الندوة السياسية الدوريّة
"إسرائيل" وقلَق المشروعيّة الدوليّة: تحوّلات المزاج العام الغربي (الرسمي والشعبي)
(28/05/2025)
نَظّم مركز باحث للدراسات الفلسطينية والاستراتيجية، ندوة سياسية بعنوان «إسرائيل وقلَق المشروعية الدولية: تحوّلات المزاج العام الغربي (الرسمي والشعبي)»، بتاريخ 28/05/2025، والتي حاضرت فيها الدكتورة أحلام بيضون (بروفسور في القانون الدولي) وقد حضر الندوة إلى جانب رئيس المركز الدكتور يوسف نصرالله:
- ممثل سعادة السفير الإيراني في بيروت السيد بهنام خسروي.
- الدكتور حسن قبلان: عضو المكتب السياسي في حركة أمل.
- الأستاذ وسام محفوظ: مسؤول العلاقات العربية (حركة الجهاد).
- الدكتور عماد رزق: مدير الاستشارية للدراسات.
- الدكتور سماح مهدي: ناموس المجلس الأعلى في الحزب السوري القومي الاجتماعي.
- الأستاذ هيثم أبو الغزلان: مسؤول الإعلام في الجهاد الإسلامي.
- الدكتورة أم أشرف: مسؤولة العلاقات العامة للهيئات النسائبة (حركة الجهاد).
- الأستاذ إياد عبدالعال (منسق مؤتمر فلسطين الخارج 14 مليون).
- الأستاذ غازي اسكندر (اتحاد روابط القرى الفلسطينية).
- الدكتور أحمد علوان: رئيس حزب الوفاء اللبناني.
- الدكتور نبيل سرور: باحث وأستاذ جامعي.
- الدكتور علي حمية: باحث ومحلّل سياسي.
- الدكتور حمزة البشتاوي، إعلامي فلسطيني.
- الدكتور مصطفى اللداوي: كاتب.
إضافة إلى عدد من الباحثين والمختصّين، ونخبة من الشخصيات السياسية والفكرية والأكاديمية والإعلامية.
استَهلّ الدكتور يوسف نصرالله الندوة بالترحيب بالمَدعوّين وشُكرهم على تلبية الدعوة. وشدد الدكتور على أنه قد قُيّض لـ(طوفان الأقصى) وما أعقبه من تطورات لاحقة:
أن يعيد الاعتبار إلى مكانة القضية الفلسطينية على أجندة الاهتمام العالمي.
وأن يشغل دوراً مؤثراً في استنهاض الشعوب وتحشيدها، وتحريضها، وتعتبئتها، وتثويرها، والارتقاء بوعيها ما أفضى إلى تحوّلات مهمة ومشهودة في المزاج العام الغربي تجاه القضية الفلسطينية تحولات كان لها فضيلة إعادة تزخيم مشروع التحرر الوطني الفلسطيني، والإبقاء على القضية الفلسطينية قضية حية، وفاعلة.
وقيض له بالموازاة أن يشغل دوراً مؤثراً في إحراج الغرب الأوروبي الرسمي، بعد أن تكشفت شراكته المباشرة في الحرب، ورعايته للمذبحة الجماعية، عن مدى سقوطه الأخلاقي والقيمي والإنساني... وعن صدوع في روايته المتصلة بالحرب وبالصراع.
بدا اليوم أن ثمة انزياحاً ملحوظاً في مواقف هذه الأنظمة؛ بين من يتحدث عن دراسة فرض عقوبات على إسرائيل، وإعادة النظر في بعض الاتفاقات الثنائية، والتلويح بإلغاء عقود تجارية وتسليحية. وهذا بلا شك تطور مهم، لا سيما إذا ما قيس بالموقف الرسمي العربي المتواطئ والمتخاذل والذي يبدو أقرب إلى الشراكة في الجريمة.
لكن مع ذلك ثمة أسئلة إشكالية تتصل بـجدية ومصداقية هذه المواقف الصادرة عن غير دولة أوروبية، لناحية أنها لم تتجاوز بعد حدود الإدانة الكلامية، إلى التأثير على أطر التعاون المختلفة مع الكيان.
- هل تخرج هذه الخطوة الأوروبية عن كونها محاولة لتحسين الصورة أمام الرأي العام، في ظل تصاعد الضغوط الشعبية، وتصاعد المطالبات بوقف الدعم غير المشروط لإسرائيل.
- هل تخرج عن كونها مرتبطة بحسابات سياسية داخلية، أو بإملاءات أميركية، وليس بقناعة مستجدة لدى القادة الأوروبيين بضرورة إنهاء الحرب في غزة.
- هل يندرج هذا الانزياح الرسمي الغربي؛ في سياق الموازنة بين الظهور بمظهر المدافع عن القانون الدولي، وبين مواصلة الدعم الفعلي للعدوان.
فيما يأتي النصّ الكامل لمُحاضَرة الدكتورة أحلام بيضون:
إن موضوع المشروعية لكيان الاحتلال الإسرائيلي هو في الحقيقة "كلّ القضية"؛ والمقصود من يكون ومن لا يكون: الكيان المحتل أو الشعب الفلسطيني. فأحد الكيانين يجب أن يكون شرعياً، فيكون الآخر غير شرعي وفق القانون الدولي؛ وهذا هو "أصل الحكاية"، مع كلّ ما يكتنفها من تعقيد، وما نتَج عنها من ويلات وجرائم.
انطلاقاً من هنا، أدرَك المُخطّطون لاحتلال فلسطين، أن العملية ليست بسيطة؛ وبالتالي هم خطّطوا منذ البداية لاحتلال اقتلاعي إحلالي استيطاني؛ أي "أرض بلا شعب لشعب بلا أرض". وهم يعترفون هنا أن الأرض مَسكونة، عكس ما فُهِم؛ وبطبيعة الحال النظام سيكون عنصرياً.
