التصنيفات » مقالات سياسية

من النكبة والنكسة إلى مشروع المقاومة المنتصر


أيام وتحلّ الثامنة والستون لنكبة فلسطين، وبعدها تحلّ الذكرى السابعة والأربعون لنكسة حزيران 67. هي ذكريات مؤلمة وشعوب أمتنا تمرّ في مرحلة انتقالية غاية في الدقّة والحساسية، تحمل في ثناياها فرص الخير كما تحدّيات الشرّ: المستقبل المضيء المشرق، كما الخطر الكبير المدمّر. فما يطفو على السطح من واقعنا الراهن: فلسطينياً وعربياً، يشكّلأ تحدّياً كبيراً، على تاريخنا وحاضرنا ومستقبلنا؛ وهو واقع أوحى وكأننا تخلّصنا إلى حد كبير من كلّ آثار مرحلة الاستعمار المباشر التي ابتلينا بها بعد الحرب العالمية الأولى، وأنه لم يعد أمامنا إلاّ مواجهة المشروع الصهيوني، بعد أن تمكّنا من كسر غطرسة قادته (المشروع الصهيوني)، ووضع حدٍ لانتصارات جيشه الذي اعتقد البعض أنه لا يُقهر، فقهره أبطال المقاومة وأجبروه على الاندحار خائباً ذليلاً. في المقابل، تشكّلت وقائع جديدة، أكدت أن قوى الاستكبار والهيمنة لا تزال تفرض سيطرتها وسطوتها على جزء معتبر من أبناء جلدتنا والناطقين بلساننا، وخاصة ممّن يتبؤون سدّة الحكم في بلدان عزيزة من أمّتنا، بفعل عصبيات منغلقة، تخيّلنا أننا تخلّصنا منها قبل مئات السنين بفعل نور الإسلام المحمدي العظيم؛ وهي عصبيات أعمت بصائر أغلب حكّامنا وجعلتهم ممّن يتقبلون أن يصبحوا مطيّة لأعداء أمّتنا، ويسخّرون ما يسيطرون عليه من ثروات، ومن يستطيعوا أن يخدعوه، في خدمة أعداء الأمّة الأمبرياليين والصهاينة. من هنا كان عملهم الحثيث على تبديد طاقات الأمّة في معارك جانبية، كما التآمر على نقاط قوّتها وعلى ما أنجزت بتضحيات أبنائها ودماء شهدائها....

نعم نحن أمام تحدٍ كبير وخطير .... ولكننا في ذات الوقت أمام فرصة كبيرة إذا ما تمكّنا فيها من البناء على ما أنجزنا، ورفضنا استمراء حالة الإستحمار، وقاومنا هذه الحالة كما قاومنا الإستعمار، واستطعنا هزيمة آخر أدوات الأعداء، من حركات التكفير الإرهابي ومرتزقة الأعداء. ورغم التضحيات العزيزة والغالية، يجب ألاّ يغيب عن أذهاننا أننا نعيش مرحلة انتهت فيها  قدرة العدوّ على تحقيق الإنتصارات، وبدأنا نشهد فيها تحقيق الإنجازات، حيث حقّقنا النصر في عدد من المعارك مع هذا العدو. نعم نحن في أفضل حال منذ مئات السنين، مع إدراكنا أن الجيش الصهيوني قد تمكن بدعم إمبريالي وتعاون رجعي عربي،  في العام 1967 من تدمير ثلاثة جيوش عربية واحتلال كامل مساحة فلسطين، إضافة إلى سيناء والجولان. كما تمكّن من تحويل الإنتصار الكبير والبالغ الأهمية، الذي حقّقته بطولات وتضحيات جيشي مصر وسوريا ومن وقف معهما  في حرب تشرين 1973، إلى هزيمة سياسية، عبر فرضه اتفاقية كامب ديفيد الإستسلامية في عهد أنور السادات.

