التصنيفات » مقالات سياسية

بين غزّة الشاهدة… وغزّة الشهيدة

بين غزّة الشاهدة… وغزّة الشهيدة

بقلم: أ. د. محسن محمّد صالح، مدير عام مركز الزيتونة للدراسات والاستشارات

أيَّاً تكن النتيجة... وأيَّاً تكن غزة شاهدة أم شهيدة... وأيَّاً يكن التقييم واختلاف زوايا النظر، فإنّ "طوفان الأقصى" كان حَدَثاً مفصلياً في تاريخ قضية فلسطين وفي تاريخ الكيان الصهيوني... ونشأت عنه وستنشأ استحقاقات كبرى.
غزة الشاهدة: 
لقد أَلقَمَتنا غزة الحُجّة... الجميع... شعوباً ودولاً... أفراداً وجماعات... فلسطين والعالم العربي والعالم الإسلامي وأحرار العالم... بإمكانيّة هزيمة الكيان الصهيوني وهَزّ أركانه، ودَقّت مسماراً في نعش الاحتلال.
أثبَتت غزة إمكانية إسقاط النظرية الأمنيّة التي قام على أساسها الكيان الإسرائيلي على مدى 75 عاماً. وتَوافق قادة الكيان على أن المعركة التي يخوضونها هي معركة "وجودية"؛ بل عَدَّها نتنياهو "معركة الاستقلال الثانية"، فخاضوا معركة وحشية دموية، بتحالف وغطاء عالمي، ليَستردّوا صورة الردع التي فقَدوها، وليستعيدوا صورة شرطي المنطقة، والعصا الغليظة للامبريالية الغربية؛ فكانت النتيجة أن غزة أقامت الشهادة على الطبيعة الحقيقية البشعة للاحتلال، التي حاول إخفاءها عشرات السنوات، وفضَحته في كلّ مكان في العالم، وأسقطت سرديّته التي كان يتغنّى بها في "حق الدفاع عن النفس"، و"واحة الديموقراطية"، و"بكائيّة الهولوكوست" وابتزازيّة "العداء للسامية"؛ وحوّلته إلى كيان منبوذ عالمياً، وجَرَّته إلى محكمة العدل الدولية ومحكمة الجنايات الدولية، وقطَعت شوطاً كبيراً في قطع "حَبْل الناس" عنه.
أعَدّت غزة "إنسانها"، وقَدّمت نموذج الإنسان المؤمن العزيز المُتَوكّل الصابر المُحْتسب، وأقامت الحُجّة والشهادة بإمكانية نجاح النموذج الإسلامي في "صناعة الإنسان" وإعداد جيل التغيير والتحرير، وقَدّمت آلاف النماذج، رجالاً ونساء وأطفالاً وشيوخاً، الذين كَرّروا نماذج الصحابة والتابعين والفاتحين.
فإذا كان الكيان الإسرائيلي قد احتَلّ قطاع غزة في يوم واحد، في العدوان الثلاثي سنة 1956، وفي يوم واحد في حزيران 1967، بينما كان يواجه أقوى وأكبر دولة عربية، فقد عجز عن احتلال غزة وتركيعها في خمس حروب. وامتدّت الجولة الأخيرة 470 يوماً، حتى فَرَضت المقاومة شروطها؛ وما زالت المقاومة تقبض على الجمر حتى بعد اليوم الـ 600، وفي أجواء نَقْضِ الصهاينة لاتفاق الهدنة، والمجازر والحصار والتجويع والخذلان؛ دون أن يتمكّن الاحتلال من تطويعها؛ بينما يعترف قادَتُه أن القضاء على "حماس" قد يأخذ ليس شهوراً وإنما سنوات. وبالتالي، أقامت غزة الحُجّة والشهادة على الأنظمة العربية والإسلامية وجيوشها... وكَشَفت أن بقاء الكيان واحتلاله وطغيانه ليس سَبَبه الأساس هو قوّته، وإنما عجز وضعف وخذلان هذه الأنظمة، بينما تَتَجبّر على شعوبها.
أقامت غزة الشهادة على الحركات والاتجاهات الإسلامية والقومية والوطنية، والقوى الشعبية في الأمّة، وأظهَرت البَون الشاسع والفجوة الكبيرة بين واقع الشعوب وقوى التغيير والنهضة، وبين ما تحتاجه للقيام بمسؤولياتها، واستنفاذ وسعها واستطاعتها، والانتقال إلى فقه ذات الشوكة، وتحقيق مفهوم "الأمّة".
وفي الوقت نفسه، أقامت غزة الحُجّة والشهادة على بؤس مَنظومة القِيم الغربية، ومعاييرها المُزدوَجة؛ وكشفت ذلك العالم المُتواطئ أو العاجز، أو البطيء المُتَلكِّئ، عندما يتعلّق الأمر بالتعامل مع بيئتنا، أو في مواجهة المشروع الصهيوني، الذي فَرَض نفسه فوق القانون، وفوق المحاسبة، وفوق المنظومة الدولية، وتابع التصرّف بفوقيّة وعنجهيّة.
أما وقد حَقَّقت غزة شهودها الحضاري، والتغييري، والثوري، والإنساني، فقد أصبحت المسؤولية ثقيلة على قوى "الإسلام السياسي" وقوى الإصلاح والتغيير، في أن تقوم بمُراجعاتها الذاتية، وتُعيد حساباتها، وتُعيد تَمَوضعها التنظيمي والدعوي، وتَبني مشروعها النهضوي بما يَتناسب مع الارتقاء إلى مستوى نموذج غزة، وبما يَتناسب مع مشروع التغيير والتحرير.