ومن الأفضل عند الكلام عن الاستيطان الصهيوني التلمودي في فلسطين، ألّا نُمَيّز بين الحركة الصهيونية والاستعمار الغربي، وذلك لسببين: الأوّل، أن أعضاء الحركة الصهيونية هم غربيّون أصلاً؛ والثاني، أنه من دون التبنّي والمُساندة الغربية التي حظِي بها المشروع الصهيوني، لما قامت دولة الاحتلال؛ وهي من دون استمرار الدعم الغربي لما استمرّت حتى الآن، في ظلّ مُقاومة الشعب الفلسطيني وطبيعة النظام العنصري الإجرامي القائم على العدوان.
إنّ من أسّس لدولة الاحتلال في فلسطين، ومن سانَدها ودعَمها، كانوا من النخب، عارفين بالقانون، واعين لما يفعلون، ومُدركين أن مشروعهم كي يتحقّق على أرض الواقع، يجب أن يتوفّر له عنصران ماديّان: إقليم جغرافي جاهز لاستقبال المُستقدَمين من بلدانهم الأصليّة؛ وعنصر بشري يشكّل الشعب؛ بالإضافة إلى عنصر معنوي، وهو السيادة التي تنتج عن الاعتراف الدولي بشرعية "الدولة"، بينما القيادة كانت موجودة. ولعلّ ذلك يُعتبَر من نوادر التاريخ، حيث توجد القيادة، قبل وجود الشعب المُفترض أنها تُمثّله.
بالنسبة للعنصر الأوّل، واجَه المُستوطنون حقيقة وجود الشعب الفلسطيني. لذلك كان لا بدّ من إيجاد الوسائل الكفيلة بإفراغ الأرض من مُواطنيها، لاستحالة قبول هؤلاء بالتخلّي عن أرضهم.
بالنسبة للعنصر الثاني، كان أسهل، وأسّس على إغراء المُستوطنين الجُدد وجَذْبهم لترك أوطانهم الأصلية والهجرة إلى فلسطين؛ وتمّ التركيز على العنصر اليهودي، لأسباب لا يتّسع الوقت للتوسّع بها.
أما السيادة القانونية، فرغم تأمينها من خلال قرار التقسيم الصادر عن الأمم المتحدة، ومن خلال الاعتراف الدولي، وقبول دولة المستوطنين في الأمم المتحدة، فهم يُدركون أن كلا القرارَيْن هما غير شرعيين، لأنهما ببساطة يمنحان العضوية لقوّة محتلّة، وأنه لا يحق لدولة الانتداب أو الأمم المتحدة التصرّف بالأرض الفلسطينية بدون قبول شعبها.
انطلاقاً من ذلك، وفي سبيل تأمين المشروعيّة للكيان القائم على استقدام المستوطنين، وزرعهم مكان السكّان الأصليين، بعد تجريد هؤلاء من أملاكهم وحقوقهم وتهجيرهم، اتّبع المحتل سُبُلًا مختلفة. لذلك، فإن قلَق المشروعية، أو قلَق الوجود، قد رافَق المحتلّين منذ تأسيس الكيان الصهيوني (أوّلاً)؛ لكنّه تَفاقم بعد "طوفان الأقصى" في العام 2023، وما نَتَج عنه (ثانياً).
أوّلًا: قَلَق المشروعيّة رافق قيام كيان الاحتلال
تحت هذا العنوان يمكن الكلام عن موضوعين:
1 - عدم المشروعيّة في الأساس.
2 - وسائل تسويق الكيان لمشروعيّته.
1 - عدم المشروعيّة في الأساس:
سنَكتفي بطرح أسئلة ذات بُعد قانوني، كي لا نُطيل أوّلاً، ولأنّ الموضوع أشبِع على مرّ السنين بحثاً، وإن كنّا سنُثير أسئلة جديدة. وبطبيعة الحال، السؤال الأساس المُتَشعّب إلى أسئلة كبيرة يدور حول: من هم الصهاينة الذين خطّطوا لإقامة دولة لليهود في فلسطين؟
-هل هم ساميّون فعلاً، ويتعرّضون للاضطهاد؟
-هل هم مُكَوّن من الشعب الفلسطيني ولهم الحق في تقرير المصير؟
-هل لهم الحق في الاستئثار بالدولة في هذه الحالة الأخيرة؟
-هل كانت الديانة يوماً أساساً أو دليلاً على الأصل أو عنصراً مُبيحاً لقيام دولة؟
-هل التاريخ يُحَدّثنا عن دولة يهودية بمعنى الدولة الحديثة، وقد كانت قائمة بالفعل في فلسطين؟
-هل الصهاينة هم يهود فعلاً؛ وأقصد أنهم يهود مؤمنون بالتوراة؟ أليس أغلبهم مُلحدون؟
-ألا يجب تتبّع أصولهم، علمياً وتاريخياً، والعمل على نقض روايتهم بدَل التماهي مع ادّعاءاتهم؟
-لماذا لم تقم الدولة اليهودية في أرض غير فلسطين؛ وقد كانت هناك بدائل كثيرة؛ كما كانت هناك دولة يهودية أو دولة الخزر، قائمة بالفعل في روسيا، وجرى التعتيم عليها؟
-هل يمكن التمييز بين الحركة الصهيونية وحركات الاستعمار الغربي؟
-لماذا دعَم الغرب الاستيطان اليهودي في فلسطين؟ ولماذا لا زال يدعم الكيان المحتل رغم أنه شكّل دولة مُنتهكة للقوانين والأعراف الدولية؟
-هل احتلال فلسطين هو مسألة فلسطينية فقط، أم هو مسألة عربية وشرقية، بل عالمية؟
-هل يحق للأمم المتحدة أو أيّ قوّة في الأرض أن تُعطي دولة لشعب أجنبي على أرض شعب آخر في نَظَر القانون الدولي؟
وبإيجاز، فإن الإجابة على تلك الأسئلة تُسقِط الشرعية عن "إسرائيل" في فلسطين المحتلة، في نظَر القانون الدولي، ووفق مبادئه، التي تُحَرّم العدوان، وتُكَرّس حق تقرير المصير للشعوب وفق شروط محدّدة، أهمّها أن يكون الشعب مالكاً للإقليم الجغرافي الذي يُطالب بتقرير المصير فوق ثراه، مُقيماً عليه بدون انقطاع، أو مُهَجّراً منه بالقوّة، وله تاريخ واضح وروابط مُثبَتة، ولا يزال مُتَشبّثاً بأرضه، ويُقاوم للحفاظ عليها أو استعادتها. كلّ ذلك ينطبق على الشعب الفلسطيني، وليس على المُستوطنين الذين هم شتات استُقدِموا من أوطان مختلفة، ويُشَكّلون عناصر غريبة عن الأرض. فماذا فعل الصهاينة من أجل تثبيت مشروعيّتهم والحفاظ على وجودهم؟
2 - وسائل تسويق الكيان لمشروعيّته
يَعرف قادة المُستعمرين أن الاحتلال لفلسطين لا يُتيح إقامة دولة للمحتل؛ وإقامتها بالقوّة يجعلها قائمة بالفعل وليس بالقانون. ويَعرف المستوطنون أنهم جُلِبوا من أوطانهم الأصليّة، وأن لفلسطين أصحاب يعيشون فيها دون انقطاع، ولهم تاريخ وروابط متينة بتلك الأرض، وصكوكهم بأياديهم، ولا زالوا يحملون مفاتيح بيوتهم.
