجنبية سافرة ضدّ سيادات الدول في المستقبل، على قواعد قانونية وأخلاقية، راسخة ومتوازنة.
من أهم ما ورد في الفصل الأول (ضمن المبحث الثاني) أن مجموعة كبرى من القرارات والمؤتمرات الدولية تضمنت بعض القواعد والمبادئ المتعلقة بمبدأ السيادة، وهي رمت إلى تحديد حالات انتهاك هذا المبدأ. ومن هذه المبادئ:
أ ـ مبدأي وحدة الأرض وسيادة الشعب المكرّسين في ميثاق عصبة الأمم وفي ميثاق الأمم المتحدة، وفي القرار رقم 2625 (XXV) لعام 1970، وفي بيان هلسنكي (1975).
ب ـ حقّ كلّ دولة وكلّ شعب باختيار نظامه السياسي والاقتصادي والاجتماعي بحرّية. وهذا الحقّ مكرّس في مختلف الإعلانات التي تمنع التدخل في الشؤون الداخلية للدول، والتي تفرض حماية استقلال وسيادة هذه الدول، كالقرار رقم XX19652131، والقرار رقم XX26125 عام 1970.
لكن، في العصر الحالي، يدّعي البعض أن فكرة التدخل وحماية المدنيين تصبح مشروعة بناءً على قاعدتين قانونيتين أساسيتين يتضمنهما القانون الدولي العام، وهما:
1 ـ التدخّل بناءً على طلب الشعب.
2 ـ التدخل من أجل حماية حقوق الإنسان وتحقيق الحماسة الإنسانية.
إلاّ أنه توجد معضلات عديدة تعيق التوصل إلى صياغة مقبولة عالمياً للتدخل الدولي، وأوّلها أن اتخاذ القرار بصدد تدخّل خارجي، بغضّ النظر عن توافقه مع الشرعية الدولية، أو القانون الدولي العام، لا يكون مقبولاً في القانون الدولي التطبيقي دون موافقة مجلس الأمن الدولي. ويكفي اعتراض إحدى الدول الدائمة العضوية لمنعه (كما حصل مع الفيتو الروسي ـ الصيني ضدّ قرار أميركي بالتدخل العسكري في سورية، على خلفية مزاعم باستخدام أسلحة كيماوية في العام 2013).
الفصل الثاني من الكتاب، يتطرّق ضمن مبحثين موسّعين، لمواقف النظام وما يُسمّى قوى المعارضة السورية من التدخل الأجنبي في الشؤون السورية، وتحديداً التدخل الأميركي، لينتقل إلى عرض تحليل للذرائع الأميركية بشأن هذا التدخل، والمواقف الدولية والإقليمية منه، مع تركيز على مواقف الدول الفاعلة والمؤثّرة في هذا المجال.
ومن المواقف السياسية لقادة النظام في سورية، نقتبس موقفاً مميّزاً للرئيس السوري بشار الأسد، خلال استقباله وفداً أميركياً من أعضاء سابقين في الكونغرس وناشطين إعلاميين برئاسة رامزي كلارك، على أن السياسات التي تنتهجها الإدارة الأميركية في المنطقة، والمبنيّة على شنّ الحروب والتدخّل في شؤون الدول وفرض الهيمنة على شعوبها ومقدّراتها، لا تحقّق مصالح الشعب الأميركي وتتناقض مع قِيمه ومبادئه.
وبعد بدء إدارة أوباما بشنّ غارات جوّية على تنظيم (داعش) الإرهابي، الذي حقّق في العام 2014 تقدّماً مفاجئاً على الأرض (في سورية والعراق)، اعتبر الأسد أن الضربات التي تشنّها الولايات المتحدة وحلفاؤها هي انتهاك للسيادة السورية، وأن هذه الحملات الجوّية هي تدخل غير قانوني، أولاً لأنه لم يُغطّ بقرار من مجلس الأمن، ولم يراعِ سيادة دولة هي سورية.
أما قوى المعارضة، وأغلبها قوى عسكرية تسلّحت وتموّلت من قِبل دول إقليمية وأجنبية عديدة، وفي مقدّمتها الولايات المتحدة، فقد كانت لها مواقف ملتبسة أو متناقضة من التدخلات الخارجية في الأزمة السورية، بحسب مصالحها وتقديراتها، كما بحسب ارتباطها بهذه الدولة الداعمة أو تلك.
وبمعنىً آخر، فإن الجماعات والقوى (التي يصعب حصرها) كانت تؤيد التدخل الخارجي (العسكري وغير العسكري) في الأزمة السورية، وهي باتت جزءاً منه في عدّة مراحل، وتستنكره حين يكون محدوداً أو ملتبساً أو موجّهاً لدعم فئات على حساب أخرى. ويبقى الرفض الكلامي لبعض مسؤولي وقادة قوى المعارضة للتمويه فقط، أو لإبراز استقلالية مدّعاة لهذه الجماعات ووطنية مزعومة أمام الشعب السوري، الذي أثبتت غالبيته رفضاً قاطعاً لأيّ تدخل خارجي مشبوه في الصراع الدائر على الأرض السورية، ومن دون رضا أو موافقة الدولة السورية، التي ما تزال تحظى بشرعية دولية وداخلية معتبرة، وهي تسيطر على أهم المدن والمناطق السورية.