غزة الشهيدة:
معركة "طوفان الأقصى" جولة في حرب طويلة؛ فكما أنّ لها "شهودها"، فلها أيضاً "شهداءها". فالكيان الصهيوني الذي جُنّ جنونه بعد أن اهتزّت أركانه، حوَّل المعركة إلى معركة "صفريّة"، ودخَل في حرب إبادة للشعب واستئصال للمقاومة، وإغلاق لمَلَفّ القضية الفلسطينية.
غزة قامت بأضعاف ما عليها، وبما يكاد يتجاوز طاقة البشر في التضحية والصبر والصمود، ووقَفت سدّاً منيعاً في مواجهة الضم والتهجير، وقَدَّمت أكثر من 177 ألف شهيد وجريح، ودَمّر الاحتلال أكثر من 90% من منازلها تدميراً كلّياً أو جزئياً؛ كما دَمّر المستشفيات والمدارس والجامعات والمساجد والكنائس والآبار والمَزروعات والبنى التحتيّة؛ وفَرَض حرباً قذرة من الحصار والتجويع، وقتَل بشكل متعمّد الأطبّاء والصحفيين وطواقم الدفاع المدني والإسعاف والأجهزة الإدارية المدنية، وحاولَ زرع الفوضى والفتن الداخلية، وشجّع عصابات النهب والسرقة.
وقد وسّع الكيان الصهيوني عدوانه، ورأى أنّ نظريّته الأمنيّة يجب أن تُغَطّي، وبشكل مكشوف، البيئة الاستراتيجية العربية المُحيطة. وتَبَنّى رؤية تهجير الفلسطينيين، وهَدّد الأمن القومي العربي، خصوصاً لدول مُطَبِّعة مُجاورة. غير أنّ أنظمتنا العربية البائسة، بدَل أن تدعم غزة ومُقاومتها، باعتبارها حائط الصدّ وخط الدفاع الأوّل عن أمنها القومي، شاركت بشكل مباشر وغير مباشر في الحصار، ووَفّرت خطوط الإمداد والغذاء للعدو الصهيوني، وحَرَّضت في الخفاء على المقاومة وسحقها، ومارست في إعلامها، ومن خلال أدواتها، تشويه المقاومة، ومَنعت شعوبها عن القيام بدورها. وألقَت بلادنا العربية ما قيمته 150 مليار دولار فقط من بقايا الطعام المَهدور في سلال القمامة سنة 2024 (بحسب التقارير العالمية)؛ لكنها تجاهلت أو عجزت عن توفير ما يَسدُّ رمَق غزة.
ماذا لو (لا سَمح الله) لم تكسب غزة هذه الجولة؟! وفرَض العدو شروطه، ولو مؤقّتاً؟!
ماذا يظن العرب والمسلمون دولاً وشعوباً؟! هل سيَتوقّف العدو وينكفئ، ويتحوّل إلى "حمامة سلام"، ويتركهم وشأنهم؟! أم أن إسقاط حاجز غزة سيَعني تَغوُّل المشروع الصهيوني في المنطقة، وتوسيع دائرة هيمنته، واستخدام عصاه الغليظة (بيَده أو عبر وكلائه) ليَفرض رؤيته ومَعاييره وقِيَمَه، وليَنزَع عن البيئة الاستراتيجية المُحيطة أبرز عناصر سيادتها وكرامتها الوطنية.