إن إدراك الصهاينة الأوائل، ثم زعماء "إسرائيل"، أن دَولتهم غير شرعيّة في الأساس، دفَعهم لكي يلجؤوا إلى كلّ ما توفّر لديهم من وسائل للدفاع عن واقعهم الفعلي، الذي يُمَكّنهم من ترسيخ احتلالهم لفلسطين. ويمكن أن نُمَيّز بين جهودهم القانونية وجهودهم الفعلية بهذا الخصوص:
أ- أما الجهود القانونية، فتَتمثّل في:
- الادّعاء بأن فلسطين تعود لليهود. وقد استندوا إلى ادّعاءات وأساطير تعود إلى ما قبل التاريخ، وأسموا حركتهم الاستعمارية صهيونية، نسبة إلى جبل صهيون. والمُفارقة أن هناك أكثر من جبل صهيون، إذ يوجد أيضاً واحد في اليمن وآخر في سورية. وحسب الباحثين في الموضوع الجيو-تاريخي، صهيون اسم أطلَقه اليبوسيّون، وهم كنعانيّون، على تلّة تقع حالياً داخل حدود القسم التابع لدولة فلسطين، ولا علاقة لليهود بها. وَوفقَ ما أورده المُختصّون في الحركة الصهيونية، فقد حاول بُناتها أن يُقيموا رابطاً قومياً سياسياً مع الأرض الفلسطينية، فتبنّوا تلك التسمية.
- عمل الصهاينة على التركيز على ما عُرِفَ تاريخياً "يهودا والسامرة"، أي الضفة الغربية. والمُفارقة أن الضفة الغربية أصبحت من حصّة الفلسطينيين حسب قرار التقسيم أيضاً، وذلك بسبب قلّة وجود العنصر اليهودي فيها؛ عِلماً أن اليهودي الفلسطيني بالأصل لا يُعتبَر مستوطناً.
- عمَد المسؤولون الصهاينة إلى إقرار مجموعة كبيرة من القوانين الداخلية، من شأنها أن تسمح لهم بوضع اليد على الأراضي الفلسطينية؛ وقَصدهم شرعنة الاستيلاء عليها.
- الاعتماد على قرار التقسيم ووعد بلفور، رغم عدم شرعيّتهما كبداية، ثم تجاوزهما فيما بعد في سبيل إقامة إسرائيل الكبرى بين البحر والنهر.
- لعبوا على الأمم المتحدة لاكتساب عضويّتها، ثم تملّصوا من التزاماتهم، خاصة فيما يتعلّق بالقرارين 194 و181.
- رغم الشرعنة الدولية، فقد بَقِي هاجسهم في انتزاع اعتراف من أهل البلاد بالمعنى الضيّق، أي فلسطين، وبالمعنى الواسع أي البلاد العربية. كان ذلك شُغل الصهاينة الشاغل؛ فكانت اتفاقيّات السلام واتفاقيّات التطبيع، أو ما عُرِفَ بالاتفاقيات الإبراهيمية، ورقة الخلاص الأخيرة بالنسبة للدولة الصهيونية، وتنتظر الاستكمال فقط؛ وبذلك تُهيمن على البلاد العربية بين البحر والنهر ببطاقات اقتصادية وتكنولوجية وإعلامية ودينية، وغير ذلك.
- سَوّقوا عدوانهم وجرائمهم على أنها دفاع عن النفس، إيحاءً بأنهم السكّان الأصليّون لفلسطين، بينما أطلَقوا على المُقاومين تسمية المُخَرّبين أو الإرهابيين، ليُرَسّخوا في أذهان مَن لا يَعرف حقيقة الوضع، بأنهم ضحيّة، وأنهم في دولتهم الصغيرة "إسرائيل"، مُحاطون بالأعداء، الذين يريدون القضاء عليهم.
-جَعَل نجاحهم في تسويق أكاذيبهم، الفلسطينيين والعرب في موقع الدفاع عن النفس؛ فهم يُريدون أن يُبعِدوا عن أنفسهم تهمة القضاء على "إسرائيل"، تماماً كما جَعَل نجاحهم في تسويق مظلوميّة الاضطهاد، الغرب يُدافع عن نفسه ضدّ اتّهامه بمُعاداة الساميّة، عند أي انتقاد لما تَرتكبه "إسرائيل" أو امتداداتها في العالم، من جرائم وانتهاك للأعراف والشرائع الدولية.