وكدلائل ومؤشرات موثّقة، ترِد في الفصل الثاني مواقف سياسية لقادة سابقين وحاليين من المعارضة، مثل معاذ الخطيب وحسن عبد العظيم وهيثم المنّاع وهادي البحرة وخالد خوجة (رئيس ما يُسمّى الائتلاف السوري)، وأحمد الجربا، وميشيل كيلو وغيرهم.
وفي الفصل المذكور أيضاً عرض للدوافع الحقيقية التي أملت التدخل الأميركي (السافر أو المقنّع) في الأزمة السورية، وفي أوّلها قرار الدولة السورية المستقلّ، الذي تبلور في عهد الرئيس الراحل حافظ الأسد، واستمرّ مع نجله بشّار. 
ولا يخفى أن دعم النظام السوري الحاسم للمقاومة والممانعة التي تقوده إيران، هو سبب جوهري لمعاداة الإدارة الأميركية لهذا النظام الذي يهدّد مصالحها في المنطقة، كما يهدّد حليفتها «إسرائيل»؛ وهو كان دافعاً لتدخل تلك الإدارة، وبكلّ هذا العمق وهذه الخطورة في الصراع السوري، طيلة الأعوام القليلة الماضية.
ومن ثمّ يعرض مؤلّف الكتاب، في الفصل الثاني، للمواقف الدولية والإقليمية ممّا يجري في سورية، وتحديداً من التدخل الأميركي في هذا البلد، بادئاً بعرض الموقف الأوروبي، فالموقف الروسي والموقف الصيني، والموقف الإيراني والموقف السعودي والموقف القطري والموقف التركي، وصولاً إلى موقف الكيان الإسرائيلي الذي تمكن من تمويه وتغطية تدخله الخطير في النزاع السوري، كحال راعيته وحليفته الولايات المتحدة الأميركية.
الفصل الثالث والأخير، من الكتاب، وعنوانه: أبعاد وتداعيات الانتهاك الأميركي للسيادة السورية، يعرض لمظاهر وأشكال الانتهاك الأميركي لسيادة الدولة السورية، على الصعد السياسية والدبلوماسية والعسكرية والأمنية، وموقعية هذا الانتهاك بين القانون والسياسة، من خلال آراء وتحليلات معتبرة لقانونيين وخبراء، ولينتهي بخاتمة شملت استنتاجات وتوصيات واقعية ومحدّدة خلص إليها مؤلّف الكتاب.
على المستوى السياسي والدبلوماسي، أورد الباحث العديد من النماذج والشواهد حول التدخّل الأميركي السافر في النزاع السوري، من خلال حركة السفير الأميركي الأسبق في سورية، روبرت فورد، لدعم المعارضين للنظام، أثناء وجوده في سورية، أو عبر المواقف الأميركية شبه اليومية، والداعية لإسقاط النظام؛ فضلاً عن الرعاية الأميركية الكاملة والمباشرة للتحرّكات والمؤتمرات واللقاءات التي كانت تهدف لإدانة النظام والضغط عليه وإحلال القوى المعارضة التابعة للأميركيين مكانه. وكلّ هذه الفعاليات تُعتبر خرقاً فاضحاً للسيادة السورية، وليست مبرّرة على الإطلاق، لأنها تخالف مبادئ وروح القانون الدولي.
وعلى المستوى العسكري والأمني، كان للسفير فورد ـ كما هو معلوم بالنسبة لكلّ سفراء أميركا في الخارج ـ مهام أمنية كبيرة قبل سحبه، لجهة دعم المعارضين السوريين للنظام، فضلاً عن دعم المؤسسات الإعلامية والقوى السياسية والجماعات الأهلية التي تواجه النظام، مدنياً أو ميدانياً، وذلك من خلال منظومة أمنية معقّدة برع الأميركيون في إنشائها ورعايتها قبل اندلاع الاضطرابات في مدينة درعا السورية (آذار 2011)، والتي تحوّلت إلى حرب عسكرية وأمنية شاملة فيما بعد، تحت نظر ورعاية الأميركيين المباشرة.
وكذلك كان واقع التدخل الأميركي على المستوى الإعلامي والنفسي، والذي أسهمت فيه أهم الأقنية التلفزيونية والصحف الكبرى والمحطات الإذاعية الأميركية، في سياق تشويه صورة النظام السوري وتضخيم أو تحوير ما يحصل على الأرض السورية، بهدف تأليب الرأي العام السوري والعربي والعالمي على النظام، ولتقديم المعارضين للنظام كضحايا للعنف الممارَس ضدّهم، وصولاً إلى تبرير ممارساتهم وجرائمهم الشنيعة ضدّ قوى النظام ومؤيديه وضدّ المدنيين السوريين عموماً، طيلة مراحل الصراع السوري المستمرّ حتى اليوم.