وكان أن انتصرت الثورة الإسلامية في ايران في شباط من العام 1979 بقيادة الإمام الخميني (قده)، لتسقِط ركيزة من أهم ركائز الإستعمار في عالمنا الإسلامي "نظام الشاه"، فتختلّ معادلة الصراع في المنطقة، والتي سعى العدوّ الصهيوني لتعديلها لمصلحته مجدّداً، حين قام باجتياح لبنان في صيف العام 1982 بهدف طرد قوات الثورة الفلسطينية، وإقامة نظام تابع وعميل له في لبنان، وحصار سوريا ليفرض عليها الخضوع وتوقيع اتفاق شبيه باتفاق "كامب ديفيد" .

لكن كان للمتغيّرات العميقة التي حصلت في المنطقة العربية والإسلامية انعكاس واضح التأثير في لبنان، مع بدايات تبلور وتشكّل حالة المقاومة الإسلامية في لبنان التي قدّمت نموذجاً جديداً، قلبت فيه السحر على الساحر، وأفشلت المخطّطات التي كان العدوّ الصهيوني قد أعدّها للبنان ولقضية فلسطين والمنطقة، حيث بدأ هذا العدو بالتقهقر ولم يعد قادراً على تحقيق أيّ انتصار. وقد توّج هذا المسار بالتحول النوعي في الصراع مع المشروع الصهيوني الذي تحقق عام 2000، عندما أجبِر الجيش الصهيوني، وتحت ضربات المقاومين وبطولاتهم وتضحياتهم ، على الاندحار عن أرض لبنان دون قيد أو شرط. واستمر مسلسل تقهقر هذا المشروع أمام المقاومين في لبنان وفلسطين، فكان اندحار جيش العدو وتفكيك مستوطناته من قطاع غزة المقاوم، وصولاً إلى هزيمته النكراء في تموز 2006؛ فبعد 33 يوماً من الحرب التدميرية على لبنان، عجز هذا العدوّ عن الاستقرار في متر مربّع واحد، لتتوالى هزائمه، لاحقاً أمام المقاومين من أبناء قطاع غزة المظلوم والمحاصر. في المقابل، هناك من عمل ومن يعمل، من أبناء جلدتنا والناطقين بلساننا،  لتبديد كلّ هذه الإنجازات الكبرى عبر فتنة  التمزيق الطائفي والمذهبي والعرقي التي اشتعلت منذ بداية ما سمّي (الربيع العربي) قبل سنوات. لكننا ندرك كما يدرك أعداؤنا، أننا إذا ما تجاوزنا هذا البلاء فسنكون أمام نصر نوعي حاسم على أعدائنا.

نعم، التضحيات كبيرة وعزيزة، ولكنها ستكون أكبر وأفدح بما لا يُقاس إذا ما تقاعسنا عن مواجهة مشاريع الأعداء ومخطّطاتهم وأدواتهم المحلّية، على اختلاف مسمّياتها. 

ذكرى نكبة فلسطين 

رغم التضحيات التي بذلها الشعب الفلسطيني في مواجهة المشروع الصهيوني، فقد تمكّن الصهاينة، وبدعم عضوي وحيوي من الدول الاستعمارية، من إقامة الكيان الصهيوني في الخامس عشر من أيار سنة 1948، على مساحة تبلغ ما يزيد عن 77% من أرض "فلسطين الانتدابية".

قبل ذلك التاريخ وبعده، قامت العصابات الصهيونية (الهاجاناه، شتيرن، البالماخ وغيرها، وما سمِّي بعد ذلك جيش الدفاع) بارتكاب إحدى أكبر وأشنع جرائم العصر الحديث، عندما قامت باقتلاع و طرد الغالبية الساحقة من الفلسطينيين، أهل البلاد الأصليين، من مدنهم وقراهم وبلداتهم، وذلك باستخدام القوّة العارية، وبتواطؤ مع قوات الانتداب البريطاني. وهي ارتكبت لتحقيق ذلك الكثير من المجازر والمذابح (بلغت أكثر من 114 مذبحة)، والتي سقط فيها آلاف الضحايا والشهداء من الفلسطينيين المدنيين الأبرياء، وجلّهم من النساء والأطفال والشيوخ. وقد اعتُبرت هذه العملية، في نظر كثير من المراقبين والخبراء الدوليين والمنظمات الدولية، واحدة من أكبر عمليات الطرد الجماعي في التاريخ الحديث، بل واحدة من أكبر عمليات تزوير الحقائق ومحو آثار وحضارة وتاريخ شعب عظيم وبلاد عريقة.