ب- في الشقّ العملي:
لجأ المحتل الصهيوني إلى:
- استعمال القوّة، وارتكاب المجازر والتهجير المُمَنهج، حتى تَمَكّن الذعر من نفوس الأطفال قبل الكبار، ليس في فلسطين فقط، بل أيضاً في البلدان المُجاورة، كجنوب لبنان. رافَق ذلك الأجيال، لتأتي حرب 1967 وتزيد الإحباط والانهزام النفسي؛ ولم تستقرّ الحال تماماً مع حرب 1973. لكن رغم العدد الهائل من الشهداء، فقد ارتاحت الشعوب لحركات المقاومة، كدليل على أنه "لا يضيع حق وراءه مقاوم". لكن للأسف، جرى تطويق تلك الحركات باتفاقات "السلام" أو الاستسلام، بدءاً من العام 1979.
- رافَق استعمال القوّة اللجوء إلى وسائل سياسية ومالية وإعلامية واستخباراتية وتكنولوجية ونفسية وثقافية، من قِبَل العدو، بشكلٍ فاق التصوّر؛ ساعَده في ذلك تغلغله في المجتمعات الغربية وغير الغربية، خاصة على مستوى الأنظمة والحكومات، وتمكّنه من التأثير من خلال الشركات العالمية الكبرى، التي يُسيطر عليها بقدرات مالية وإعلامية واحتيالية كبيرة.
- اعتمد المُستعمرون مشروع تهويد مُمَنهج، فأحيوا العبرية وكانت بائدة، وأطلَقوا على المدن والقرى أسماء عبرية، واستَحضروا أحداثاً وأحكاماً وقِيَماً نَسبوها إلى الكتب الدينية؛ واعتمدوا كتاب التلمود بنصوصه الإجرامية الغريبة، ونسبوا إلى أنفسهم تراثاً وثقافة تعود إلى الفلسطينيين أو المَشارقة. وتعِبوا وهم يبحثون عن آثار تؤكّد ادّعاءاتهم في فلسطين، لكن ذهبت جهودهم هباء.
كان هدفهم من الأساس "أرض بلا شعب لشعب بلا أرض". يقول الرئيس الأميركي ترومن، في مَعرض مُناقشة إنشاء "إسرائيل": "لقد أخَذنا فلسطين على جرعات صغيرة. لا يمكن إخراج خمس أو ست ملايين شخص وملؤها دفعة واحدة..." (موقع سنوبس). تلك العبارة تذَكّرنا بما يصدر اليوم على ألسنة المسؤولين الأميركيين أو الغربيين؛ فبإمكان الصهاينة أن يقتلوا الشعب الفلسطيني، ولكن بصمت وبدون وسائل إعلام. كما بإمكانهم أن يُدَمّروا ويُهَجّروا، ولكن بإعطاء مساعدات إنسانية. وهكذا يتم تحويل القضية الفلسطينية من قضية شعب يُباد ويُنزع من وطنه إلى قضية مُهَجّرين، يجب توفير الدواء والطعام لهم.
- لقد استغلّ الصهاينة أينما استغلال، حوادث عنصرية مُنفردة، كانت أغلبها كردّات فعل على عنصرية اليهود أنفسهم، رغم أنه لا يجب التعميم. فهناك الكثير من اليهود المُنصفين على مستوى العالم. ومع ذلك، فإن الخوف عند الغربيين خاصّة، والذين رَوّجوا لحقوق الإنسان، من أن يُتّهموا بمُعاداة السامية، حالَ بينهم وبين انتقاد انتهاك الصهاينة للقوانين والأعراف وارتكابهم الجرائم.
- كذلك تمّ استغلال ما سُمّي بالهولوكوست، رغم أن السعي لإقامة دولة يهودية استعمارية استيطانية في فلسطين، والتأسيس لها سياسياً وقانونياً، كان سابقاً للحرب العالمية الثانية.
- سَخّرت الحركة الصهيونية وداعموها العالم بأكمله لخدمتها، ما عدا عدد قليل من الدول التي اتّخذت مواقف شريفة مع الحقوق الفلسطينية، ودفعت مُقابل ذلك أثماناً باهظة على مستوى أمنها واستقرارها ورفاه شعوبها. كما كانت أجهزة الاستخبارات الإسرائيليّة تُقدِم على اغتيال أي شخصية تتكلّم عن حقوق الشعب الفلسطيني. بل هي لجأت للتآمر وخلق الفتن الداخلية من أجل تغيير الأنظمة التي لا تُناسبها. لقد بدَت "إسرائيل" وكأنها تحكم العالم من خلال ارتكابها الجرائم وإفلاتها من العقاب.
- عملت "إسرائيل" على ضرب أي تقدّم أو تطوّر حضاري في البلدان المُجاورة؛ فاغتالت العلماء، واستهدفت مراكز البحث العلمي، والثقافي، والإنتاجي، والمفاعلات النووية.
- لجأ الكيان الإسرائيلي، قبل وبعد إقامة "الدولة"، للاحتيال والكذب والخداع. وهو مارَس ذلك مع الأمم المتحدة، وفي اتفاقيات ما سُمّي السلام، وفي اتفاقيات التطبيع، وفي المفاوضات والحروب التي حصلت. لم ينتصر الكيان يوماً بقوّته، بل بخداعه، واعتماده على الدعم غير المحدود الذي يتلقّاه من الحكومات الغربية المُساندة، وخاصة بريطانيا والولايات المتحدة.