في نهاية الفصل الثالث من الكتاب، يحلّل المؤلّف موقعية الانتهاك الأميركي للسيادة السورية بين القانون والسياسة، من خلال عرض موثّق لأبرز وأخطر أنواع التدخل الأميركي في الشؤون السورية، رغم أن الكثيرين (من قوى المعارضة السورية والدول الداعمة لها) قد ساءهم ما وصفوه بتخاذل إدارة أوباما وعدم تدخلها المباشر لدعم ما سمّوه ثورة (الشعب السوري)، وتأييد العديد من المسؤولين الأميركيين لهذه المقولة.
أما في البعد القانوني، فيورد المؤلّف مواقف وآراء معتبرة لخبراء وقانونيين دوليين تدين التدخل الأميركي غير المشروع في الشؤون السورية، مثل رأي لرئيس كليّة الحقوق بجامعة لانكستر، سيجرون سكوغلي، الذي يقول: يلزم تناول الوضع في سورية من خلال ميثاق الأمم المتحدة. فإذا قرّر مجلس الأمن أن الوضع يمثّل خرقاً أو تهديداً للسلام والأمن الدوليين، فستتوافر لديه حجّة التفويض التي تحدّد استخدام الوسائل العسكرية الرامية لاستعادة السلام والأمن إن لم تُفلح الوسائل غير العسكرية وحدها. وتحتاج مثل هذه القرارات إلى موافقة جميع الأعضاء الدائمين في مجلس الأمن. وفي الوضع الراهن، ليس من المحتمل أن توافق روسيا والصين على مثل هذه الإجراءات. ومن ثمّ فإن قانونية التدخل دون موافقة صريحة من مجلس الأمن ـ التدخل لأغراض إنسانية ـ ستصبح محل شك.
وأخيراً، يقدّم الباحث في خاتمة الكتاب، جملة استنتاجات وتوصيات تصبّ في خانة تحقيق أهداف الكتاب، بإدانة التدخل الأميركي في النزاع السوري ومحاولة منع تكراره ضدّ دول وشعوب أخرى، من خلال اقتراحات محدّدة وعملية.
ومن أبرز المقترحات التي عرضها الكتاب، في الإطار القانوني: توسيع هيئة مجلس الأمن المقرّرة، والتي تضمّ حالياً الدول الخمس المعروفة (أميركا ـ روسيا ـ فرنسا ـ الصين وبريطانيا)، لتشمل دولاً صاعدة وقوية أخرى، بهدف إحداث توازن نسبي قد يصبّ في صالح الشعوب أو الدول المستضعفة؛ تشكيل لجنة أو مؤسسة دولية ذات رأي محترم، تحت إشراف هيئة الأمم المتحدة أو من دونها، والتي يُختار أعضاؤها من كبار الشخصيات القانونية أو العلمية والإنسانية والسياسية، لكن من غير المرتبطين مالياً أو سياسياً بأية دولة، من أجل تقديم آراء وطروحات موضوعية وعادلة حول القضايا والأزمات والنزاعات الكبرى في العالم، إلى الهيئات والمؤسسات المعنية، بحيث لا يحصل تدخل عسكري أو غير عسكري في أيّ بلد إلاّ وفق رؤية واضحة ومرتكزة على مبادئ وروح القوانين الدولية والإنسانية.
أما في الإطار السياسي، فأورد مؤلّف الكتاب عدّة أفكار منها:
تطوير وترسيخ الروابط بين الدول والقوى المعادية للسياسات الأميركية، وتقسيم المهام بين هذه الدول والقوى، مع إطلاق فكرة (الجبهة العالمية المعادية للسياسات الأميركية) التي يمكن أن تتولّى إدارة الصراع مع الأميركيين وحلفائهم، سياسياً وعسكرياً وعلى المستوى القانوني والدولي ـ الأممي، بهدف كبح جماح هؤلاء ومنع تدخلاتهم السافرة وغير المشروعة في شؤون ومصائر الشعوب والدول المستضعفة.
والأهم في هذا الإطار هو تبنّي طرح الدعم الشامل للحركات المقاومة والدول الممانعة للسياسات الأميركية التدخلية على مستوى منطقة (الشرق الأوسط) والعالم عموماً.
وفي نهاية الكتاب، ملاحق ثلاثة:
1) لمحة عامة عن سورية ـ معطيات سياسية واقتصادية واجتماعية.
2) أهداف ومحدّدات السياسة الأميركية في الشرق الأوسط.
3) كرونولوجيا بالتدخلات الأميركية في الشرق الأوسط (2015 ـ 1920)؛ فلائحة مصادر ومراجع الدراسة.






2016-03-24 12:37:01 | 8524 قراءة

التعليقات

الإسم
البريد الإلكتروني
عنوان التعليق
التعليق
رمز التأكيد
مركز باحث للدراسات الفلسطينية والاستراتيجية