لذا، كان ما اصطُلح على تسميتة (بالنكبة)؛ أي الكارثة التي تعرّضت لها فلسطين وشعبها المسالم، الذي عاش في هذه البلاد من دون أن تعرف العنصرية طريقها إليه. لقد عاش أبناء فلسطين ـ مسلمين، مسيحيين ويهوداً، مواطنين متعاونين متساوين في الحقوق والواجبات، إلى أن نُكبوا (كما وطنهم) بوباء العنصرية الصهيونية البغيضة. وقد حوّلت النكبة أبناء فلسطين من شعب حضاري متسامح إلى أجزاء مبعثرة هنا وهناك.

لكن كل ما جرى لم يمنع الشعب الفلسطيني من السعي لتجميع ما يستطيع من أشلائه، وليقوم بما يستطيع لإسقاط أوهام الحركة الصهيونية وشركائها، في تحقيق ما صرّح به وزير خارجية الولايات المتحدة الأمريكية في ذلك الزمان "جون فوستر دالاس" بقوله: "الشعب الفلسطيني سيندثر تحت أقدام الفيلة.. الكبار يموتون والصغار ينسون"! 

الثورة الفلسطينية المعاصرة

لقد كشفت نتائج عدوان حزيران 1967، والضربة القوية التي وجّهها الكيان الصهيوني (بدعم حيوي وفاعل من الإمبريالية وتآمر من الرجعيين العرب( لنظام عبد الناصر ولمشروعه التحرّري، والذي علّق عليه الفلسطينيون الكثير من الآمال، مدى عجز المشروع القومي العربي عن مواجهة التحدّيات، الأمر الذي أدّى فيما أدّى إليه إلى تبلور توجّه فلسطيني جاد وقوي للاعتماد على الذات، والعمل لبلورة أطر مناسبة للمقاومة الشعبية والعمل الفدائي بهدف تحرير فلسطين. 

تطوّرت هذه المنظمات الفدائية بمرور الزمن، وهي تمكنت بقيادة حركة "فتح" من الوصول إلى قيادة م.ت. ف. ليصبح خط الكفاح المسلّح، وحرب التحرير الشعبية، الخطّ المركزي في ساحة الصراع مع المشروع الصهيوني العنصري. 

كانت معركة الكرامة في آذار 1968 درّة تلك المرحلة. وجاءت بعد ذلك مرحلة العمل الفدائي من لبنان، والتي كان لنتائجها المريرة أثر كبير على مسيرة الثورة الفلسطينية. فبسبب طبيعة بُنيتها وتركيبتها، عجزت الفصائل الفلسطينية عن استخلاص العبر والدروس، وبما يمكّنها من تجديد صيغها وأساليب عملها لمواجهة التحدّيات والعقبات؛ وكان أن بدأت أبرز هذه الفصائل بالمساومة على الحقوق الثابته للشعب الفلسطيني، مع توهّم قادتها بإمكانية تحقيق تسوية مع العدو تمكنهم من إقامة دولة فلسطينية فوق الأراضي التي احتلّت عام 67، عبر التنازل عن الأراضي التي اغتصبها الصهاينة عام 1948.

في السياق، كان عام 1974 عاماً مفصلياً في مسار القضية الفلسطينية، حين اعترفت القمّة العربية (دورة الرباط)بمنظمة التحرير الفلسطينية كممثل شرعي وحيد للشعب الفلسطيني. وأقرّت الدورة الثانية عشر للمجلس الوطني برنامج (النقاط العشر) السيّئ الصيت، والذي بموجبه لم تعد المنظمة ترفض القرار 242 ؛ لتكرّ بعد ذلك مسبحة التنازلات الفلسطينية أمام الكيان الإسرائيلي.

وبدأ وهم الدولة المستقلة على حدود الرابع من حزيران يسيطر على عقول وأفئدة القيادات الفلسطينية. ورغم كلّ ما يمكن أن يُحسب لتلك المرحلة أو عليها، إلاّ أنها أنجزت شيئاً رئيسياً في مسيرة الصراع مع المشروع الصهيوني : " صيانة الهوية الفلسطينية من التبديد وتأسيس الكيان التنظيمي الجامع للفلسطينيين، منظمة التحرير الفلسطينية ".  