ثانيًا: "إسرائيل" وقَلَق المشروعية أو قَلَق الوجود اليوم
ما ذكرناه أعلاه، أوضح أن "إسرائيل" بُنِيَت على باطل، في نظَر القانون الدولي، أو يمكن تشبيهها بجسد يحمل علّة موته. وما حصل في 7 أكتوبر هو كشف الغطاء عن التضليل الذي عاش فيه العالم طيلة 75 عاماً، حيث لم تعد تُقنع المُبَرّرات، ولم تعد تنفع المُسَكّنات. وبالتالي، يُطرح اليوم بقوّة موضوع شرعية أو مشروعية (legitimite, legitimacy)، الكيان الصهيوني، ليس بالنسبة لأصحابه أو رُعاته، لأنهم يعرفون الحقيقة، بل أمام الرأي العام العالمي، خاصة الأجيال الجديدة، من ناشطين اجتماعيين وسياسيين، وطلّاب جامعات. لقد بدأ البحث عن الحقيقة، وعن المعلومات من مصادر أخرى غير مصادر العدو، ولوبيّاته في العالم، والتي أصبحت مُتاحة بسهولة لكلّ مُستخدِم لوسائل البحث الحديثة، كمُحَرّكات غوغل، وياهو، وأسك، وإيكوزيا، وشات جي بي تي، والتي تُعطي في لحظة كلّ ما يَسأل عنه الباحث.
غير أن ما حصل مؤخّراً، تجاوز المعرفة والصدمة، إلى مواقف رسمية من قِبَل أنظمة مُساندة بشدّة للكيان الإسرائيلي، وُمدافعة عنه بشراسة. كيف لا وهو امتداد للاستعمار الغربي، والوحيد الذي لا زال صامداً بكلّ تجلّيات الاستعمار التقليدي الاستيطاني، الاقتلاعي، الإحلالي، العنصري، بعد سقوط نظام الأبارتايد في جنوب إفريقيا. فهل يحق لإسرائيل التي لا يُفارقها قَلَق المشروعيّة أن تقلَق على وجودها؟ وما أهميّة تغيّر الرأي العام العالمي وتأثيره على وجود الكيان الإسرائيلي؟
1 - لماذا تَغَيّر الرأي العام الغربي بالنسبة للعدوان الإسرائيلي على غزة؟
إن طَرح السؤال حول مدى تأثير تغيّر الرأي العام العالمي والغربي تحديداً على مشروعيّة أو حتى وجود الكيان الإسرائيلي، هو طَرح مُحِق ومُهم؛ ولكن لا بدّ من وضع الأمور في نصابها، والتمييز بين تغيّر المزاج وبين تغيّر النيّة فيما يتعلّق بهذا الشأن، خاصة وأنه بالأمس وصلت طائرة مُحَمّلة بالأسلحة إلى الكيان.
طبعاً، لو لم يحدث "طوفان الأقصى"، وما أعقَبه من إجرام العدو، وانكشاف أوراقه تماماً، لما تغيّر الرأي العام العالمي. فبعد 75 عاماً، قلَب "طوفان الأقصى" الطاولة على رأس الجميع؛ هل قال مُقاتلو "القسّام" حين قرّروا الانطلاق في "الطوفان": "عَلَيّ وعلى أعدائي يا رب"؟ أظنّهم قالوا ذلك.
لقد كتَبنا في بدايات "الطوفان"، أن حرب غزة لو لم تحدث كان يجب العمل لإحداثها؛ ولكن كيف ومتى؟ هنا السؤال الكبير الذي سيبقى مُلتَبس الجواب، سواء من حيث أن التنسيق داخل محور المقاومة كان يجب أن يكون على أتمّه، أو فيما يتعلّق بالجهوزية والسريّة والحذَر. وكتَبنا في مقال آخر، أنه حتى لو لم يُنتج "طوفان الأقصى" إلّا مُظاهرات طلّاب الجامعات، وحركات شعبية في الغرب، لكان هذا كافياً. وفي مقال ثالث، كتَبنا عن "إسرائيل" وقلَق اللص، إلى آخره.
واليوم نؤكّد على كلّ ذلك، انطلاقاً من أن القانون الدولي، في البيئة السياسية الدولية الواقع فيها، وتعطيله من قِبَل الدول المُهيمنة على القرار الدولي، تكمن قوّته في الرأي العام الدولي. إن "طوفان الأقصى"، رغم الردّ الصهيوني الهمجي الإجرامي، جاء ليجعَل العيون العمياء تُبصر، والآذان الصمّاء تسمع، والقلوب التي جمّدتها الدعاية الصهيونية، تعود نابضة رحمة وإنصافاً، والفكر الخامل ينتفض للحق، بعد أن جعَله التضليل الصهيوني لا يهتدي إلى الصراط المستقيم، ولا يُمَيّز بين الإرهاب والمقاومة، ولا بين الدفاع الشرعي عن النفس وجريمة العدوان، ولا بين الاحتلال وتقرير المصير، ولا بين الشعب الأصلي والشتات الأجنبي الذي استُدعِي على عجل لاستيطان البلاد والحلول محلّ شعبها. فكيف حصل كلّ ذلك؟
- إن "طوفان الأقصى"، وما مَثّله، كان خَرقاً غير مسبوق في تاريخ الكيان، الذي غُزيَ في "عقر داره"، وانتُهكت "سيادته"، وبانَ أنه أوهن من بيت العنكبوت فعلاً؛ وهنا للحديث بقيّة. وكانت الوسائل الغريبة التي استخدمها المُقاومون، والتي جعَلت المسألة أشبه بفيلم سينمائي، ما جَذَب المُشاهدين لمُتابعة ما يحصل، وخاصة جمهور الشباب، وطَلَبة الجامعات والمُثَقّفين.
- مَكّنت وسائل التواصل الاجتماعي كلّ من أراد أو لم يُرد، من مُشاهدة القصف والتدمير والتقتيل. وما أثّر أكثر من غيره في المُشاهدين، هو صور الخُدّج الذين قُطِع عنهم الأوكسجين، وأشلاء الأطفال، والتدافع على الطعام البائس، والموت جوعاً، وتَشرّد الآلاف في شوارع ومدن غير معروفة المعالم، وانهيار الأبراج في لحظة عين، وتدمير المستشفيات على رؤوس المرضى والأطبّاء، وتجميع السكّان وقصفهم في الخيام. وأظهَرت الأقمار الاصطناعية مدى الدمار الهائل لقطاع غزة، الذي كان منذ وقت قصير، عامراً حضارياً، ويعج بالحياة. وأدرَك العالم مدى وحشيّة العدو وهمجيّته.