سلطة رام الله، المُنشغِلة في مُطاردة المقاومة، وإسقاط نموذج غزة، هي نفسها في بؤرة الاستهداف والإلغاء؛ وخطّة "الحسم" الإسرائيلية تستهدف تفكيكها وتحويلها إلى كانتونات وروابط قرى.
الأنظمة العربية سيُطلَب منها أن "ترقص على الأنغام" الإسرائيلية، وأن تَستجيب للمعايير الإسرائيلية للتطبيع؛ وأن تُكَرّس حالة التخلّف والتشرذم والفساد السياسي والديكتاتورية.
وستُفْرَض المعركة القِيميّة والأخلاقيّة فَرْضاً على الناس. وبعد أن أسكَت "طوفان الأقصى" دعاة الشذوذ الجنسي والانفلات الاجتماعي والأُسري، وإنفاذ اتفاقية "سيداو"، واستهداف المرأة... وغيرها؛ سيتم إطلاقهم من جديد.
أمّا أولئك "الوطنيّون" و"المُتَدَيّنون" و"القُطْريّون" و"أصحاب العقول المُستريحة"، والذين يؤثِرون السلامة لأنفسهم، أو يَرون أنّ المعركة لا تعنيهم؛ فقد يَجدون المشروع الصهيوني ووكلاءه يُلاحقونهم حتى في "غُرف نَومهم"... ولن يَسْلَموا!! لأن الاحتلال الإسرائيلي (بعد أن رأى وشهد نموذج غزة) أصبح مَسكوناً ومَجنوناً بضرب وسحق أي نموذج تحرّري ونهضوي، وأي نموذج تَدَيّنٍ أو إصلاح، أو أي حالة إسلامية أو وطنية يُمكن أن تتطوّر بذورها لاحقاً لتُشَكّل خطَراً مُحتملاً على كيانه.
وبالتالي، سيضطر كلّ من لديه إيمان أو كرامة أو وطنية أن يدخل "المعركة"، أحَبّ أم كَره، بعد أن دخلت نارَها في عُقر داره، وبعد أن أصبحت تمسّ دينه وعِرضه وهويّته وحرّيته وسيادته على أرضه.
***
سواء كانت غزة شاهدة أم شهيدة، فقد فَرَضت أجندتها، وفَرَضت استحقاقات  كبرى أمام الأمّة، وأمام مشاريع الإصلاح والنهوض والتغيير والتحرير.
لقد وَسّع الصهاينة دائرة المعركة والهيمنة. وقد يَنْتَشون ببعض المكاسب على المدى القصير هنا أو هناك، ولكنّهم سيَدفعون بتوسيعهم دائرة الصراع والهيمنة إلى توسيع دائرة التحدّي والمواجهة ضدّهم، بما يعني عملياً تسريع إيجاد بيئة "ربيع عربي جديد"، وتسريع خطوات مشروع التحرير وإنهاء الاحتلال.

المصدر: موقع عربي 21، 2025/5/30.

2025-06-02 12:08:36 | 71 قراءة

مركز باحث للدراسات الفلسطينية والاستراتيجية