مرحلة الإجتياح الصهيوني للبنان وما بعده : 

لقد كشف اجتياح الكيان الصهيوني لجنوب لبنان وصولاً إلى العاصمة بيروت (رغم البطولات التي أظهرها الكثير من المقاتلين والكوادر الفلسطينية واللبنانية)، في حزيران 1982، مدى هشاشة وعجز بُنية الثورة الفلسطينية. لكن رغم ذلك، فإن محصّلة نتائج الاجتياح الصهيوني كانت معاكسة تماماً لأهدافها، حيث بدأت سريعاً التحرّكات الشعبية الرافضة للاحتلال مترافقة مع عمليات المقاومة المسلّحة، فسقط اتفاق 17 أيار (1983)، بموازاة عمليات المقاومة الإسلامية التي لاحقت جيش العدو في بيروت والجبل والبقاع الغربي والجنوب، وصولاً إلى إجباره على الهروب إلى داخل ما كان يُطلق عليه " الشريط الحدودي" .

 وعلى أرض فلسطين المحتلة، فجّر الشعب الفلسطيني حلقة جديدة من حلقات مقاومته المديدة، فكانت الانتفاضة الشعبية الكبرى (1987-1993)، والتي أعادت للقضية الفلسطينية وهجها، وفتحت آفاقاً واسعة أمام هذا الشعب المعطاء. وانتقل الصراع مع العدو من صراع عبر الحدود إلى صراع داخل حدود فلسطين الانتدابية، وإن كان وهج أو فعل الانتفاضة قد تركّز في الضفة الغربية وقطاع غزة والقدس الشرقية، إلاّ أنه كان يمتد في بعض الأحيان، وعبر العمليات الإستشهادية، إلى داخل فلسطين المحتلة منذ العام 1948. أي أن فعل الانتفاضة نقل الصراع مع العدو الصهيوني إلى "تحت الشبّاك"، وفق التعبير الذي استخدمه العديد من المحلّلين الصهاينة. 

لقد فعلت المقاومة أو الانتفاضة فعلها في أكثر من اتجاه. فهي هددت مستقبل الكيان الصهيوني، وأكدت فشله في إخمادها، وتوصل قادة الكيان، كما قادة الإدارة الأمريكية، إلى استحالة القضاء على الانتفاضة عسكرياً أو ميدانياً، وأن لا خيار أمامهم إلاّ خيار الاحتواء السياسي. وللأسف، فقد وجد هذا الخيار الخديعة قبولاً لدى القيادة الفلسطينية، التي توهمت أن الوقت قد حان لتحقيق برنامجها السياسي (برنامج النقاط العشر)، وانتزاع "دولة فلسطينية"؛ وهي بدأت تردّد معزوفة "زرعنا ويجب أن نحصد"؛ مع الترويج أنها قادرة على بناء دولة على مساحة 20% من أرض فلسطين إن هي تنازلت عن 80% من تلك الأرض، واعترفت بشرعية الكيان الصهيوني فوقها. 

وفي النهاية، كانت المحصّلة "إتفاق أوسلو"  (أيلول 1993) الذي صمِّم (كما أثبتت الوقائع) ليحاصَر الفلسطينيون داخل كانتونات مقطّعة الأوصال، يمكن أن يُطلَق عليها في يوم من الأيام "دولة"، لكن بلا سيادة حقيقية ولا قدرة على الحياة من دون مساعدات الغرب (الحامي والراعي للكيان الصهيوني)، مع الارتباط الوظيفي بالاقتصاد والبنية التحتية الصهيونية؛ ليشكّل ذلك الكيان الفلسطيني المسخ النموذج العملي لما كان يُخطّط له تحت مسمّى "الشرق الأوسط الجديد"! أيّ أن يشكّل الفلسطينيون (والعرب لاحقاً) اليد العاملة الرخيصة التي تُستخدم لتأمين رفاه المستوطنين الصهاينة فحسب! 