- قرّر العدو أن تكون هذه معركته النهائية، واعتبرها معركة وجود، فحشَد لها كلّ إمكاناته، واستحضَر رئيس وزرائه كلّ ما استطاع من عبارات تلمودية للتبَرّك ببعضها، أو لتبرير جرائمه ببعضها، أو لتحديد مسارات توسّعه ببعضها الآخر. وها هو نتنياهو يقول البارحة: "نُريد المُحافظة على الأرض وحمايتها لأهميّة وجود دولة تحمينا ونحميها. علينا الحفاظ على هذه الدولة، ومن يأتي إليها يُدرك أهميّة ذلك جَيّداً. (رصد الإعلام العبري، 25/5/2025،).
- تَعنّت العدو، وتصميمه على التدمير والإبادة والتهجير، وراءه هدف استراتيجي جعَله غير مُكترث لرهائنه أو أسراه عند الفصائل الفلسطينية؛ وهو قد أباح قتلهم، بإحياء قانون هنيبال. لقد هانَت على نتنياهو كلّ الأهداف مُقابل تحقيق الهدف الذي سيُدخله التاريخ من بابه الواسع، وهو تثبيت وجود الدولة اليهودية في أرض الميعاد، وفقاً لكتابه: "مكان تحت الشمس"، ولكلّ تصريحاته ومواقفه وإجراءاته المُتّخذة على صعيد مُمارسته لصلاحيّاته الإدارية، حيث يبحث عن لفيف حكومي مُتجانس معه ليُمَرّر مخطّطه، كما على صعيد تَفرّده بقرار الاستمرار في حرب الإبادة والتهجير والتجويع. وبذلك يتحوّل نتنياهو من حاكم فاسد مُجرم ومُلاحَق دولياً، إلى بطَل قومي.
المُلفت للنظَر أن الكيان الصهيوني كان يرتكب الجرائم، ولكن يفتعل الذرائع التي يَسوقها كحجج لتبرير ما قام به من عدوان أو إجرام. أما اليوم، فلم يعد يكترث، وأصبح يُجاهر علَناً بأنه سيستمر في حرب التجويع والإبادة مهما كَلّفه الأمر، وأن مخطّطه يعتمد على إخلاء القطاع من سكّانه، وأنه سيعتمد أساليب الاغتيالات والتجويع، والتدمير والتهجير، في قطاع غزة، وأينما طالت "يده الطويلة"، خاصة في الضفة الغربية، في ظلّ صمت وتعتيم مُطبق، دون خجل من السلطة التي تربطه بها اتفاقية تنسيق أمني؛ وفي لبنان، حيث احتال نتنياهو في اتفاق استغلّه كي يصبح حراً في عدوانه، بينما تمّ لجم المقاومة. وقد شهدت عواصم ومدن الكثير من الدول، خاصة الدول الغربية، التي تُعرَف تاريخياً بمُساندتها لإسرائيل، مُظاهرات عارمة، تُنَدّد بالجرائم المُرتكَبة من قِبَل العدو؛ وعلى النقيض من ذلك، لاذَت حكومات تلك الدول بالصمت، بعد أن جاءت على عجل مُمَثّلة برؤسائها، بدءاً بالولايات المتحدة وفرنسا وبريطانيا وألمانيا، لكي يستنكروا ويدينوا عملية طوفان الأقصى، ويَصفونها بالهمجيّة والإرهاب، ويعطوا حكومة الاحتلال صكوكاً على بياض كي ترتكب ما تشاء ضدّ غزة وشعبها ومُقاوميها، حيث تلقّت "إسرائيل" 800 ألف طن من الأسلحة (نُشِر هذا الخبر في 25/5/2025).
- أجبَرت المشاهد القاسية التي بدأت تَرد من غزة؛ كذلك تحرّكات الطلّاب والناشطين السياسيين رغم قمعها، تلك الحكومات على أن تتحرّك بخجل؛ وكان كلّ ما طالبت به أوّل الأمر هو إدخال المساعدات الإنسانية، ووقف التجويع. لم تتطوّر مواقف تلك الدول على الصعيد الرسمي إلّا بعد 19 شهراً من بدء المجزرة الإسرائيليّة في غزة.
2 - ما أهميّة تغيّر الرأي العام الغربي على مشروعيّة الكيان؟
نصل أخيراً إلى بيت القصيد؛ هل أن تغيّر المزاج في الغرب سيؤثّر على مشروعيّة دولة الاحتلال؟ طبعاً، من يَطرح مثل هذا الموضوع يعرف أن وجود الكيان مُرتبط بالدعم الغربي والمساندة بدون حدود له، لأن الكيان هو أصلاً فعل استعماري غربي؛ وثانياً، بسبب تأثير النفوذ الصهيوني في الغرب. وقد تطرقنا إلى بعض المؤشّرات سابقاً. وفي ظلّ عدم إمكانية القضاء عليه، من قِبَل المقاومة وحدها، ما دامت الأنظمة العربية مُتخاذلة، وتقوم بما يُمليه عليها الإمبراطور الأعظم، يكون مقتل "إسرائيل"، إما بتفكّكها من الداخل، أو بتخلّي الغرب عن دعمها، فتتمكّن المقاومة من الانتصار عليها، وتتمكّن الأمم المتحدة من نزع الشرعية عنها، لكلّ الأسباب القانونية التي سبَق ذكرها. من هنا، يأتي قلَق المشروعيّة، أو قلَق الوجود لدى الكيان؛ ومن هنا، تأتي أهمية تخلّي الغرب عن دعمه؛ ومن هنا، تأتي أهميّة تقييم المواقف المُتفاوتة التي اتّخذتها 17 دولة أوروبية، بالإضافة إلى كندا، وانضمّت ألمانيا أيضاً. وعليه، لا يمكن الكلام عن رأي عام غربي على نفس المستوى أو من ذات الطبيعة. فبينما يمكننا أن نتكلّم عن رأي عام جماهيري مُتمثّل بطلّاب الجامعات والناشطين السياسيين والاجتماعيين، وهو صادق وواضح؛ نجد أن موقف الأنظمة، إلّا قلّة منها، هو موقف مُتذبذب إن لم نقل مُنافق. ومع ذلك، فإن المواقف الأخيرة للاتحاد الأوروبي مُجتمعاً و17 دولة أوروبية، ومن بينها دول رئيسية كبريطانيا وفرنسا وإيطاليا وألمانيا، بالإضافة إلى كندا، تُعتبر مواقف متقدّمة وجريئة، ونذكر على وجه الخصوص موقف إسبانيا وإيرلندا.
وهنا يجب التمييز بين مضامين الآراء التي يتم الإدلاء بها. فبينما يركّز الرأي العام الشعبي أو الجامعي على منع الإبادة في غزة ووقف الحرب وتحرير فلسطين، وتجريم القادة الصهاينة، يتقلّص مضمون ما يُصَرّح به القادة والمسؤولون الغربيون، ولا يتعدّى غالباً إدخال المعونات الإنسانية، وإيقاف القتل والتهجير؛ ثم يرقى أحياناً للتلويح بوقف الشراكة، أو وقف تصدير الأسلحة، أو فسخ بعض الشراكات، وصولاً إلى الاعتراف بالدولة الفلسطينية، ومُساندة حلّ الدولتين؛ عِلماً أنه لا نعرف على أيّة أرضيّة يمكن أن يُطرح هذا الحل، وقد تآكلت أرض الدولة الفلسطينية التي حَدّدها قرار التقسيم 181 لعام 1947.
ثم يأتي التوقيت؛ فهل هذه الدول التي تحرّكت اليوم تحرّكاً خجولاً، كانت تغط في سبات لأكثر من 19 شهراً من عدوان همَجي على الشعب الفلسطيني، لم يُبق حَجراً ولا بَشراً، ومُنتهكاً كلّ المُحَرّمات؟
هل أنهم علِموا بقرب انتهاء "المهمّة" في غزة، وحتى في الضفة، وربما في الإقليم، فتقدّموا بموقفهم كي لا يخجلوا من شعوبهم ومن التاريخ؟ أو هل أنهم نَزعوا عنهم رداء الخوف، حين رأوا أن الرئيس الأميركي الحالي قد تجاهل الحكومة الإسرائيلية في كثير من المواقف أو القرارات، فتفاوض مع "حماس" وحَرّر الأسير الأميركي، وزار دول الخليج، ولم يأخذ مُباركة الكيان قبل ذلك، أو تفاوض مع "أنصار الله"، وترَك "إسرائيل" تقلع شوكها بيديها، أو أكمَل السير في المفاوضات مع الإيرانيين، دون اهتمام بالتحذير والتهديد الإسرائيلي؟ ولكن هل كانت مواقف ترامب حقيقية، أو أنه فعل ذلك قبل زيارته إلى الخليج لجمع الجزية. في 25/5/2025، نشَر الإعلام العبري خبَراً يفيد بطرد عدد من المسؤولين المؤيّدين لإسرائيل من مجلس الأمن القومي الأميركي، بمن فيهم إريك نارجر، الذي أشرَف على شؤون الشرق الأوسط وإسرائيل، وميراف سيرين، مديرة شؤون إسرائيل وإيران؛ فهل في ذلك مؤشّر ما؟
ثم تأتي أهميّة المواقف الأوروبية من حيث هي كذلك، أي من حيث أن تلك الدول هي "أم الصبي". فبريطانيا هي الحضن الأكبر للكيان، كانت ولم تزَل، حتى إشعار آخر؛ وكذلك فرنسا لعبت دوراً خبيثاً في حكاية الكيان. ويَنْجَرّ ذلك على أغلب دول الاتحاد الأوروبي، خاصة بعد أن توسّع هذا الاتحاد إثر انهيار دول المعسكر الاشتراكي، حيث كان كثير من دوله مُناصراً للحق الفلسطيني.
ولا بدّ في المحصّلة من الإشارة إلى التقييم المختلف للباحثين. فمنهم من يُهَلّل لهذا التغيير في المواقف الغربية، ومنهم من يعتبره تضليلياً وانتهازياً. والحقيقة أن كلّ الأمور يجب أن توزن بميزان دقيق. ويجب أن نذكر في هذا الإطار أن خطوات قانونية وقضائية مهمّة اتّخِذت على الصعيد الدولي مؤخّراً لصالح الشعب الفلسطيني، كقرار محكمة العدل الدولية بشأن الاحتلال، وتوصيف النظام بالعنصري، ودعوى الإبادة الجماعيّة، وقرار المحكمة الجنائية الدولية التي تتّهم رئيس وزراء العدو وقائد جيشه غالانت بجرائم حرب. وقد احتَرمت أغلب دول العالم قرار المحكمة الجنائية الدولية، بما فيها الدول الأوروبية، باستثناء المجر؛ وأن أكثر 149 دولة قد اعتَرفت بالدولة الفلسطينية.
إن تَراكم قرارات من هذا النوع أمر ذات أهميّة كبيرة في تقرير مصير دولة الكيان، والدولة الفلسطينية. وعسى أن تكون نهاية الكيان كنهاية النظام العنصري في جنوب إفريقيا، وأن يتطوّر الاعتراف بدولة فلسطين على كلّ الأرض الفلسطينية. ويَبقى أن ننتظر ما الذي سَيَتمخّض عنه المؤتمر الذي دعَت إليه السعودية بالتعاون مع فرنسا من أجل حلّ الدولتين، في منتصف شهر يونيو/ حزيران 2025.