لكن الانتصار المظفّر الذي حقّقته المقاومة الإسلامية في لبنان، وتمكّنها من كنْس الجيش الصهيوني وعملائه عن جلّ جنوب لبنان وبقاعه الغربي، قلب السحر على الساحر، وأكّد للجميع، وفي مقدّمتهم الشعب الفلسطيني الرازح تحت نير الاحتلال، أن هناك خيارات أخرى غير خيار استمرار المفاوضات العقيمة. 

وجاءت قمّة كامب ديفيد الثانية عام 2000، ونتيجة للمداولات والأفكار التي طُرحت فيها، لتؤكد لأبي عمّار، أن الكيان الصهيوني لن يعطي شيئاً لمصلحة الفلسطينيين، وأن الولايات المتحدة هي الخصم لا الحكم، وأن أمن الكيان الصهيوني وزيادة قوّته فوق كلّ اعتبار. 

 إنتفاضة الأقصى، والانسحاب الإسرائيلي من غزّة 

كلّ ما سبق أدّى إلى اختمار الحالة الشعبية الثورية، فانفجرت "إنتفاضة الأقصى"، كحلقة متجدّدة من حلقات المقاومة الفلسطينية، وقد تصاعدت الانتفاضة، والتي فشلت كافة الوسائل العسكرية والأمنية في وقفها أو الحدّ من فعاليتها؛ بل هي ازدادت اتساعاً وشمولية. ومع ازدياد إجرام العدوّ ووحشيته، أعلنت الشعوب العربية والإسلامية وقوفها إلى جانب الانتفاضة من خلال مظاهراتها المليونية التي خرجت في شوارع العواصم والمدن الرئيسية في سورية واليمن والمغرب وتونس وطهران...

تقدّمت الانتفاضة، وحقّقت خطوة متميّزة إلى الأمام، من خلال تزايد العمليات العسكرية، وبدء العمليات الاستشهادية، ليس رداً على الإجرام الصهيوني فحسب، بل لإدراك الشعب الفلسطيني أن لا شيء يمكن أن يُجبر هذا العدو على التراجع إلاّ المقاومة والخسائر البشرية والمادية التي تصيبه.

إن فشل كافة الوسائل العسكرية والأمنية أوصل قادة الكيان إلى خطّة القيام بخطوات أحادية الجانب. 

لقد نجح خيار المقاومة مرّة جديدة، وكان النجاح هذه المرّة فوق أرض فلسطين، حين أُجبِر العدو على تفكيك مستوطنات (المستوطنات التي زُرعت في قلب قطاع غزة، إضافة إلى 4 مستوطنات في شمال الضفة الغربية (غنيم، كديم، حسوفي، سانور). لكن، ما لا يجب أن يغيب عن أذهاننا البتّة هو أن العدو الصهيوني لم ينسحب انسحاباً نهائياً عن أيّ جزء من أجزاء فلسطين، حيث لم تتجاوز الخطوة التي أُجبِر عليها من أن تكون مجرّد انكفاءٍ عن مدن وبلدات تتميّز بكثافة سكانية عالية، ليحرم المقاومين من الاستفادة من نقطة ضعف أيّ جيش محتل، وهي الانتشار وسط شعبٍ معادٍ؛ فقادة المشروع الصهيوني لا زالوا ينطلقون من أن هناك دولة واحدة فوق أرض فلسطين الانتدابية هي دولة "إسرائيل"). وهم بعد أن فشلوا في اقتلاع جميع الفلسطينيين من على أرض تلك "الدولة"، وعجزوا عن وقف مقاومتهم، وجدوا أنفسهم مضطرّين في هذه المرحلة للتعامل مع جزء من الفلسطينيين المقيمين في مدن وبلدات قطاع غزة والضفة الغربية كأقليّة تقيم فوق "أرض الدولة". وللتخلّص من المتاعب الأمنية والديموغرافية ومن أعباء السيطرة المباشرة عليهم، تبلور القرار الصهيوني بإعطاء الفلسطينيين المقيمين هناك حقوق "أقليّة" تدير شؤونها المدنية بشكل موسّع (داخل) دولة "إسرائيل"، لا على أرض خاصة بهم!