خلاصة
يمكن القول إن الكيان الإسرائيلي كان دائماً لديه قلَق حول المشروعيّة، لسبب بسيط، وهو أنه أساساً غير شرعي بمقياس القانون الدولي؛ ومؤسّسوه، قبل قادته ومسؤوليه، يعرفون القانون، ويعرفون حقيقة كيانهم. من هنا ينبع قلَق المشروعية لديهم أو قلق الوجود لدولتهم، ويعرفون أنهم مهما دَبلجوا من أكاذيب وتشبيك مع التاريخ القديم، ومهما احتالوا اليوم وأجرموا، فلن يستقيم ذلك مع مبادئ حق الشعوب في تقرير المصير، والسيادة والاستقلال على أرضها التي تُقيم عليها، وليس حق المستوطنين الذين يُجلَبون إليها، وحق الشعوب في التحرّر والمقاومة؛ وأنه مهما ارتكب المحتل من جرائم، ومهما مارس من فصل عنصري، فقانونياً لا يصح إلّا الصحيح، وأنه ومن يُسانده لا يُمكنهم الاستناد إلى قرارات حتى لو كانت دولية، إذا اتّخِذت وكانت مُخالِفة من حيث المضمون لمبادئ القانون الدولي، والتي تُجَرّم الاحتلال، وتعتبره عدواناً. من هنا، ينبع اهتمام "إسرائيل" للاعتراف بها من قِبَل البلاد العربية، وخاصة من قِبَل الفلسطينيين؛ ومن هنا، يظهر مدى خطورة الاتفاقيات التي تُعقَد تحت مسمّى التطبيع أو العلاقات الدبلوماسية، أو اتفاقيات السلام، والتي ترمي من قِبَل العرب لاعتماد حلّ الدولتين؛ ولكنهم يَتناسون بذلك أنهم يجعلون من دولة المستوطنين الأساس، ومن الشعب الفلسطيني الثانوي. لذلك يتجرّأ الغرب، ويزعم أن كلّ ما يحصل للشعب الفلسطيني من انتهاك لحقوقه وسيادته على أرضه، مُجَرّد مُخالفات للقانون الدولي الإنساني أو حقوق الإنسان، ويتناسى أن قيام دولة الاحتلال هو بحدّ ذاته انتهاك للمبادئ الأساسية للقانون الدولي العام. ومن هنا، يكون قلق المشروعيّة في الأساس قد تضاعف مع "طوفان الأقصى"، وأصبح راهناً في أذهان المُحْتَلّين.
إن قلَق الوجود لن يُفارق المحتل ما دام لا يمكن تشبيهه إلّا بعصابة من اللصوص التي استولَت على بيتٍ بكلّ ما فيه، بعد أن طرَدت سكّانه، وقبَعت في داخله، وهي تظن أنه طالما أن الجيران مَرعوبين من فعلها، ولا يتحرّكون، فهي تتمتّع بالبيت؛ ولكنها لا تنفك تفكّر باليوم الذي سيَعود فيه صاحبه، ويستفيق فيه الجيران، ويطردونها خارج المنزل والحي. ولكي نكون مُنصفين بحق الغير، صحيح أن الولايات المتحدة والدول الأوروبية دعَمت قيام "إسرائيل" وسانَدتها في عدوانها حتى أيّامنا هذه، ولكن الصحيح أن الغير لا يمكن أن يكون مَلَكياً أكثر من الملك. فالأنظمة العربية قد استهانت بحق الشعب الفلسطيني، واتّخذت مواقف مُتخاذلة جداً. وكان بإمكان تلك الأنظمة، وإن لم تكن تريد أن تَنخرط بحروب، أن تَتّخذ مواقف فعّالة، وهي تمتلك المال والنفط، وتسيطر على المَمرّات المائية الدولية المُحاذية لها، كان بإمكانها بدَل أن تَتسوّل الحماية، وتُساوم على حقوق الشعب الفلسطيني، أن تُغدق بأموالها لأعدائها مُقابل الحصول على حقوق. بدَلاً من ذلك، هي آثرت النأي بالنفس حتى لا نقول تآمرت على حركات المقاومة، ونسّقت أمنياً واستخباراتياً مع العدو، واستَعْدَت الدول التي ساندت حركات المقاومة والتحرير.
لقد أخجَلت مواقف الأنظمة العربية التاريخ والجغرافية العربية وحتى الدولية، وأيأست شعوبها. ونستطيع القول هنا إن مواقف الدول العربية الموصوفة بالمعتدلة هي من جرّأت غيرها من الدول أن تُهادن الإجرام الصهيوني في فلسطين.
إن مصير فلسطين لن تحسمه المحطّات القاسية، ولا الانهزامية، ولا التذاكي في استبعاد المؤامرة، بل ستَحسمه الأجيال؛ والتعويل هو على اعتماد جميع الوسائل الممكنة لاستعادة الحقوق المغتصبة، وأيضاً على تغيّر الرأي العام الدولي، ومراكز اتّخاذ القرار، بالإضافة إلى انتكاسة داخلية في الكيان المحتل.
أخيراً، يجدر التذكير أن هناك الكثير من المُفكّرين اليهود الذين يصفون "إسرائيل" بعدم الشرعيّة ويُناصرون الحقوق الفلسطينية، وهناك عدد من المسؤولين الإسرائيليين أنفسهم، الذين بدأوا يتكلّمون عَلَناً عن ارتكاب "إسرائيل" جرائم، كرئيس الحزب الديموقراطي غولان، وإيهود أولمرت وإيهود باراك. والبارحة، وقّع أكثر من 1000 أكاديمي ومسؤول في "إسرائيل" على عريضة تدعو إلى وقف الحرب" (قناة 12 العبرية). ونختم بما نُشِرَ في "هآرتس" مؤخّراً: إن "إسرائيل" تسير في طريق الانتحار الصامت، لا بسبب عداء خارجي مباشر، بل نتيجة عزلة دولية مُتنامية وصمت حلفائها التقليديين". ولعلّ هذه من نتائج "طوفان الأقصى"، رغم كلّ الدمار والتضحيات.
2025-06-02 13:55:29 | 105 قراءة