وفي المقابل، فقد تبلور لدى المخلصين من أبناء فلسطين مجموعة من الدروس والعبر، لعلّ أهمها:

أولاً: إن الكيان الصهيوني الذي أُسّس كثكنة عسكرية متقدّمة للاستكبار العالمي، قد استطاع الانتصار على العرب في كافة الحروب الكلاسيكية، حتى حرب تشرين 1973، والتي أظهر فيها الجندي المصري والسوري القدرة على صنع الانتصار، تم إجهاض نتائجها والالتفاف عليها. لكن هذا الكيان هُزم في معاركه مع المقاومة، إبتداء من معركة الكرامة عام 1968، وصولاً إلى هزيمته النكراء في لبنان (2000 و2006) إلى فشله المتكرّر في حروبه الوحشية على غزة .

ثانياً : إن تجربة السنوات الطويلة من المفاوضات العبثية مع العدو الصهيوني، لم تقدّم للشعب الفلسطيني أيّة نتائج إيجابية. 

ثالثاً: الصراع مع العدو الصهيوني هو صراع حضاري تاريخي شامل، تجتمع في ثناياه كافة الأبعاد العسكرية، السياسية، الاقتصادية، الدينية، القيمية، الثقافية، والنفسية.

رابعاً : إن تجزئة الشعب الفلسطيني، أو تجزئة قضاياه، لن تؤدّي إلى حلّ أيٍّ منها، بل ستؤدّي إلى تصفيتها الواحدة تلو الأخرى لمصلحة المشروع الصهيوني .

 خامساً: إن الوحدة الوطنية الفلسطينية مسألة أساسية وحاسمة في الصراع مع المشروع الصهيوني، لكنها  غير ممكنة إلاّ على أرضيّة برنامج المقاومة: "وهم التسوية يبدّد، ونهج المقاومة يوحّد".

سادساً: ضرورة تعزيز العمق العربي والإسلامي للمقاومة الفلسطينية لتمكين الشعب من الصمود والانتصار. فلولا الالتفاف السوري والإيراني حول المقاومة في لبنان، والموقف العملي الحازم إلى جانبها، لما استطاعت المقاومة بقيادة "حزب الله" تحقيق الانتصار على الكيان.

ثمانية وستون عاماً مرّت على نكبة الاقتلاع والتشرّد ولا زال شعب فلسطين يقاوم، ويجدد مسيرة كفاحه وجهاده. ثمانية وستون عاماً ولم يستقرّ الكيان الصهيوني حتى اللحظة، بل تتكشف مع الوقت طبيعته العنصرية العدوانية، ويزداد القلق الوجودي في أوساط المستجلبين من اليهود وسعيهم لمغادرة فلسطين والعودة إلى أوطانهم وأوطان أجدادهم في أربع أرجاء الأرض. 

لقد أدرك شباب فلسطين أن البحث عن "تسوية عادلة" مع العدو الصهيوني، لا يعدو أن يكون سراباً، وأن قدر شعب فلسطين وطريقه الإجباري هو: إدامة المقاومة وتطويرها، لتعيد الصراع مع المشروع الصهيوني إلى حقيقته كصراع وجود لا يمكن التعايش بين طرفيه، لأن الصهاينة لا يفهمون من "التسوية" إلاّ ما يساعدهم على تحقيق ما عجزوا عن تحقيقه في حروبهم المتتالية، وليقطفوا نتاج إجرامهم وإرهابهم ومجازرهم لإخضاع الآخر لاستكبارهم وهيمنتهم.

ومؤخراً، فجّر شباب فلسطين إنتفاضتهم المتجدّدة "إنتفاضة الدهس والطعن"، للدفاع عن المسجد الأقصى والقدس وكلّ فلسطيني، والتي لا زالت مستمرّة بشكل لولبي يرتفع وينخفض، ولكنه متواصل بقوّة، كحلقة من حلقات المقاومة التي باتت قدر شعبنا وخياره الوحيد. 

وليد محمد علي - باحث فلسطيني


2016-05-13 11:04:13 | 1739 قراءة

التعليقات

الإسم
البريد الإلكتروني
عنوان التعليق
التعليق
رمز التأكيد
مركز باحث للدراسات الفلسطينية والاستراتيجية